فتنة القول بجواز الاختلاط (1/2)
لقد أظهرت الفتنة رموزاً من أعلام المشايخ والعلماء سطَعت نجومهم، وأشرقت شموسهم، ووقفوا بعزّةٍ وإباء كما يجب أن يكون العالم وطالب العلم الصادق الناصح لأمّته ووطنه، فقد رفضوا تلك الخطوات التغريبيّة جملةً وتفصيلاً، وكانت ممانعتهم سدّاً منيعاً حال دون رضا النّاس عن تلك المشاريع فلم تغرّهم الزخارف والشخوص، ولم يبالوا بثمن الصدع بالحقّ، حيث ضحّى البعضُ بمنصبه، والآخر بعرضه حيث وَلَغ فيه المنافقون.
الحمد لله ربّ العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على البشير النذير، نبيّنا وعلى آله وصحابته ومن استنّ بسنّته إلى يوم الدين.. أما بعد:
فلقد سطّر التاريخ بمدادٍ من نور على صحائف الزبرجد والزُّمرّد قصة البذل والجهاد والتضحية؛ التي كان بطلها الأوّل (والأوحد) هو: إمام أهل السنّة والجماعة (الإمام أحمد بن حنبل) نوّر الله مضجعه؛ إبّان فتنة القول: "بخلق القرآن".
فقد عاش النّاسُ مُجريات الأحداث خلال تلك السنون من القرن الثالث الهجري، عاشوا محاولاتٍ لفرض عقائد يُراد بها نقضُ عرى الإسلام الصحيح، وتطبيعِ العقائد المخالفة في قلوب الناس حينذاك، ولكنّ الله تعالى شاء أن يبعث للأمّة من يحفظ عليها أمر عقيدتها -وهي أعظم ما تملك- فسخّر قلب الإمام الهمام (أحمد بن حنبل) ليثبت حينها، ويثبّت الله به قلوب المؤمنين، فكان ما لا يخفى على شريف علمكم من ثباتٍ ورسوخٍ كالجبال الراسيات:
فثبَير ذُو الشُّرُفات لا متزلزلٌ *** لعواصفٍ مرّت ولا متهدّدُ
سأتجاوز هذه الصفحة المشرقة مع رغبتي بأن تكون الصورة الناصعة؛ لمواقف أئمة الإسلام وعلمائه الكرام إبّان الفتن المدلهمّة، والنوازل المهمّة، حاضرةً في أذهانكم لنستذكرها سويّاً، ونقارنها بما نعايشُه في حاضرنا !
أيْ معاشر الكرام:
ها هو التاريخ يعيد نفسه، وتتكرّر الأحداث، لكن باختلاف القضايا والشخوص، مع فارق التوقيت -طبعاً- فعندما أُريد لبلادنا أن تعيش نمطاً من أنماط التغريب ووسيلةً تخريبيةً لتنفيذه؛ عاشت البلادُ حالةً من الحراك العلميّ، والصراع الفكري، ومجموعةً من الأحداث التي تمازج فيها المؤثّر السياسي والشعبي، والخارجي والداخلي، والإصلاح والإفساد بين (دعيٍّ له، وداعٍ لمحاربته)، وعندما فُرض هذا النمط التغريبي -الاختلاط- في جامعة (كاوست) وبعض المدارس الأهليّة بمُباركة حكوميّة، وحفاوةٍ إعلامية، ومعارضةٍ شرعيّة، وتسويغاتٍ خيانيّة، تباينت مواقف النّاس وانقسمت إلى خنادق وأحزاب، سيسطّر التاريخ تلكم المواقف جميعاً، وسينال كلٌّ حقّه من الإجلال والإكبار، أو اللعائن والشتائم! أو من سيطوي التاريخ صفحته خالية الوفاض، لم يعطّرها بصدعٍ بالحقّ، أو يدنّسها بصدعٍ للحقّ (بينهما فرقٌ لطيفٌ؛ فتأمّل).
وكان انقسامُ الناس على مواقف: موقف الخيانة والغدر.
كان هذا هو موقف رويبضات الصحافة، ومراهقي الكتابات الورقية، حيث طبلوا وهللوا واستبشروا، بهذه المكاسب التي سُجلت في رصيدهم، إذ دعاة الشهوات، وأدعياء (التنوير والتطوير والتحرير... إلخ) يفرحون بمثل هذه الخطوة التي طال انتظارهم لها، وكان هذا هو الوقت الأنسب لتنفيذها، ونحنُ حينما نقول هذا الكلام؛ لا نعتقد العصمة في ولاة أمرنا علماء أو أمراء، كما هم لا يعتقدون ذلك في أنفسهم، وشاهده: ما يردّده رأس الهرم السياسي (خادم الحرمين الشريفين) من طلب النصيحة، وعدم البخل بالمشورة، فعندما نجد من يصفّق لتلك الخطوات التغريبية، التي -والله- لا يفرح بها سوى أعدائنا -كما نبّه على هذا خادم الحرمين في خطابه الأخير أمام مجلس الشورى- وينعدم عندها من كتّاب الصحف ذلك الصوت الصادق الغيور، الذي يمتلئ قلبه غيرةً وحميّة؛ على أعراض المسلمين، وفتيانهم وفتياتهم، ثمّ هو لا يراعي دستور البلاد المحكّم لشريعة الله وكتابه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم.
وهو مع هذا يستعدي برعونةٍ وغدرٍ، وسوء نيّةٍ وطويّة؛ ويستجلب قرار السياسي لفرض الرأي وتكميم الرأي المخالف، إن لم يكن هذا كلّه -وما سطرته راعيت فيه الاختصار ما أمكن- خيانةً وغدراً، وبيعاً رخيصاً لأعراض الأمة وحرمتها، وتتميماً لمشاريع سعى فيها أعداؤنا، وسيراً حثيثاً وراء صيحاتهم.. فماذا يمكن أن يكون يا تُرى؟!
موقف العار والخذلان:
مما يُؤسف له ويتكدّر له الخاطر، ويتألّم له الفؤاد أن ينبري لتبرير هذا المنكر العظيم -المتفق على تحريمه- وتسويغه للنّاس، وإضفاء الشرعيّة على هذه الخطوة التغريبية، ثُلّة ممن يُحسب على أهل العلم، فنجده يستميت في دفاعه عن قرار السياسي، وكأن الله قد عصمه! إن المُريح في حقيقة الأمر أن هؤلاء الثُلّة قد سقط -أو هو ساقط- رأيهم عند عامّة الناس، وإن كانت هي القشّة التي تعلّق بها رويبضات الصحف، وكم هو والله موقفٌ مخزٍ سيكون بصمة عارٍ على جبين أولئك؛ لن يذكرون إلا مقرونةً أسماؤهم بتلك الخزية!
ولا والله، ما نقول هذا شماتةً أو تعريضاً بأحد، ولكنً أمانة الحرف تستوجب ذكر هذه الحادثة؛ بتجرّدٍ ومصداقيّة، مع إنزالٍ للنّاس منازلهم، وأقول لأولئك: تذكّروا موقف العرض على الله، يوم يقف الجميع في محكمةٍ القاضي فيها هو الله، والشهود قلبُ كلٍّ وجوارحه، والصحائف تعرض، والموازين تُنصب.. ما تُغني حينها المناصب والوزارات والهيئات والألقاب والأصحاب.. إلخ، ستفنى كلّ هذه لتقف وحيداً مع ما قدّمته يداك، وكما قيل: "يداك أوْكتا وفوك نفخ".
موقف الإباء والممانعة:
لقد أظهرت الفتنة رموزاً من أعلام المشايخ والعلماء سطَعت نجومهم، وأشرقت شموسهم، ووقفوا بعزّةٍ وإباء كما يجب أن يكون العالم وطالب العلم الصادق الناصح لأمّته ووطنه، فقد رفضوا تلك الخطوات التغريبيّة جملةً وتفصيلاً، وكانت ممانعتهم سدّاً منيعاً حال دون رضا النّاس عن تلك المشاريع فلم تغرّهم الزخارف والشخوص، ولم يبالوا بثمن الصدع بالحقّ، حيث ضحّى البعضُ بمنصبه، والآخر بعرضه حيث وَلَغ فيه المنافقون، وطارت بأخبار ممانعاتهم الرّكبان، وكتب الله لها قبولاً شكره النّاس من كلّ جنسٍ وسنّ، ويكفيهم قبل ذا شكرُ ربّ العالمين؛ فلقد رفع الله ذكرهم، وأشْهَر محاسنهم، وأذاع مآثرهم، حين طُمست مآثرُ قومٍ قديمات (شكرها لهم النّاسُ حينها ونسوها حين سوّدوا تاريخهم بتلك الخزايا).
إن ممّا أثلج الصدر، وأبهج الخاطر هو أنّ رحم الأمّة لم يعقم عن ميلاد الصالحين الناصحين الصادقين، الذين تشكر لهم الأمّة تحمّلهم لأواء الحقّ وثقله، وما يجابههم من ولوغٍ في أعراضهم، وتهجّم صارخٍ لم يكن له أن يحدث لو اقتعد أحدهم منزله، لازماً منهج السلامة، مضحّياً بسلامة المنهج؛ فلله درّهم، ولا أخلا تراب أرضنا من مواطيهم، وجميل ذكرهم، وطيب فعائلهم..
الشريحة الصامتة:
بين هؤلاء جميعاً شريحةٌ صامتةٌ، اكتفتْ بمتابعة السجال الفكري والحراك الثقافي، تشكر أحد الفريقين أو تلعن إحدى الطائفتين، وإن كنتُ لا أشكّ أن الجمهور الصامت الممانع هو الشريحة الكبرى والطائفة العظمى، ولكنّ دعم السياسي وسلطته الرابعة، كانت أضخم بعشرات المرات من واقع الناس المُعاش.. ولعلّ لسان الحال يهتف:
قرآننا يسمو بنا أن نستكينَ ونرقُدَا *** فبه حفظنا مجد أمتنا فلم يذهب سدى
هذي الربوع به غدت خصباً وبلبلها شدا *** قل للذين يعولمون الــفكر عولمة الردى !
ويقلدون المارد الــغربيّ فيما أفسدا *** أو يوهنون على النــفوس سلوكه المتمرّدا
يا ويلكم كيف اتخذتم في المسير المرقدا؟!
يا ثاغياً يا أرمدا أتحبّ أن يبقى ظلام الليل فوقك سرمدا؟!
عجباً لوهمك كيف غطّا حسّك المتبلّدا؟ *** أتظنّ أن تقدّم الإنسان أن يتمرّدا؟!
اعلمْ بأنّا لا نريد سوى العقيدة مورداً
أضع اليراع عند هذا الحدّ، وسأعود بإذن الله في مقالةٍ أخرى أُلخّص فيها الدروس والعبر المستفادة من هذه الفتنة؛ والتي وسمتُها بـ(فتنة القول بجواز الاختلاط)
وأسأل الله تعالى التيسير والتسديد، وأن يجعل هذه السطور شاهداً على صفحةٍ من تاريخ أبناء الجزيرة، والله تعالى هو الموفّق والمعين.
محمد بن عبد الله البقمي
- التصنيف: