لنْ ينْفًعَ حَذَرٌ مِنْ قَدَر
كثُرت التحليلاتُ لتردُّدِ قائدِ الانقلابِ الدمويِّ في التقدُّمِ بالاستقالةِ من وزارة الدفاع للترشُّحِ للرئاسةِ، حتى إنَّ لجنةَ الانتخاباتِ تُعلِنُ موعدَ اجتماعها لإعلانِ فتحِ بابِ الترشُّحِ، ثم تؤجِّلُ مرةً بعد مرةٍ، في انتظارِ القرارِ النهائيِّ من الزعيمِ الذي حصل على ما اشترطه من تفويضِ (جيشِه) وتفويضِ المفتونين من (شعبِه)، ومع ذلك يتردَّدُ ويتقدَّمُ ثم يتراجعُ ثم يتقدَّمُ ثم يتراجعُ، وأخيرًا.. قام بإجراءِ بعض التغييراتِ في قيادةِ (جيشِه)...
1- {إن اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف من الآية:52]:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَنْ والاه.
وبعد؛
فقد كثُرت التحليلاتُ لتردُّدِ قائدِ الانقلابِ الدمويِّ في التقدُّمِ بالاستقالةِ من وزارة الدفاع للترشُّحِ للرئاسةِ، حتى إنَّ لجنةَ الانتخاباتِ تُعلِنُ موعدَ اجتماعها لإعلانِ فتحِ بابِ الترشُّحِ، ثم تؤجِّلُ مرةً بعد مرةٍ، في انتظارِ القرارِ النهائيِّ من الزعيمِ الذي حصل على ما اشترطه من تفويضِ (جيشِه) وتفويضِ المفتونين من (شعبِه)، ومع ذلك يتردَّدُ ويتقدَّمُ ثم يتراجعُ ثم يتقدَّمُ ثم يتراجعُ، وأخيرًا.. قام بإجراءِ بعض التغييراتِ في قيادةِ (جيشِه).
ويبدو أنه لا يزالُ يريدُ أنْ يُجري بعضًا آخرَ، حتى يطمئنَّ تمامًا إلى (جيشِه)، وهو ما أكَّد التكهُّناتِ والتحليلاتِ التي تقولُ: إنه يَخْشَى أن يُسْقَى من كأسِ الخيانةِ الذي يعرفه جيدًا! وينقلب (رجالُه) عليه، مثلما انقلب هو على قائدِه وزعيمِه الذي كان منتخَبًا بإرادةٍ شعبيةٍ حُرَّةٍ، ولم يأتِ عبر خياناتٍ وغشٍّ وانقلاب.
والحقُّ أنه مهما غيَّر من قياداتٍ، ومهما قرَّب من الموالين له، والمأمونين لديه؛ فلن يطمئنَّ أبدًا، ذلك {أَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} فلا يهتدِي للصوابِ، ولا يتخِذُ القرارَ الذي يحميه ويحفظُه، ولا يُفلِتُ من مكرِ الله وعقابِه، في الدنيا قبلَ الآخرة.
كيفَ والله تعالى يقول: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس من الآية:81] وأيُّ فسادٍ أعظمُ من الخيانة؟ وفي الحديث: «... » (رواه مسلم).
قال الحسن بن علي: "الأمينُ آمِنٌ، والبرِيءُ جرِيءٌ، والخائِنُ خائِفٌ، والمسيءُ مستوحِش"، ومن حكم الأحنفِ بن قيْسٍ: "إذَا لمْ تَكُنْ خَائِنًا فَبِتْ آمِنًا".
إنَّ خوفَ الخوَّانِ حقيقةٌ معروفةٌ دلَّتْ عليها كلُّ وقائعِ التاريخِ، وإفراطُ الخائنِ الظالمِ في الحذَرِ والتوَقِّي أوّلُ مواردِ الخوف؛ وذلك أنَّ خياناته تُخَيِّلُ له أنَّ الجميعَ سيفعلون معه مثلَ ما فعله مع مَنْ خانهم.
إِذَا سَاءَ فِعْلُ المرْءِ ساءَتْ ظُنُونُهُ *** وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ
والغادِرُ الخائنُ يعلمُ أنَّ المتقرِّبين منه إنما يرْجُون قضاءَ حاجتِهم منه، أو يتَّقُون شرَّه، ولا يُصَدِّقُ أنَّ فيهم مَنْ يُخْلِصُ الوُدَّ له، و"مَنْ وَدَّكَ لِأَمْرٍ أَبْغَضَكَ عِنْدَ انْقِضَائِه"، ويبلغُ الخوفُ مداه إذا امتدَّتْ يدُه بالقتلِ؛ لأنه يخشَى عندئذٍ الثأرَ، فكيفَ إذا كان هذا الثأرُ لآلافٍ من مختلفِ فئاتِ الأمةِ، وليس لأفرادٍ منهم.
إِذَا وَتَرْتَ امْرَأً فَاحْذَرْ عَدَاوَتَه *** مَنْ يَزْرَع الشَّوكَ لا يَحْصُدْ بِه عِنَبا
ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يعملَ الثقاتُ والأمناءُ مع الخوَنةِ إلا أنْ يقعوا في بئرِ الخيانةِ لهم، فمن عامَلَ الناسَ بالشكِّ وتوقُّعِ الخيانةِ بادَلَهُ الناسُ ذلك، لأن "مَنْ خافَ شَرَّكَ أَفْسَدَ أَمْرَك".
2- « » (أخرجه الحاكم في المستدرك).
من أجلِ كلِّ هذا يبالِغُ الخائنُ في الحذَرِ ويُفْرِطُ في اتخاذِ أسبابِ الوقايةِ، ويتجاوزُ حدودَ المنطقِ والعقلِ في الشكِّ فيمن حولَه، وفي التخلُّصِ من كلِّ مَنْ يُصَوِّرُ له خيالُه أنهم مركزُ قوةٍ أو يمكنُ أن يكونوا كذلك، أو يتصوَّرُ أنَّ لهم امتداداتٍ يمكنُ أن تهدِّدَ وجودَه أو مطامعَه وطموحَه ومصالحَه يومًا ما، لكنَّ الحذرَ مهما بلغ صاحبُه من الحِذْقِ والذكاءِ والمهارةِ وحُسنِ التقديرِ لا يمكنُ أنْ يدفعَ المقدورَ عن صاحبِه، وفي الحديثِ: « ».
قالت العربُ: "إِذَا جَاءَ الحَيْنُ غَطَّى العَيْنَ"، يعني إذا جاءَ وقتُ الهلاكِ الذي قدَّره اللهُ لم تُبْصِر العينُ أسبابَ الهلاكِ المحدِقةِ بها، فيقعُ في الهلاكِ وهو لا يدرِي.
وقيل: "لا يُغْنِى الحذَرُ إذا حُمَّ القَدَرُ، وإذا حُمَّ القَدَرُ دُمَّ -يعني سُدَّ- البَصَرُ، وإذا حانَ القَضاءُ ضاقَ الفَضَاء".
قيل لابنِ عباس: تقولُ: إنَّ الهدهدَ إذا نقرَ الأرضَ عرفَ مسافةَ ما بينَه وبينَ الماءِ، فكيفَ لا يُبْصِرُ شعيرةَ الفخِّ حتى يُصَاد؟ فقالَ ابنُ عباس: "إِذَا جَاءَ القَدَرُ عَشِيَ البَصَرُ".
والحقُّ سبحانه لا يُنَازَعُ، والجبَّارُ جلَّ وعلا لا يُخَاصَمُ، ومَنْ أضلَّه ربُّه لم ينفعْه تدبيرٌ، بل تدبيرُه للفرارِ من القدَرِ يُدْنِيه إلى ما قدَّره اللهُ عليه من غيرِ أن يدري، وفي الحديث: « » (رواه أحمد، والترمذي).
وَإِذَا حَذِرْتَ مِنَ الأُمُورِ مُقَدَّرًا *** وَفَرَرْتَ مِنْهُ فنَحْوَهُ تتَوَجَّهُ
- مَصْرَعُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَف:
عَلِمَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ أنَّه سيُقْتَلُ وخرجَ إلى مَصْرَعِه رغمَ ذلك، ورغمَ تذكيرِ زوجتِه له؛ فعند البخاري أن سَعْد بْن مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ لأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: إِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ، قَالَ: إِيَّايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ. فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمِينَ مَا قَالَ لِي أَخِي الْيَثْرِبِيُّ؟ قَالَتْ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّه سَمِعَ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلِي، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ.
قَالَ: فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الصَّرِيخُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَمَا ذَكَرْتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ؟ قَالَ: فَأَرَادَ أَنْ لَا يَخْرُجَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ الْوَادِي، فَسِرْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، فَسَارَ مَعَهُمْ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ".
وكانت قصةُ قتلِه عجيبةً، فقد حاول عبدُ الرحمن بنُ عوف حمايتَه من القتلِ بكلِّ السُّبُل -تنفيذًا لاتفاقٍ سابقٍ بينهما- دونَ فائدةٍ، فقتله بلالُ بنُ رَبَاحٍ الذي كان عبدًا له من قبلُ!
فقد أخرج البخاريُّ عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: "... فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ، فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا، وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا، فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ: لَهُ ابْرُكْ، فَبَرَكَ، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ".
- قصةُ صاحبِ سليمانَ عليه السَّلامُ الذي أرادَ الهُروبَ من مَلَكِ المَوْت:
أخرج ابنُ أبي شيبة عَنْ خَيْثَمَة، قَالَ: "دَخَلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ جُلَسَائِهِ يُدِيمُ النَّظَرَ إلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ الرَّجُلُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مَلَكُ الْمَوْتِ، قَالَ: رَأَيْته يَنْظُرُ إلَيَّ كَأَنَّهُ يُرِيدُنِي، قَالَ: فَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تَحْمِلَنِي عَلَى الرِّيحِ حَتَّى تُلْقِيَنِي بِالْهِنْدِ، قَالَ: فَدَعَا بِالرِّيحِ فَحَمَلَهُ عَلَيْهَا فَأَلْقَتْهُ فِي الْهِنْدِ، ثُمَّ أَتَى مَلَكُ الْمَوْتِ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: إنَّك كُنْتَ تُدِيمُ النَّظَرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ جُلَسَائِي، قَالَ: كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْهُ، أُمِرْت أَنْ أقْبِضَهُ بِالْهِنْدِ وَهُوَ عِنْدَكَ" (المصنّف لابن أبي شيبه).
3- "مِنْ مَأْمَنِهِ يُؤْتَى الْحَذِرُ":
هذا مَثَلٌ عربيٌّ، تؤكِّدُه وقائعُ التاريخِ قديمًا وحديثًا؛ فكم من زعيمٍ أو قائدٍ أو رئيسٍ أو ملِكٍ جرَى هلاكُه على يدِ أقربِ الناسِ إليه وآمَنِهِمْ على حياتِه، ومَنْ لم يخطُرْ ببالِه لحظةً أنْ يَخُونُوه أو يُسْلِمُوه؛ فضلًا عن أنْ يقتُلوه أو يشاركُوا في قتلِه، وكمْ من جبَّارٍ قدَّر اللهُ أن ينتهىَ مُلْكُه على يدِ مَنْ تعهَّده بالتربيةِ والرعايةِ، وسبقَ إليه بالعطاءِ والإحسانِ.
- فِرْعَوْنُ نُمُوذَج:
أوضحُ الأمثلةِ على ذلك فرعونُ؛ الذي حذَّره كهَنَتُه من أنَّ زوالَ مُلْكِه سيكونُ على يدِّ غلامٍ من بني إسرائيلَ، فأمر بقتْلِ كلِّ مَنْ يُولَد من بني إسرائيلَ من الذُّكور، واحترز كلَّ الاحتراز ألَّا يُوجَدَ هذا الغلامُ، حتى جعل رجالًا وقابلاتٍ يدُورون على النساءِ الحواملِ، ويعلمون ميقاتَ وضعِهنَّ، فلا تلدُ امرأةٌ ذكرًا إلا ذبحه من ساعتِه.
ولم يُفْلِتْ من القتلِ إلا مَنْ قدَّر اللهُ هلاكَ فرعونَ وزوالَ مُلْكِه على يدِه، وهو موسى عليه السلام، وكان قد قَتَلَ بسببه ألوفًا من الوِلْدانِ، ليس هذا فحَسْبُ؛ بل أوْحَى الله لأمِّ موسى الخائفةِ: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه من الآية:39]، وقد كان {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص من الآية:8]، فربَّاه فرعونُ ليكونَ إهلاكُ مُلْكِهِ على يدِه؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَسرارَ الأقدارِ لا يعلمُها إلا الجبارُ.
- ابنُ بُخْتُنَصَّر:
هذه قصةٌ ذكرها سعيد بن جُبَير: أن ابنَ بُخْتُنَصَّر بعد أنْ تولَّى المُلكَ رأى في منامِه كفًّا خرجتْ بين لَوْحَيْنِ، ثم كتبتْ سطريْن، فدعَا الكُهَّانَ والعلماءَ فلمْ يجدُوا لهم في ذلك عِلمًا، فقالت له أمُّهُ: إنَّك لو أَعَدْتَ إلى دانيالَ -وكان يُعْبِّرُ الرُّؤى- منزلتَه التي كانت له من أبيك أخبرَك، وكان قد جَفَاه، فدعاه، فقال: إني مُعِيدٌ إليكَ منزلتَكَ من أبي، فأخْبِرْني ما هذانِ السَّطران؟ قال: أَمَّا أنْ تُعِيدَ إليَّ منزلتي من أبيكَ، فلا حاجةَ لي بها؛ وأمَّا هذانِ السَّطْرانِ فإنك تُقْتَلُ الليلةَ.
فأخرَجَ مَنْ في القصرِ أجمعينَ، وأمرَ بقَفْلِه، فأُقْفِلَت الأبوابُ عليه، وأَدْخَلَ معه آمَنَ أهلِ القريةِ في نفسِه، معه سيفٌ، فقال: مَنْ جاءَكَ مِنْ خلقِ الله فاقتُله، وإنْ قالَ أنا فُلانٌ. وبعثَ اللهُ عليه البَطْنَ، فجعل يمشِي حتى كان شطرُ اللَّيْلِ، فرَقَدَ ورقَدَ صاحبُه، ثم نبَّهه البطنُ، فذهب يمشِي والآخرُ نائمٌ، فرجعَ فاستيقظَ به، فقال له: أنا فُلانٌ، فضربَه بالسيفِ، فقتله.
- وفي العصر الحديث:
فقد تم اغتيالُ الملك فيصل رحمه الله على يدِ ابن أخيه فيصل بن مساعد عام 1975م، وتم اغتيالُ الرئيسِ السادات رحمه الله وهو بين جنودِه وجيشِه وفي احتفالِه بنصر أكتوبر 1981م، وفي (النيبال) قام ولي العهد بقتل والده الملكِ ووالدته الملكة ومجموعةٍ من الأسرة المالكة ثم انتحر، وذلك إثر خلاف عائلي على خطبة فتاة عام 2001م.
4- مَنْ لِيَدٍ تَرْمِيكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَدْرِي:
إِذَا أَنْتَ أَفْنَيْتَ العَرَانِينَ والذُّرَا *** رمَتْكَ اللَّيَالِي مِنْ يَدِ الخَامِلِ الذِّكْرِ
وَهَبْكَ اتَّقَيْتَ السَّهْمَ مِنْ حَيْثُ يُتَّقَي *** فَمَنْ لِيَدٍ تَرْمِيكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَدْرِي
المعني: أيُّها الطاغيةُ الجبارُ المفترِي، إنَّك إذا قضيتَ علي معارِضيكَ من أصحابِ الإِباءِ والشَّمَمِ والشَّرَفِ، انتقمَ اللهُ منك بيد واحدٍ من المغاميرِ غيرِ المشاهِيرِ، وقد تأخُذُ حِذْرَكَ، وتُحيطُ نفسَك بقوةٍ هائلةٍ تمنعُك وتحمِيك، ولكنْ قد تأتيكَ الضربةُ القاصِمةُ من "ثُغْرة" لم تخطُرْ لك على بالٍ، من يدٍ تَرْمِيكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَدْرِي، ومن حيثُ لا تتوقَّع.
- مَصْرَعُ يوليوس قيصر:
ما حدث ليوليوس قيصر -(120-44) ق. م- السياسيِّ الرومانيِّ والقائدِ العسكريِّ الفذِّ؛ أنه انتهتْ دورتُه القنصلية، ولكنَّه أصرَّ على ترشيحِ نفسِه ثانيةً، فاعترض مجلسُ الشيوخِ لمخالفةِ ذلك للقانون، فشرَّدَهم، وطاردَهم، وأخذَ يتطلَّعُ إلى أنْ يُنصِّبَ نفسَه ملِكًا، فكانت نهايتُه من حيثُ لا يتوقَّعُ، بطعنةٍ غادرةٍ من "بُروتس" الذي قرّبه إليه، وأخلصَ المحبةَ له. ولما اكتشف ذلك قال قوْلَتَه المشهورةَ "حَتَّى أَنْتَ يَا بُرُوتس"، فصارت مثَلًا يُضرَبُ للصديقِ الذي يَغْدِرُ بصديقِه دون توقُّع.
- مَصْرَعُ فرعونَ هذهِ الأمة:
قادَ أبو جهل جيشَ الكفارِ إلى بدرٍ، ورفض بصَلَفٍ وغُرورٍ نصائحَ العودةِ بعد أن نجَتْ القافلةُ التي خرج لإنقاذِها، وقال: "وَاَللّهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى نَرِدَ بَدْرًا، فَنُقِيمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَنَنْحَرَ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمُ الطّعَامَ، وَنَسْقِي الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعُ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا بَعْدَهَا".
ورَمَتْهُ يدٌ من حيثُ لا يدرِي، حيث صرعَه طِفلان؛ فقد أخرج الشيخان عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: "بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ، حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: « » قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: « »، قَالَا: لَا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: « ».
ولما لم يكنْ أبو جهل قد قضى من ضربتيْهما فقد أراد الله أنْ يُشاركهما ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه، ذلك الشخصُ الضعيفُ البِنْيَة، الذي أجْهَزَ على أبي جهلٍ، حتى إنَّ أبا جهلٍ تمنى لو أنه قُتِل على يدِّ رجلٍ آخر قوي، فقد أخرج الشيخان عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: « » فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، فَقَالَ: آنْتَ أَبَا جَهْلٍ؟ قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، -أَوْ قَالَ: قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟- وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: فَلَوْ غَيْرُ أَكَّارٍ قَتَلَنِي؟! [الأكَّار: الزَّرَّاع، أراد به احتقاره وانْتِقاصَه، كيف مثلُه يقتل مثلَه].
5- وفي النهاية:
أقولُ مُشفِقًا ومخلِصًا لكلِّ من يتصوَّر أنَّ المقاديرَ تجرِي على هواه: مَنْ تَسلَّط على الناسِ ظُلمًا وعُدوانًا لمْ يسْلَمْ من الهوانِ، ومَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ فَقَدْ خَسِر.
إِنَّ السَّعِيدَ لَهُ فِي غَيْرِهِ عِظَةٌ *** وَفِي التَّجَارِبِ تَحْكِيمٌ وَمُعْتَبَرُ
ولَقَدْ غَدَرْتَ وَغِبُّ -عاقبةُ- الغَدْرِ مُشْتَهِرُ، ولقد رُمْتَ تحقيقَ أحلامِك بالخيانةِ، ولن تُسْلِمَك الخيانةُ إلا لمثلِها شئتَ أمْ أبيْتَ.
ولا سبيلَ لك إلا التوبةُ بكلِّ ما يقتضِيه صدقُها من تضحياتٍ، وتأمَّلْ هذه الأحكامَ الربانيةَ القاطعةَ {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم من الآية:15]، {وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه من الآية:61]، {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه من الآية:111]، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10]، لترى أنَّ الخيبةَ والهزيمةَ والضياعَ والهلاكَ مرتبطةٌ دائمًا بالظلمِ والطغيانِ والجبروتِ والافتراءِ، ارتباطَ النتيجةِ بالسبب.
لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي امْرُؤٌ كَيْفَ يَتَّقِي *** إِذَا هُوَ لمْ يجْعَل لَهُ اللهَ وَاقِيا
فإن أبيتُم التوبةَ وأصررْتُم على البغْي، فاعلموا {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}.
قَلِّبُوا الأُمُورَ حَتَّى تَدُور *** فالدَّوَائِرُ عَلَى الباغِي تَدُور!
- أما أنتم أيها الثوارُ الأحرار:
فلا يهُولَنَّكُم ما تروْن من مظاهرِ الاستبدادِ، ولا يُؤْيِسنَّكم ما تشاهدُون من كثرةِ القابلين للاستعبادِ، ولا يُفْزِعَنَّكم ما تروْن من حشدِ العتادِ والأجناد، فقد مضتْ سنَّةُ الله بأنَّ الباطلَ إلى زوال {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص من الآية:88]، ولن يستقرَّ للخائنِ وناقضِ العهدِ قرار {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [البقرة:25]، ولن يُوقِفَ مسيرةَ الحق كَيْدُ كَائدٍ، ولن يُضْعِفَ أهلَ الحقِّ تدبيرُ غادرٍ، ولا يَحِيقُ الْمكْر السَّيئ إلاَّ بِأهْلِه!
وإنما جعل اللهُ لكل شيءٍ سببًا، ولكل أمرٍ مقاديرَ وسُننًا، فما من أمةٍ استيقظتْ من سُباتِها، واجتمعتْ بعد شَتاتِها، وعرفتْ حقوقَها، وغيَّرتْ ما بأنفسِها إلا أورثها اللهُ العِزَّ والحرية، وأذلَّ ظالميها، وأهلك مُذِلِّيها {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد من الآية:11].
عبد الرحمن البر