القناعة سر السعداء
قصتنا اليوم لسيدة جميلة رقيقة زينتها الحمد والقناعة، وثوبها التعفف والرضا، رضيت بشظر العيش ولم تتطلع لما في يد غيرها ممن أنعم الله عليهم، فعاشت راضية قانعة تنعم بالسعادة التي حُرم منها الكثير.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (صحيح الترغيب:3168).
قال عبد الله بن عباس: "القناعة مال لا نفاد له".
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الرزق رزقان: فرزق تطلبه، ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك".
وقال سعد بن أبي وقاص لابنه: "يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإنها مال لا ينفد؛ وإياك والطمع فإنه فقر حاضر؛ وعليك باليأس، فإنك لم تيأس من شيء قط إلا أغناك الله عنه".
قصتنا اليوم لسيدة جميلة رقيقة زينتها الحمد والقناعة، وثوبها التعفف والرضا، رضيت بشظر العيش ولم تتطلع لما في يد غيرها ممن أنعم الله عليهم، فعاشت راضية قانعة تنعم بالسعادة التي حُرم منها الكثير، ومن خلال الأسطر التالية ستعرفون ذلك جيدا..
تلك السيدة تعمل مدرسة للمرحلة الابتدائية تشع بالدفء والحنان، نشأت في أسرة طيبة ولكنها أسرة تعيش على الكفاف بالرغم من عراقة اسم العائلة، إلا أن هناك عائلات تتسم بالرقي والأخلاق، ويعقتد الكثير أنهم أغنياء، -نعم هم أغنياء بتعففهم- فظهورهم بمظهر جميل وأخلاق طيبة هو ما يعطي للناس الإحساس بأنهم أغنياء وهم بالكاد يقضون الأيام، ولكنهم سعداء يعيشون في ألفة ومودة ومرح، هذا ما رأيته بعيني عندما كنت أذهب إليهم.
يتقدم لتلك المدرسة الحبيبة زميل لها لا يملك سوى راتبه الضئيل، ويعول أمه وأخته، ويعيش هو وأسرته في بيت لا يحوي سوى غرفة أمامها ممر ضيق، في هذا الممر كل مستلزمات معيشتهم من طهو للطعام وغيره من الأدوات، وبالرغم من حالته الرقيقة جدا توافق عليه هذه الطيبة ولا تتمرد، أو حتى تتطلع لمستوى أفضل ككثير ممن الفتيات بالرغم من جمالها وأصلها الطيب..! فأصلها كفيل بأن يأتيها من هو أفضل حالا، ولم تقل أبدا يعني أهرب من الفقر إلى أقل من الفقر نفسه! وخاصة أن المادة الدراسية التي يدرسونها هما الاثنين لا يأخذ فيها أحد دروس خاصة، يعني هو الراتب ولا شيء غيره...!
يستأجر الاثنان بيت صغير جدا للعيش فيه، وجهزوه هما الاثنين بالضروريات فقط، وعاشت معه بهدوء نفس ورضا وحمد لم تتذمر أبدا، بالرغم من أن نصف راتبه يذهب لأمه وأخته، فليس لهم عائل غيره ومن فضل الله عليها أنها ظلت مدة طويلة بدون حمل وعاشت حياتها مع زوجها كالتالي..
مرة واحدة في الشهر التي تستطيع فيها شراء لحم، ومرة دجاجة صغيرة، وبقية الشهر مرة أو مرتين سمك من الأنواع الرخيصة الثمن، وبقية الأيام كانت تقضيها هي وزوجها بسندوتشات قد سمتها: "الحواوشي الكذاب".
وهو عبارة عن بصل محمر مع طماطم، ستقولون كيف؟ فلقد استغربت عندما سمعت هذا الكلام وسألت فوجدت أنها كانت تقوم بتحمير البصل ثم تضع عليها ثمرة الطماطم مع الملح ثم تقوم بعمل سندوتشات منها، وأحيانا تقوم بعمل عصير ليمون يبلل فيه الخبز ويأكلوه، أقسم بالله هذا ما قيل لي بالحرف، وهكذا كانت تقضي الأيام والشهور بل والسنين..! راضية حامدة شاكرة لله، أكتب لكم تلك التفاصيل لتعلموا أن الإنسان يستطيع أن يعيش هانيء مطمئن، راضيا وحامدا لله مهما ضاقت به الحياة..
فجأة يرزقها الله بالحمل، وطبعا لرقة الحال وقلة التغذية الجيدة والمجهود في العمل أثر ذلك عليها، وتمر شهور الحمل بكل آلامه، وفي الشهر السادس يأتيها المخاض ليقوم الطبيب بتوليدها، واعتبر الطبيب أن هذا المولود سقط ووضعه في ركن، -وطبعا لا يوجد حضان ولا شيء في ذلك الوقت- فحمدت الله وسلمت أمرها له، فهذا الطفل الذي لم يكتمل نموه لن يعيش، ولكنها قدرة الخالق الذي إذا أراد شيء يقول له كن فيكون، تشير عليها الممرضة التي كانت مع الطبيب بأن تقوم بلفه جيدا في قطن وشاش وتدفئه جيدا، وتتركه في مكان مظلم وكأنه في الرحم، وقالت لها هذا لأن الطفل فيه حياة ولا يجب تركه هكذا ليموت دون الأخذ بالأسباب..
وبالفعل تلفه الممرضة بقطن كثير وشاش، ولا تترك سوى فتحة الأنف والفم، وأوصت الأم بأن تقطر له بعض المحاليل في فمه وتقطر اللبن من صدرها لتعطيه إياه، وظلت الأم هكذا فترة طويلة، وكلما اتسخ ما عليه من قطن تقوم بتغيره بحرص شديد، وسبحان الله يعيش هذا الطفل ابن الستة أشهر ويكتمل نموه على هذه الطريقة، وتمر بها الشهور والسنون على هذا الحال، وتتزوج أخت زوجها وتصبح في رعاية زوجها، وتتوفى حماتها رحمها الله.
ويصبح راتب الزوج لبيته فقط ليوسع عليهم بعض الشيء، ومع ذلك تطلب من زوجها أن يعيشوا كما كانوا وما كان ينفقه على أخته ووالدته ستأخذه وتتدخره وكأنه لم يكن، وظلت هكذا تعيش براتبها والجزء المتبقي من راتب زوجها وتتدخر الباقي، حتى استطاعت أن تشتري قطعة أرض من تلك المدخرات، وحملت مرة أخرى ورزقها الله بفتاة، ويكبر الولد والبنت وقد تعودا على هذه الحياة، الأب مدرس له احترامه، والأم مدرسة لها احترامها، ولا أحد يدري كيف يقضون أيامهم..
وكان لهذه السيدة الطيبة خال -شقيق والدتها- من هو متيسر الحال جدا، وكان ينفق بسخاء على أقاربه المحتاجين، وكلما عرض عليها المال ترفضه! وتقول: "مستورة والحمد لله إعطيه لأحد يحتاج، ويكون أولى مني"، سبحان الله! وبعد عدة سنوات تستطيع أن تتدخر ثمن تأثيث البيت، وتنتظر سنوات أخرى وكلما ادخرت شيء تقوم بوضعه في بناء البيت، حتى الزيادة التي كانت تتكرم بها الدولة من زيادة للرواتب أو مكافأة امتحانات، كانت تعتبرها لم تأت وتدخرها أيضا -سواء الزيادة التي تأتيها أو تاتي لزوجها- حتى أكرمهم الله وانتقلوا للعيش في بيتهم الجديد.
وبالحمد والرضا والقناعة أصبح لديهم بيتهم الخاص بهم، وأصبح لديهم الراتب كله متوفر لحياتهم..
ويكبر الأبناء ويتخرج الولد من الجامعة ويسافر لإحدى البلدان العربية للعمل، وقد بلغ الثلاثين الآن، وأمه تبحث له عن عروس صالحة تعينه على الحياة، وتتخرج االابنة وتتزوج ويكون لأبويها اليد العليا في زواجها، حيث يعينون الزوج بما يستطيعوا، بل تركوه يبني شقة فوقهم ليعيش فيها مع ابنتهم، فما أكرم الخالق الذي منحهم قوة الثبات على الحياة بتلك الإمكانات القليلة..
فقد عاشوا وكأنهم أغنى الأغنياء، وبارك الله لهم في رزقهم وذريتهم، ولو نظرنا لمن هم أفضل منهم حال أو لمن أعطاهم الله الخير نجدهم أتعس الناس، ولا يشكرون ولا يحمدون ولا يقنعون، نجدهم فقراء بالرغم من غناهم المادي، ودائما لديهم إحساس بالحاجة والعوز وأن الدنيا غلاء والصحة ضعيفة، وأمراض الدنيا بهم والشكوى لا تترك ألسنتهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12]، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ:13].
اللهم اجعلنا من القليل الشكور
واللهم اغننا من فضلك العظيم وقنعنا بما أعطيتنا، واجعلنا من الراضين الحامدين الشاكرين لفضلك العظيم، وبارك لنا اللهم في أولادنا وأهلينا، وردنا إليك ردا جميلا غير مفتونين ولا جاحدين، وارزقنا رضاك والجنة.
- التصنيف:
- المصدر: