تجربة تستحق تأمل كل معلم ومعلمة

منذ 2014-03-31

القراءة عادة نسيناها في حين ورثها عنا الغربيون، فأحسنوا رعايتها حتى جنوا ثمارها تقدما علمياً مذهلاً لا ينكره إلا مجحف، في حين بقينا نبحث عن البدائل اليسيرة للقراءة على الشاشات الفضائية، وبين موجات الأثير فألفنا الكسل واستسغنا اللقم الباردة، وأصبحت أدمغتنا أوعية حفظ محددة الصلاحية تضمر داخلها كل خلية تفكير يتيمة..

القراءة عادة نسيناها في حين ورثها عنا الغربيون، فأحسنوا رعايتها حتى جنوا ثمارها تقدما علمياً مذهلاً لا ينكره إلا مجحف، في حين بقينا نبحث عن البدائل اليسيرة للقراءة على الشاشات الفضائية، وبين موجات الأثير فألفنا الكسل واستسغنا اللقم الباردة، وأصبحت أدمغتنا أوعية حفظ محددة الصلاحية تضمر داخلها كل خلية تفكير يتيمة، والقراءة عادة تبذر في تربة النشء الخصبة لتورق فكراً قويماً، وتثمر نجاحات باهرة في مستقبل الأيام فأين القراءة من نشئنا وأين منا النجاح؟

الطفل يسير يومياً في حلقة مفرغة ما بين منزله ومدرسته، وكله استعداد لتقبل أي تغيير يطرأ في مسيرته، فأما أن يحدو به النجاح، وأما أن ينحدر به إلى الضياع، فالمنزل مطالب بإيجاد الجو المناسب لتثقيف هذا الطفل ثقافة لا منهجية تعتمد بالدرجة الأولى على قراءات هذا الطفل واستماعه لتجارب ذويه المفيدة، وليست تلك المفسدة لبراءته وطيب معدنه، ولكن التقصير أو يكاد يكون انعدام هذا الدور في المنزل معضلة كل البيوت العربية، ولست أعمم هذا الحكم ولكنه الأغلب، فلو أوجدنا إحصائية لعدد البيوت التي يوجد بها مكتبة للطفل لما تجاوزت نسبتها العشرة بالمائة في أحسن الأحوال، فبيوتنا تفتقر للكتاب بشتى أنواعه، فما بالكم بكتاب الطفل خاصة!

ولأن دور المدرسة دور تكميلي لدور المنزل كان من اللازم تنبه مدارسنا لهذه المسألة وحلها، وإصلاح جوانب التقصير المنزلية، والقيام بالدور التربوي خير قيام، ولكن كل مدارسنا العربية منفرة لهذا الطفل من القراءة، فطريقة التلقين والإجبار وكتابة القطعة ما لا يقل عن خمس مرات تجعل من هذا الطفل طير حبيس في قفص هذه المدرسة، ما أن يرن جرس نهاية الدوام حتى يحلق بعيداً عن كل ما يثقل عقله الصغير الغر، وأيضاً أرجع لأقول ليست هذه الفكرة عامة لكل المدارس، فهناك من المدارس من يبذلون قصارى جهدهم، وهناك أيضاً من المدرسين الذين يحملون شرف المهنة وأمانتها في قلوبهم وعقولهم، من يحاولون بكل ما يستطيعون جذب هذا الطفل إلى القراءة وإلى حبها.

هناك تجربة لا تفارق ذاكرتي! أشعر بأنها كانت من الأسباب الدافعة لي إلى حب القراءة، علاوة على تشجيع والدي حفظهما الله لي باستمرار على اقتناء ما يروق لي قراءته كطفل في ذلك الحين، هذه التجربة بطلها أستاذي الغالي (عبد الرحمن) رائد فصلي في السنة الثالثة الابتدائية، فما زلت أذكر اسم هذا الرجل مع أن ذاكرتي قد أسقطت أسماء كثير من أساتذتي في السنين القريبة، وما هذا إلا لفضل هذا المعلم علي، فهذا الرجل الفاضل اغتنم حصتي النشاط المدرسي المقررة في أحد أيام الأسبوع خير اغتنام..

فكان أن أتى بدولاب صغير الحجم زهيد الثمن ووضعه في زاوية الفصل، وسألنا بأن يأتي كل واحد منا نحن الطلاب بالكم الذي يستطيعه من الكتب التي تروق لكل طالب منا، ومن كان عاجز عن شراء الكتاب الذي يريده فليأتي إلى المدرس في وقت الفسحة ليعطيه ما يلزم من المال لشراء ذلك الكتاب، ولم تمض ثلاثة أسابيع حتى أصبح هذا الدولاب ممتلئًا، وكان يأتينا في حصة النشاط حاملاً كتاباً يخصه هو ليقرأه في الفصل، ويأمرنا بأن يأخذ كل واحد منا ما يعجبه من كتب الدولاب، ولاحظوا معي بأنها كتب أطفال اختارها أطفال الفصل بأنفسهم وليس لهذا المعلم عدا الإشراف على نوعية هذه الكتب، فما كان لا يتناسب مع سننا يرفعه عنا.

وكانت هاتان الساعتان من أروع الحصص، إذ ننغمس جميعاً طلاباً ومعلماً في بحور من القراءة والاطلاع، في حين يبقى طلاب الفصول الأخرى في كفاح مع أنفسهم مكتوفي الأيدي مطرقي الرؤوس، يقف فوق رؤوسهم عريف منهم يدون كل نفس زائدة، ثم يبعث بقائمة المارقين عن أنظمة الفصل إلى رائدهم ذو العصا الغليظة -وآه من تلك العصا كم غلظت علينا-.
 

تجربة أستاذي عبد الرحمن حفظه الله أينما حل لم تجبلنا على حب القراءة وحسب، بل على النظام أيضا واحترام المواعيد، فلقد قسم الفصل إلى مجموعات في كل أسبوع تقوم مجموعة جديدة بجمع الكتب في آخر الساعتين وإحصائها، حتى لا ينقص كتاب من المكتبة ومن ثم ترتيبها في رفوف المكتبة، ومن كان يرغب في الاستعارة فله ذلك شريطة أن يعيد الكتاب في الأسبوع القادم، وتدون المجموعة اسمه والكتاب الذي استعاره، وأخيراً نقفل الدولاب الخشبي الصغير ونعطي المفتاح لرائدنا الرائع الأستاذ عبد الرحمن.

ولقد كنا نشعر بالمسؤولية والحب والحرص على محتوى هذه المكتبة المختصرة، وننضبط في مواعيدنا خشية أن تصيبنا عقوبات رائدنا الصارمة المؤدبة والمهذبة لنا، ولست أدري أما زالت حصتي النشاط موجود في نظام مدارسنا أم أنهما قد ألغيتا لعدم جدواهما! ولكنني سقت لكم التجربة الرائعة التي غرست في صدري وصدور ذلك الفصل حب القراءة، وعلى يد أستاذ حريص شعر بالمسؤولية ورغب في التغيير، فكان له ما تمنى ولم يكلفه ذلك أي مبلغ يثقل راتبه القليل، ولكن كم هي تلك الفصول التي لم تنعم بمثل هذا الرائد الرائع؟! كثيرة والأكثر من يتخرجون منها وهم أبعد ما يكونوا عن القراءة، التي هي بداية نهضة أمتنا الإسلامية وأول أمر نزل به القرآن على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

فيا أخي المعلم ويا أختي المعلمة: إن قصرت سياسات تعليمنا عن النهوض بنشئنا فما يزال الأمل قائما فيكم، بتقويم ذلك الغرس المائل حتى تمضي غصونه نحو العلا ويضرب بجذوره قيعان الثرى.

 

فيصل أحمد

  • 1
  • 0
  • 1,534

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً