إياكم ولجام الذل!
في ظلِّ تَوَالي النِّكَباتِ والهزائمِ، واستمرارِ الشجبِ والعَويلِ، والتنديد والقنابل الكلامية بحثاً عن حلٍّ لهذا الواقع الظاهرِ الفاسدِ الذي تبكي منه العين دماً، ويتصدَّعُ القلبُ أسفًا، وتشتكي الجوارحُ ألمًا..
في ظلِّ تَوَالي النِّكَباتِ والهزائمِ، واستمرارِ الشجبِ والعَويلِ، والتنديد والقنابل الكلامية بحثاً عن حلٍّ لهذا الواقع الظاهرِ الفاسدِ الذي تبكي منه العين دماً، ويتصدَّعُ القلبُ أسفًا، وتشتكي الجوارحُ ألمًا، أصبح عزاؤنا قول الشاعر:
ولرُبَّ نَازِلَةٍ يضيقُ بِهَا الفَتى *** ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ضاقت فَلما استحكمتْ حلقاتُها *** فُرجَت وكنتُ أظنُّها لا تُفرجُ
إن الخطباءَ على المنابرِ وأصحابَ الأقلامِ أسكبوا الدَّمَ وصفاً لهذا الواقع المؤلم، ورددوا قول الشاعر:
لمثل هذا يذوب القلبُ من كَمَدٍ *** إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانٌ
إننا نجد الكثير ممن تفوح منه رائحة التحدث عن الواقع، وإلقاء التبعات؛ ثم لا يحرك ساكناً، ولا يتفاعل تفاعلاً إيجابياً مع واقع أمته بل واقعه هو، فهو يحس بالذل والمرارة لكنه لا يؤدي واجبه، ولا ما يلزمه تحقيقه تجاه دينه ونفسه وأسرته وجيرانه ومجتمعه.
إني أبحث في كلماتي هذه عن حل لأخرج به من إعلام يسقينا الذل، والأمة مستهدفة، والحروب النفسية دائرةٌ، فلِمَ هذا الذل يا مسلمون، وإلى متى؟!
لقد أكل الصحابة -رضي الله عنهم- ورق الشجر في مقاطعة قريش لنبيكم -صلى الله عليه وسلم- في بداية ظهور الإسلام وانتشاره، وقتل عمه حمزة -رضي الله عنه- ومُثّلَ به، وقد روى البخاري (3231) ومسلم (1795) من حديث عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟" قَالَ: « ».
وهكذا في تاريخ الأمة الطويلِ والممتدِّ من (الهزائم الظاهرة) إلا أنها بطولاتٌ فائقةٌ، ليس فيها الخورُ ولا الذلُ، ولا التدَني، وصور الهزائم واحدة، والنكبات في السابق أفظعُ، ولكن كان لديهم في قلوبهم من اليقين ما جعلهم يحولونها إلى بطولات فائقة؛ لأنهم طبقوا شرع الله في نفوسهم وذويهم، ومجتمعهم وأمتهم ما نبحث عنه الآن، لديهم من العزة والكرامة والرفعة ما نحتاجه الآن {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [ آل عمران:139].
لقد حُبس مَن حُبسَ مِن الأئمةِ والعلماءِ والمجاهدين، وماتَ تَحتَ التعذيبِ من مَات، ولم يَزدْهمْ ذلك إلا عزةً وكرامةً، وبقيت كلماتُهم وأفعالُهم نبراسًا ونورًا يهتدي به الأحياءُ، وذكرى طيبةٌ خيرةٌ على مر العصور، فكانت المقالةُ الشهيرةُ عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:"ما يصنع أعدائي بي؛ أنا جنتي وبستاني في صدري، إنْ رُحت فِهي مَعي لا تفارقني، إنْ حُبسي خلوة، وقَتلي شهادةٌ، وإخراجي من بلدي سياحةٌ".
فأي عزة تلك، وأي علوٍّ هذا، فلنقرأ التاريخ والسير فنشعر من أعماقنا وسويداء قلوبنا بالفخرِ والاعتزازِ؛ لأننا خلفٌ لأولئك الأبطالِ؛ لكن أين نحن منهم؟!
لا تعرضن بذكرنِا مع ذكرِهم *** ليس الصحيحُ إذا مشى كالمُقعدِ
لئن فَخرتَ بأقوامٍ مَضَوْا سَلفًا *** لقد صدقت ولكن بِئس ما خَلَفوا
فقط؛ من قراءة ما سطَّروه أو سطَّرَ عنهم، نشعر بقلوبنا تهتز، وعقولنا تنبَهِرُ، فنتفاعل مع واقعنا وحاضرنا كما تفاعلوا هم مع حاضرهم وواقعهم، روى الإمام أحمد في (مسنده: [16957]) بسند صحيح عن تميم الداري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ».
وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ: "قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ".
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « (رواه أبو داود :[3462] بسند صحيح).
فهذه نصوص نبوية وغيرها صريحة في أسبابِ الذلِّ ووَهَنِ العزائمِ، ولا بدَّ أن تكون هناك سُنَنٌ كونيةٌ للاختبارِ، وعسى أن تكون هذه المحن والمصائب والشر العريض وراءه خيرٌ كثيرٌ؛ قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. وقال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء من الآية:19]، ومن المحن تأتي المنحُ.
وسئل الإمام الشافعي رحمه الله أيهما أفضلُ للمرء أن يمكَّن أم يُبْتَلَى؟ فقال:" لا يُمَكن حتى يبتلى".
وإن أردتم التمكين والنصر فأقيموا دولة الإسلام في قلوبكم وأفعالكم؛ تقمْ لكم على أرضكم، أقمْ الإسلامَ في قلبك وولدِك، وأسرتِك وجيرانك ومجتمعِك، واجعل الصلة قوية بينك وبين الله؛ وقتها لن تحس بالذل حتى لو فصلت رقبتك عن جسدك، وعدوُك نفسُهُ طويل، ودراساته حصيلتها بعد أجيال، وإن شئت فاقرأ بروتوكولات حكماء صهيون، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال من الآية:30].
فأحرى بك أن تتسابق في بناء جيل قلبه معلق بالمساجد، جيل نشأ في عبادة الله - عز وجل -، جيل مَثلُه الأعلى أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم - رضي الله عنهم - أبعد ذلك نجد من يقول: لا أملك شيئاً، وآخر يقول: إلى متى نظل ندعو أَوَ لَا نملك إلا الدعاء؟ في أسلوب يائس! ثم يركن إلى شهوة زائلة يقضي فيها عمرَه دون تحمل أدنى مسئولية، وهذا الأسلوب يؤدي إلى الذلة والخَور، أو إلى البطش والجَوْر، وكلاهما مُرٌّ، وعواقبه وخيمة.
أما الأسلوب الأمْثَل فهو التربية والجد والاجتهاد، واحرص على أن لا يُؤتى الإسلام من قِبَلِك، ولا يستهانُ بالدعاء فبه أقيمت دولةٌ، وبه فتحت أرضٌ، وهو العبادة، فنحن نملك الكثيرَ، ولدينا من نعيم الدنيا الكثير والكثير ما لم يكن عند الصحابة رضي الله عنهم، ولدينا دينٌ أقامَ به الصحابةُ رضي الله عنهم هذه الدنيا الفانية على تقوى وبرهان، وفتحوا حصون كسرى وقيصر، ومن معاركهم الفاصلة معركة (القادسية)حيث ذكر التاريخ قبلها مشاورات ومفاوضات وسفراء لديهم من القوة الإيمانية والائتلاف على قلب رجل واحد، ولديهم نفسية رفيعة، وعقلية محكومة بأسس ومبادئ وقيم تربوا عليها، وعاشوا فيها، نابعة من دينهم وعقيدتهم الإسلامية.
فالعزة التي كانوا عليها ليست عزة مُلكٍ أو مالٍ، أو سلطانٍ أو جاهٍ، كلا بل هي قوةٌ إيمانيةٌ تملكتِ القلبَ والعقلَ، واللسان والفعل.
نسأل الله من فضله.
- التصنيف:
- المصدر: