الألفاظ العرفية وخطورة تجاوزها (الدولة المدنية) أنموذجًا
لا أحد ينكر التطور الدلالي الخاص بالألفاظ، وقد نحتَ الناسُ كثيرًا مِن المعاني التي لم تكن في ألفاظها المضافة إليها الآن، فهذا كله مشهورٌ متداولٌ، لا يُنكره مُنْكِرٌ، ولا يجحده جاحدٌ، ونحن لم نقصد الحديث عن هذه المسائل، وإنما أردنا الحديث عن تلك (الألفاظ العرفية) التي وُلِدَتْ ونشأتْ في عُرْفٍ ما، أو استقرَّ العُرْف على معنًى معينٍ لها..
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على المبعوث رحمة للعالمين ورضي الله عن آله وصَحْبِه أجمعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، أما بعد..
أولاً: تمهيد:
لا أحد ينكر التطور الدلالي الخاص بالألفاظ، وقد نحت الناسُ كثيرًا مِن المعاني التي لم تكن في ألفاظها المضافة إليها الآن، فهذا كله مشهورٌ متداولٌ، لا يُنكره مُنْكِرٌ، ولا يجحده جاحدٌ، ونحن لم نقصد الحديث عن هذه المسائل، وإنما أردنا الحديث عن تلك (الألفاظ العرفية) التي وُلِدَتْ ونشأتْ في عُرْفٍ ما، أو استقرَّ العُرْف على معنًى معينٍ لها، فاللفظ العرفي بناء على ذلك: هو اللفظ المولود لعُرْفٍ ما، وقد يكون مولودًا بعد أنْ لم يكن، أو كان ثم استقرَّ واشتهر بمعنًى دون غيره..
وهذا اللفظ العرفي بصورته هذه ليس لفظًا مباحًا أو متاحًا خارجَ عُرْفِه وسياقه؛ إِذْ لا يملك هذا اللفظ العرفي مِن الحرية ما يجعله ينتقل مِن عُرْفٍ لآخر، وإنما هو مسجونٌ في سياقه، محاطٌ بعُرْفِه، لا يُخْرَج عنه ولا يَخْرُج، فهو على هذا لفظٌ مُكَوَّنٌ مِن أطراف عديدة، لا يمكن فصلها ولا التغاضي عن بعضِها، فلا يمكن فهمه بغير عُرْفِه، ولا وضعه لمعانٍ لم تكن له حينذاك، وإذا كان الجميع قد اتفقَ على اختلاف الأعراف، وتغايُر الظروف والملابسات، فليكن الأمر كذلك أيضًا بالنسبة إلى اللفظ العُرْفِي، فهو جزءٌ مهم مِن العُرف؛ بل هو عنوان العُرف وطريقة التعبير عنه؛ إِذ اللغة طريق التواصل والتعبير بين الناس، غير أَنَّ اللفظ العرفي ليس جامدًا مِن كل وجهٍ؛ بحيثُ لا يصلح للتكرار؛ وإنما هو جامدٌ مِن وجهٍ، قابلٌ للتكرار مِن وجهٍ آخر، فهو جامدٌ لا يصلح للفهم خارج سياقه وعُرْفه الذي وُلِدَ له، لكنه في الوقت نفسه قابلٌ للتكرار والدلالة على وقائع أخرى لكن بمعانٍ أخرى، تُسْتَلْهَم مِن تلك الوقائع الجديدة التي أحاطتْ به، فهو يتغير ويتحوَّل في معناه تبعًا لعُرْفه المولود له، وقرائن ولادته وملابساتها، فمعناه ابنٌ لعُرْفه المحيط به دائمًا، وفهمه في كل حينٍ يتوقَّف على فهم طبيعة مصدره الذي نشأ لأجله، وهو العرف المحيط به وقرائن ذلك وملابساته.
وبهذا نرى أن اللفظ العُرْفي جامدٌ ومتحرِّكٌ في آنٍ، فهو متحرِّكٌ يقبل الانتقال والدلالة على وقائع عديدة، لكنه إذا دلَّ على شيءٍ جَمَدَ على ما يدل عليه العُرْف المحيط به لا يتخطاه إلى غيره، فهو حُرٌّ ما دام طليقًا لم تُقَيَّد معانيه بعُرْفِه بعدُ، فإِذا قَيَّدَه عُرْفُه بمعانٍ جمَدَ عليها ولم يتعدَّاها إلَّا لمثلها ونظائرها تمامًا، فهو يتحرَّك في مجال نظائره وأمثلته، لا يخرج عن دائرة النظير والمِثْل إلى غيرها، فإذا خرج إلى غيرها تقيَّد وجَمَدَ بعُرْفِ هذا الغير.
ثانيًا: فَهْمُ اللفظِ بناءً على عُرْفِه المحيط به:
وهذا يعني أن نفهم اللفظ بناءً على عُرفه المحيط به، وليس بناء على تكوينه وحروفه مجرًّدا عما حوله، فالحروف والتكوين اللفظي هي البناء الذي ترتفع عليه المعاني؛ لكنها لا تقدر بمفردها على إقامة المعنى وإتاحة فَهْم اللفظ للجميع، ومِن هنا نشأت قضايا المشتركات اللفظية ونحوها، مما يتوقَّف فهم المراد منه على عوامل خارجية تحيط به، واللغة العربية تنماز عن غيرها مِن اللغات بوفرة المعاني للفظ الواحد من جهة، وبوفرة الألفاظ للمعنى الواحد مِن جهةٍ أخرى..
فإذا ما دلَّ اللفظ على معانٍ عدةٍ فلا بد والحالة هذه مِن اللجوء إلى العوامل الخارجية؛ للكشف عن المعنى المطلوب مِن اللفظ في موضعه الحالي، وتخصيص اللفظ بهذا المعنى دون سواه في هذا الموضع، وهذا التخصيص قد يكون بناء على نصٍّ شرعي، أو على شيءٍ مِن العُرْف، مما يُؤْذِن بضرورة العُرْف في الكشف عن معنى اللفظ، وتخصيص بعض معاني اللفظ بدلالته عليها دون الأخرى عند اجتماع المعاني.
ثالثًا: أمثلةٌ تطبيقية:
والأمثلة التطبيقية على هذه القاعدة أكثر مِن أن تُحصى، لكننا نقتصر الآن على الإشارة لأُنموذج (الدولة المدنية) المتداول هذه الأيام في وسائل الإعلام، ويتناقله الناس فيما بينهم، ما بين مؤيِّدٍ ومعارضٍ -خاصة في مصرنا الحبيبة- فمن الذين يؤيدون قيام الدولة المدنية مَن يرى أنها البديل الآخر عن الدولة العسكرية، فالمدنية لدى هؤلاء هي الضد للعسكرية، أي هي حكم المدنيين في مقابل حكم العسكر.
بينما (المدنية) عند آخرين هي مرادف يتطابق مع (العلمانية) وإِنْ زخرف بعضهم القول ليخفي مقصده هذا، وقد يتكلم بعضهم عن التفريق بين الدولة المدنية والدولة العلمانية، لكنه عندما يشرح حقيقة الدولتين لا تجد عنده كثير فرق بين الاثنين، وبعضهم يغلِّف هذا بغلاف سلطة الشعب في التشريع، ويرى من حق الشعب أن يشرع لنفسه وبنفسه القوانين التي تتفق ومصالحه، وهو غلافٌ يتواصل بشكلٍ أو بآخر مع رؤية العلمانيين، التي تقوم على سلطة الشعب في التشريع لنفسه، ونزع الصلة بينه وبين الدين، وإطلاق حرية الشعب في اعتقاد ما يحلو له، وإِنْ كان شاذًّا مناقضًا للوحي، مصادمًا لفطرة الإنسان والأخلاق السائدة على مرِّ العصور..
وتكفينا هذه الإشارة الرمزية كدلالة على اختلاف الناس في مقاصدهم من لفظ (المدنية)، وعليه لا بد أنْ يُفهم المصطلح في سياقه التاريخي الذي نشأ فيه، ويُنظر إلى مضمونه ومحتواه بغض النظر عن لفظه واسمه؛ لأن العبرة بالمضمون، والاسم الجميل لا يُجَمِّل المحتوى الفاسد، ولا بد أيضًا لكلِّ متكلِّمٍ في هذا المجال أنْ يشرح مقصوده، ثم ننظر في فحوى هذا المقصود، ونحكم عليه بناء على هذا المحتوى، وليس بناء على مجرد الوصف أو اللفظ الإسلامي أو العربي السائد في ديارنا، فقد نكون في معنًى وهم في آخر وإن اتفقنا في مجرد اللفظ، والله المستعان.
- التصنيف:
- المصدر: