لماذا اتبعنا السفساف؟
لقد ارتفعت الهمم العالية بأصْحابها درجات وجعلَتْهم يُدرِكون أنَّ كلَّ شيء عدا الجنَّة صغيرٌ لا يُؤبَه له، واستَمِع إلى حديث التاريخ عن همَّة عبد الرحمن الداخل، الذي أُهدِيتْ له حين دخل الأندلس جارية يأخُذ حُسنُها بمجامع القلب والعقل، فنظر إليها وقال: "إنها من النظر والقلب بمكان، وإنْ أنا شُغِلتُ عنها ظلمتُها، وإنْ أنا شُغِلتُ بها ظلمتُ نفسي وهمَّتي، وأمَر بردِّها إلى أصحابها".
- التصنيفات: تربية النفس -
الحمد لله الملك الجليل، الهادي إلى سواء السبيل. نحمده تعالى أمرنا بمكارم الأخلاق، ونهانا عن الكفر والنفاق، والخصام والشقاق. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا شبيه ولا نظير ولا مثيل، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الموصوف بالعصمة، والمبعوث بالهدى والحكمة، أشرف الناس نفسا وأعلاهم همة، يصل الرحم، ويعين على نوائب الحق بما لديه من كثير أو قليل. اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد.
صلوا على خير الأنام محمد *** من علم الدنيا تراتيل الهدى
فعليك تسليم الإله صلاته *** عد النجوم الساطعات على المدى
وصل إلهي على آله وأصحابه القاصدين وجه الله إمساكا وإنفاقا، والقائمين بالواجبات إيثارا وإملاقا، وعلى التابعين لهم بإحسان من كل أمة وجيل. أما بعد:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب النبي عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كثير، قال: العجب لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الأرض من ترى من أصحاب رسول الله؟ قال: فترك ذلك، وأقبلت على المسألة وتتبع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كنت ليبلغني الحديث عن رجل سمع الحديث من رسول الله فأجده قائلا: فأتوسد ردائي على بابه تسفي الرياح في وجهي حتى يخرج، فيقول: ما جاء بك يا ابن عم رسول الله؟ فأقول: بلغني أنك تحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأحببت أن أسمعه منك، فيقول: فهلا بعثت إلي حتى آتيك، فأقول: أنا كنت أحق أن آتيك، فكان ذلك الرجل يمر بي بعد، والناس يسألوني، فيقول: أنت كنت أعقل مني".
أيها المصلون: تلك كانت مفارقة بين همتين؛ إحداهما: أبَت إلا أن يسألها الناس، وأخرى: رضيت بأن تسأل الناس، فسَمتِ الهمة الأولى، وسَفُلت الهمة الثانية، يتألم الحر العاقل حين يرى همة شباب أمته -بل وحتى بعضا من شيبها- لا تتجاوز تحصيله جهاز اتصال جديد، أو تلميع إطارات مركبته، أو فوز ناديه الذي يشجعه، أو أعلى من تلكم الأمور، أو أسفل. فقد هبطت همم الكثيرين من كبار وصغار، ورجال ونساء، وشباب وفتيات، فلا هي همم نصرت دينا، ولا أحرزت دنيا، ففي دينهم يرضون من صلاتهم أن يدركوا الركعة الأخيرة، ومن عباداتهم بالأمور اليسيرة، بل وفي دنياهم رضي الكثير من الشباب أن ينال بالشهر ألفي ريال كإعانة ينالها وهو قاعد كسول، أو يسمح لنفسه أن يطلب من أبيه وأمه مصروفه وقد امتلأ من الخمول، ومع هذا قد أحرز غيره عشرات الآلاف، بل والملايين، وهو قاعد يتسول غيره.
لحى الله صعلوكا مناه وهمه *** من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما
إننا لو عُدنا إلى ماضينا لوجدنا صورا مشرقات، وأمثالا نيرات، ومواقف مبهجات، ترشد حاضرنا إلى تتبعها واقتفائها، وتوجهنا إلى اهتدائها؛ «أنَّ رجلًا مِنَ الأعرابِ جاءَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فآمنَ بِهِ واتَّبعَهُ، ثمَّ قالَ: أُهاجرُ معَكَ، فأوصى بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ بعضَ أصحابِهِ، فلمَّا كانَت غزوةٌ غنمَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ سبيًا، فقسمَ وقسمَ لَهُ، فأعطى ما قسمَ لَهُ، وَكانَ يرعى ظَهْرَهُم، فلمَّا جاءَ دفعوهُ إليهِ، فقالَ: ما هذا؟ قالوا: قَسمٌ قَسمَهُ لَكَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فأخذَهُ فجاءَ بِهِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقالَ: ما هذا؟ قالَ: قَسمتُهُ لَكَ، قالَ: ما علَى هذا اتَّبعتُكَ، ولَكِنِّي اتَّبعتُكَ على أن أرمى إلى ههُنا، وأشارَ إلى حَلقِهِ بسَهْمٍ، فأموتَ فأدخلَ الجنَّةَ فقالَ: إن تَصدقِ اللَّهَ يَصدقكَ، فلبِثوا قليلًا ثمَّ نَهَضوا في قتالِ العدوِّ، فأتيَ بِهِ النَّبيُّ يحملُ قَد أصابَهُ سَهْمٌ حيثُ أشارَ، فقالَ النَّبيُّ: أَهوَ هو؟ قالوا: نعَم، قالَ: صدقَ اللَّهَ فصدقَهُ» (صحيح النسائي، برقم: 1952).
وهذا رجاء بن حيْوة يقول: "أمرني عمر بن عبد العزيز أن أشتري له ثوبًا بستة دراهم فأتيته به فجسّه، وقال: هو على ما أحبّ لولا أن فيه لينًا، فبكى رجاء بن حيوة، فقال له عمر: ما يبكيك، قال أتيتك وأنت أمير بثوب بستمائة درهم فجسسته، وقلت هو على ما أحبّ لولا أن فيه خشونة، وأتيتك وأنت أمير المؤمنين ثوب بست دراهم فجسسته وقلت: هو على ما أحب لولا أن فيه لينًا! فقال: يا رجاء إنّ لي نفسًا توّاقة؛ تاقت إلى فاطمة بنت عبدالملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فَولِّيتُها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنّة، فأرجو أنْ أدركْها إن شاء الله عز وجل".
ولقد ارتفعت الهمم العالية بأصْحابها درجات وجعلَتْهم يُدرِكون أنَّ كلَّ شيء عدا الجنَّة صغيرٌ لا يُؤبَه له، واستَمِع إلى حديث التاريخ عن همَّة عبد الرحمن الداخل، الذي أُهدِيتْ له حين دخل الأندلس جارية يأخُذ حُسنُها بمجامع القلب والعقل، فنظر إليها وقال: "إنها من النظر والقلب بمكان، وإنْ أنا شُغِلتُ عنها ظلمتُها، وإنْ أنا شُغِلتُ بها ظلمتُ نفسي وهمَّتي، وأمَر بردِّها إلى أصحابها".
وإذا كانت النفوس كبارا *** تعبت في مرادها الأجسام
وقد يقول قائل أولئك قوم قد مضوا، ولم يأتهم ما أتانا من الملهيات، فأقول: في سيرة رجال ونساء في زماننا عبر؛ أحد الإخوة يحدِّثُ أن هناك أعمى وأصم وأبكم لا تفوته تكبيرة الإحرام، والعجيب أن الذي يقوده إلى المسجد ابنه وهو أصم وأبكم، ومع ذلك: الاثنان عندهما همة عالية للمبادرة إلى بيوت الله، والصلاة مع الجماعة، مع أنهما معذوران شرعا. بل وطفلة صغيرة شامية أثارت إعجاب معلمتها التي تحفظها القرآن في سوريا، وكانت المعلمة تعطيها مقدارا من الحفظ، فتحفظ مثله مرتين، فسألتها عن سبب ذلك، فقالت: يا أستاذة! نحن في هذا البلد لا يعلم الإنسان متى يستشهد! فتريد أن تقدم على الله وقد حفظت أكبر قدر من القرآن تستطيعه.
ومن حاول الأمر المحال بعزمه *** ينله ومن يعجز عن الحزم يحرم
أيها المسلمون: لضعف الهمة أسباب، ولمداخل الهوان أبواب، والعاقل من يتجنبها، والمحظوظ من يتوقاها، فمن أسباب دنو الهمة: التربية المنزلية للابن والبنت؛ ولذا قال ابن القيم يرحمه الله: "وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيت عامته من الآباء". وكذلك البيئة والمجتمع؛ {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]، فإذا وضع الإنسان نفسه؛ ليقارن بها مجتمعه في كل تصرف من تصرفاته، فإن همته لا تتجاوز صيوان أذنه غالبا.
ومن الأسباب: قلة وجود المربين الأفذاذ والمعلمين القدوات، -وهذا مما يؤسف له والله- فتجد من المعلمين من لا هم له إلا إلقاء الدرس فحسب، بغض النظر عن توجيه طلابه وتربيتهم، والنصح لهم. وبعض منهم ضعيف النفس، مهزوم الوجدان، ضيق النظرة، ولذا فمن يتربى على هؤلاء سيخرج ضعيف النفس، قانعا بالدون.
ومن الأسباب: قلة التشجيع، فكثيرا ما يبرز أحد في مجال من العلم أوالصناعة أو الحرفة، ثم لا يجد من يأخذ بيده، ويعينه على نفسه، ومن أعظم الأسباب: صحبة البطالين، ومرافقة المخذلين؛ فهُم يحسنون القبيح، ويقبحون الحسن، ويجعلون الفشل بين عينيه.
وأشد ما يلقى الفتى من دهره *** فقد الكرام وصحبة اللؤماء
ووسائل الإعلام لها الأثر الأبرز في هذا؛ إذ -غالبها- يجعل همة الإنسان في قدمه، أو لسانه، أو منظره، وتجعل همتها في جسدها، ولبسها، وهيئتها، فأظهروا لنا نجوما كاسفات، وقدوات مغشوشات، ورموزا مزورات، فصارت همة فتياننا وفتياتنا -بل وكثير من شيبنا وعجائزنا- في تتبعهم، والنظر في أخبارهم.
ومن الأسباب: انحراف مفهوم كثيرين في الإيمان بالقدر؛ فإذا أتت الأمور على ما يريد، حمد الله، وإذا أتت على خلاف ما يريد تعزى بقدر الله، ولكن الأمر ليس كذلك، فالإيمان بالقدر يحمل على الجد، ويدعو للأخذ بالأسباب، بل ما يتقوَّلُه كثيرون إنما هو طلب للراحة المزعومة بالاستسلام للأقدار، دون مدافعتها بالأسباب المشروعة والمباحة.
وهناك أسباب كثيرة يضيق الوقت عن سردها..
أيها المسلم: إذا أردت أن تعلو همتك؛ فاجتنب من أسلفت لك من الأسباب، وزد عليها: الصبر، فإنه علاج ناجع، ودواء نافع: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]، والوصية بالصبر من أكثر الأمور ذكرا في القرآن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «ومَن يتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ» (رواه البخاري).
والصبر مثل اسمه مر مذاقته *** لكنْ عواقبُه أحلى من العسل
وكن عزيز النفس، متفائلا بمستقبلك الديني والدنيوي، جادا في حياتك، مستشعرا للمسؤلية، مطالعا لسير الأبطال والأفذاذ والمصلحين، وغيرهم من ذوي الهمم العليّة. وانتهز الفرص، فإن فواتها لا يعوض، وانتظارها ليس من العقل، ولكن استغلالها علامة على العقل، وعنوان الحزم، ومهما حفظ الإنسان من الحكم، وكانت رغباته صالحة، فلن تتحسن أخلاقه وتقوى إلا إذا انتهز كل فرصة تسنح له.
واسمع للكلام القيم من العظيم ابن القيم حين يقول: "فكيف يحسن بذي همة قد أزاح الله عنه علله، وعرفه السعادة والشقاوة أن يرضى بأن يكون حيواناً، وقد أمكنه أن يصير إنساناً، وبأن يكون إنساناً وقد أمكنه أن يكون ملَكاً، وبأن يكون ملَكاً وقد أمكنه أن يكون ملَكاً في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فتقوم الملائكة في خدمته، وتدخل عليهم من كل باب {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24]، وهذا الكمال إنما يُنَالُ بالعلم ورعايته والقيام بموجبه، وأعظم النقص نقص القادر على التمام وحسرته على تفويته، فَثَبَتَ أنه لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلاً عن الفضائل الدينية، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، فمن كان كذلك فهو من الهمج الرعاع.. إن عاش عاش غير حميد، وإن مات مات غير فقيد، وفقدهم راحة للبلاد والعباد، ولا تبكي عليهم السماء، ولا تستوحش لهم الغبراء".
مشاري بن عيسى المبلع