عناية الدولة بالعلماء في الحضارة الإسلامية
راغب السرجاني
والحقيقة أن الدولة الإسلامية لم تغفل يومًا دورها المحوري في مجال الاهتمام بالعلم، بل ربما كان هو الدور الغالب عليها، حتى إنك لتجد المدارس، والمعاهد العليا، والمكتبات العامة، وكذلك الخاصة، وقد ازدانت بها مدن العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه
- التصنيفات: التاريخ الإسلامي -
لا يقِلُّ دور الدولة في تنشئة العلماء عن دور الأسرة، بل إن دورها قد يفوق دور الأسرة في أحيانٍ كثيرة.. وقد يكون لزامًا على الدولة في سبيل بناء نهضتها، وفي سبيل قيادة مسيرتها نحو التقدم والاستقلالية، والبعد عن ذُلِّ التبعية، أن تحوز نصيب الأسد في كفالة العلماء، ورعايتهم وتنشئتهم، وتفقد أحوالهم.
صور من اهتمام الدولة بالعلماء:
والحقيقة أن الدولة الإسلامية لم تغفل يومًا دورها المحوري في مجال الاهتمام بالعلم، بل ربما كان هو الدور الغالب عليها، حتى إنك لتجد المدارس، والمعاهد العليا، والمكتبات العامة، وكذلك الخاصة، وقد ازدانت بها مدن العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه.
وفي ذلك يذكر التاريخ بكثير من الإكبار والإعجاب، جمًّا غفيرًا من خلفاء المسلمين وأمرائهم، الذين كان لهم دورٌ كبير في رعاية العلماء وطلاّب العلم.
ويأتي في مقدمة هؤلاء الخلفاء، الخليفة العباسي (هارون الرشيد)، الذي قال عنه عبد الله بن المبارك (عبد الله بن المبارك هو (أبو جعفر محمد بن عبد الله بن المبارك القرشي) بالولاء ت(254هـ/ 868م)، قاضي حلوان في (العراق)، من حفاظ الحديث الثقات. انظر(ابن ماكولا الإكمال [7/239] والزركلي (الأعلام [1/222]): "ما رأيتُ عالمًا، ولا قارئًا للقرآن، ولا سابقًا للخيرات، ولا حافظًا للحرمات في أيام بعد أيام رسول الله وأيام الخلفاء الراشدين والصحابة، أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثماني سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعِلم، ويروي الحديث، ويجمع الدواوين، ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة" (أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (الإمامة والسياسة)، وهو المعروف بتاريخ الخلفاء، [2/157]؛ ولم يكن ذلك إلا بكثرة إنفاقه، واهتمامه بالعلم والعلماء وطلابه منذ الصغر!).
ونظرة واحدة على عدد المدارس على اختلاف أقسامها، والبيمارستانات التي شُيِّدَت في عصر النهضة والحضارة الإسلامية تُوقِفُك على ما كان من دور الدولة في رعاية العلماء وتنشئتهم منذ الصغر.
فقد كانت هناك مدارس لتدريس القرآن الكريم وتفسيره، ومدارس للحديث الشريف، ومدارس للفقه، وأخرى للطب، كما كان هناك مدارس خاصة بالأيتام، كما مرّ بنا في الفصل الثالث من هذا الباب.
وبعد مرحلة الصغر كان للدولة الدور البارز أيضًا في الاهتمام بأبنائها العلماء ورعايتهم بما يليق ومكانتهم، فكانت أولاً توفر لهم من المرتبات ما يكفي لمعيشتهم عيشة هانئة، وهذا عدا ما كان يُعطَون من رواتب أخرى كحاجات معاشية، فقد كان الشيخ (نجم الدين الخبوشاني)، ممن عيَّنه السلطان (صلاح الدين) ليدرِّس في مدرسته الصلاحية، وقد جعل له كل شهر أربعين دينارًا عن التدريس، وعشرة دنانير للإشراف على أوقاف المدرسة، وستين رطلاً مصريًّا من الخبز كل يوم، وراويتين من ماء النيل كل يوم. (السيوطي: حسن المحاضرة [2/57]).
وكان من رواتب شيوخ الأزهر الشهرية، راتب يأخذه الشيخ لنفقات بغلته، إذْ كان من أوقاف الأزهر وقف خاص لبغلة الشيخ ونفقاتها. (مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص102).
ومثل هذا يُعَدُّ من أبواب تفريغ العلماء للتأليف والابتكار، وأيضًا تعليم الناس، وإفادتهم، دينيًّا ودنيويًّا، ومما يستحق التنويه به، أنه كان للمعلّمين في ذلك الوقت المبكر نقابة خاصة بهم، وكان جماعة المعلّمين هم الذين يختارون النقيب، وما كان يتدخل السلطان إلا إذا وقع خلاف بين الأعضاء فيصلح بينهم.
وفي ذلك يروي أبو شامة (أبو شامة: هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم (599- 665هـ/ 1202- 1266م)، محدث ومفسر وفقيه وأصولي ومقرئ. وُلد بدمشق ونشأ فيها، وتولى مشيخة دار الحديث الأشرافية. انظر: ابن عساكر: تاريخ دمشق [66/3]، والشاطبي: إبراز المعاني من حرز الأماني [1/1]) في الروضتين عن مقلد الدولعي أنه قال: "لما مات (الحافظ المرادي)، وكُنّا جماعة الفقهاء قسمين: العرب والأكراد؛ فمنّا مَن مال إلى المذهب، وأراد أن يستدعي الشيخ شرف الدين بن أبي عصرون (ابن أبي عصرون: هو عبد الله بن محمد بن هبة الله التميمي (492- 585هـ/ 1099- 1189م)، فقيه شافعي، ولد بالموصل، وانتقل إلى بغداد، واستقر في دمشق، فتولى بها القضاء سنة 573هـ. وإليه تنسب المدرسة "العصرونية" في دمشق)، وكان بالموصل، ومنّا من مال إلى علم النظر والخلاف، وأراد أن يستدعي (القطب النيسابوري)، وكان قد جاء وزار البيت المقدس، ثم عاد إلى بلاد العجم؛ فوقع بيننا كلام بسبب ذلك، ووقعت فتنة بين الفقهاء، فسمع (نور الدين) بذلك فاستدعى جماعة الفقهاء إلى القلعة بحلب، وخرج إليهم (مجد الدين بن الدّاية) نائبًا عنه. وقال لهم: "ما أردنا ببناء المدارس إلا نشر العلم، ودحض البدع، وإظهار الدين، وهذا الذي جرى بينكم لا يحسن ولا يليق". وقد قال المولى نور الدين: "نُرضي الطائفتين، ونستدعي الشيخين". فاستدعاهما جميعًا، وولَّى (شرف الدين)، المدرسة التي سُمِّيَت باسمه، وولى (قطب الدين) مدرسة النفري" (أبو شامة المقدسي: الروضتين في أخبار النورية والصلاحية ص17).
وفي مرحلة أخرى فإن دور الدولة في التعامل مع العلماء المبدعين كان له شأنٌ آخر، فهذا الخليفة الموحدي الثالث المنصور، يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن يُنشئ (بيت الطلبة) للنابغين ويشرف عليه بنفسه، حتى إن بعض حاشيته حسدوا هؤلاء الطلبة على موضعهم منه، وتقريبه إياهم، وخلوته بهم دونهم.
ولما بلغ ذلك (المنصور الموحدي) فزع وخاطبهم قائلاً: "يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمرٌ فزع إلى قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمرٍ فأنا ملجأهم، وإليَّ فزعهم، وإليَّ يُنسَبو". (المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص81).
فكان أن قامت دولة الموحدين، وسادت وعمَّت الأرجاء.
ولأبي عُبَيد القاسم بن سلام (أبو عبيد القاسم بن سلام: هو أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (157- 224هـ/ 774- 838م) من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقه، ولد بهراة، وتعلم بها، ورحل إلى بغداد ومصر، وتوفي بمكة. الذهبي: سير أعلام النبلاء 10/490-492)، قصة طريفة مع عبد الله بن طاهر (عبد الله بن طاهر: هو أبو العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي (182- 230هـ/ 798- 844م)، من أشهر الولاة في العصر العباسي، ولي الشام ومصر وخراسان وطبرستان وكرمان والري. توفي بنيسابور، وقيل: بمرو) تدل على تقدير الأمراء لعقول العلماء، وتكريم النابغين منهم، فإنه لما وضع (أبو عبيد القاسم بن سلام) كتاب (غريب الحديث) عرضه على (عبد الله بن طاهر)، فاستحسنه وقال: "إن عقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب حقيقٌ أن لا يُحْوَجَ إلى طلب المعاش"، ثم أجرى له كل شهر عشرة آلاف درهم. (الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد [12/406]، وابن عساكر: تاريخ دمشق [49/74]، وابن حجر: تهذيب التهذيب [8/284]).
وقد اشتهر أمر الجوائز العظيمة والهبات الجزيلة التي كان يمنحها الخلفاء والحكام للعلماء بهدف التشجيع على تحصيل العلوم، وكانت هذه الجوائز في صورة أقرب إلى الخيال، وكان من ذلك إعطاء وزن الكتاب المُترجَم من لغة غير العربية إلى اللغة العربية ذهبًا للعالِم الذي يقوم بترجمته. (ابن صاعد الأندلسي: طبقات الأمم ص48، 49).
وقد كان من جرَّاء ذلك أن نشطت حركة الترجمة، ونُقِلَت علوم هائلة على إثرها إلى المسلمين.
وأروع من ذلك ما قامت به الخلاقة العثمانية، وذلك حين نجحت في تجميع النابغين من جميع القرى والأمصار، ووفرت لهم الرعاية التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من فنٍّ وعلم؛ وهو الأمر الذي ساعد على ازدهار الدولة حضاريًّا وعسكريًّا حتى باتت الدولة الأولى في العالم.
ولم يكن اهتمام الدولة يقتصر على رعاية العلماء من أبنائها، بل كان الحكام يستدعون العلماء من شتى الأمصار ليستفيدوا من علومهم، ويسعدوا برعايتهم، فها هو الأمير (المُعزّ بن باديس)، أحد أمراء دولة (الصنهاجيين) في المغرب الإسلامي، كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره عنده، بل وجعله من خاصَّته، وبالغ في إكرامه، وعوَّل على آرائه، ومنحه أسمى الرُّتب. (ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ص129).
وها هو السلطان (محمد الفاتح)، لا يسمع عن عالم في مكانه أصابه عوز وإملاق إلا بادر إلى مساعدته، وبذَل له ما يستعين به على أمور دنياه. (علي محمد الصلابي: الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط ص140).
وإن هذه الصورة لتتضح في وصيته لابنه وهو على فراش الموت؛ فقد جاء فيها: "وبما أن العلماء هم بمنزلة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظِّم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحدٍ منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك، وأكرمه بالمال". (علي محمد الصلابي: الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط ص148).
وهذا ما وجدناه في تعامل الدولة مع كافة العلماء، لا فرق في ذلك بين المسلمين وغيرهم من أبناء الملل والعقائد الأخرى، فهذه أسرة (بختيشوع النسطورية)، كان أبناؤها أطباء الأسرة العباسية لقُرَابة 70 سنة، من زمن المنصور إلى المعتمد، فكانت لهم الرعاية والاهتمام الخاص (الزركلي: الأعلام 2/44، 45).
وكان من هذه الأسرة (جبرائيل بن بختيشوع بن جرجس) (ت 213هـ)، والذي كان طبيب هارون الرشيد وجليسه وخليله، حتى إنه ليقال: إن منزلته ما زالت تقوى عند الرشيد حتى قال لأصحابه: من كانت له حاجة إليَّ فليخاطب بها جبرائيل. (الزركلي: الأعلام 2/111)
وكذلك كان (ابن ميمون اليهودي الأندلسي) له رعاية واهتمام خاص عند (صلاح الدين الأيوبي)، وكان طبيبه الخاص. (الزركلي: الأعلام [7/329])
على أن الحكام والأمراء كانت لهم وسائل أخرى إذا لم يستطيعوا أن يجتذبوا العلماء، وكان من هذه الوسائل: شراء مؤلَّفات العلماء العلمية فور انتهاء أصحابها من تأليفها.
وعلى سبيل المثال فإنه لما سمع الحكم الخليفة الأموي بالأندلس بكتاب (الأغاني) المشهور الآن في الأدب، ما كان منه إلا أن أرسل إلى مؤلِّفه أبي الفرج الأصفهاني (أبو الفرج الأصفهاني: هو علي بن الحسين بن محمد القرشي الأموي الأصبهاني الكاتب، مصنف كتاب "الأغاني"، يذكر أنه من ذرية الخليفة هشام بن عبد الملك، وهو أصبهاني الأصل، بغدادي المنشأ. انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء [16/201]، وابن خلكان: وفيات الأعيان [3/307]) ألف دينار من الذهب ثمن نسخة منه ليرسله إليه في بلده، وكان له ما أراد؛ حيث أرسل إليه أبو الفرج بنسخة من كتابه المذكور، فكان أن قُرِئ الكتاب في الأندلس قبل أن يُقرَأ في العراق موطن المؤلف!
إن اهتمام الخلفاء والأمراء وأصحاب الجاه والمكانة في الحضارة الإسلامية بالعلماء، والاعتناء بهم، والتخفيف من آلامهم، وتفريغهم لنشر العلم، ليُدلل على أسبقية هذه الحضارة في احتضانها للعلماء، وهذا -بلا ريب- نقيض لما رأيناه في أوربا؛ من تقتيلٍ للعلماء، وحرق لمصنفاتهم، وإجبار المؤسسات الحاكمة للشعب -بمختلف طوائفه- للانصياع خلف خُرافات الكنيسة.