عين الغرب الرمداء في تركيا
أمير سعيد
هكذا الدول العظمى، إن مر بها حدث مصيري؛ فإن أنظار العالم كلها تتجه إليها. وما تراه العواصم المؤثرة في هذه الدولة أو تلك ليس حاضرها بالضرورة.
- التصنيفات: مواضيع إخبارية -
هكذا الدول العظمى، إن مر بها حدث مصيري؛ فإن أنظار العالم كلها تتجه إليها. وما تراه العواصم المؤثرة في هذه الدولة أو تلك ليس حاضرها بالضرورة، فمسمى الدول العظمى لا ينسحب على حالات الضعف أو القوة الآنية، وإنما يمتد عبر الزمن؛ فيظل العالم ينظر لتركيا كدولة خلافة ممتدة وإمبراطورية عثمانية قوية مهما اعتراها من ضعف آني، وكذلك هو الحال لدولة كمصر أو العراق أو الهند أو الصين وغيرها.
فالحق أن أوروبا لم تزل تذكر جيدًا قرون طويلة كان الأسطول العثماني يفوق جميع الأساطيل الأوروبية مجتمعة، وربما وصل إلى مرة ونصف المرة في بعض المعارك.. يذكر لمصر كونها كانت تمثل قوة دولية كبيرة على أكثر من صعيد.. وهكذا، وبرغم عدم إدراك كثير من أبناء جلدتنا لهذا، إلا أن الغرب لا يخطئ عينه هذا المعنى.. لذا، كان طبيعيًا أن يلقي الغرب بكل ثقله كي يخسر أردوغان وحزبه، لا سيما بعد أن بات مشروعه الإسلامي أكثر ظهورًا عن ذي قبل، وبدا أقل تحفظًا في طرح أفكاره وسياساته بشكل علني يجلي فيه المعنى (الإسلامي) الحضاري لعلاقات بلاده بدول كمصر وفلسطين وسوريا والبلقان، ويوجه لخصومه العلمانيين (صفعة عثمانية) مثلما قال في خطاب انتصاره، ويصدح بأشعار الشاعر التركي الكبير عارف نهاد: "المآذن حرابنا والقباب خوذنا"، والتي تسببت من قبل في سجنه ومنعه من مزاولة السياسة لسنوات من قبل.
ولقد كانت قسمات وجه الغرب واضحة في كلاحتها وتجهمها، وهي تنازل أردوغان ومشروعه من خلف وجوه تركية علمانية أو متدثرة برداء الإصلاح الديني، إذ إن حالة التحفز لم تكد تغيب عن ناظري من تابع تعاطي الإعلام الغربي وسياسييه مع أحداث (منتزه غزي) بميدان تقسيم في إسطنبول الذي حاولت مجموعات طائفية علوية وشيعية إمامية تسميم الحالة السياسية التركية في مسعى لتحويل الاضطرابات لعنف ثم فوضى ثم تثوير قطاعات من الشعب التركي لإحداث انقلاب عسكري/قضائي بغلاف شعبي؛ فالملاحظ أن كبريات الشبكات المتلفزة الغربية والصحف الرئيسة قد ضخمت من أحداث غزي ونقلتها بصورة مجتزأة توحي بأن إدارة أردوغان كانت عنيفة في تعاملها مع المحتجين بخلاف ما تتعاطاها تلك القنوات والصحف مع أحداث أكثر منها ضراوة ربما بمئات المرات في بلدان أخرى يتحالف الغرب مع نظمها الاستبدادية العسكرية.
ومما يستشف من قلق الغرب حيال صعود الإسلام بتركيا ما نقلته صحيفة (جيروسلم بوست) في عددها الصادر في 25 مارس الماضي (أي قبل إجراء الانتخابات المحلية في تركيا)، عن ميخائيل روبين، الباحث في مركز (إنتربرايز)، والذي شغل مواقع حساسة في وزارة الدفاع الأمريكية في السابق، قوله: "إن فشلاً مدويًا لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات فقط يضمن إصلاح مسار العلاقة الأمريكية التركية". وكحالة مشابهة لمرحلة الرئيس محمد مرسي، التي اعتبرها أوباما لا تمثل مصر حينها حليفًا ولا عدوًا؛ فإن روبين الذي لا يتحدث من تلقاء نفسه يؤكد على أن "الأمريكيين باتوا يدركون حقيقة الواقع الجديد، فتركيا تقريبًا انتقلت من طور الحليف إلى طور العدو".
وإذا غضضنا الطرف عما يقوله روبين وغيره من الباحثين الذين يعبرون من طرف خفي عن سياسة أمريكية وغربية واقعية؛ فإن مجرد رصد ما يرشح من تعليقات الحكومات الغربية في موضوعات مست الأحداث الأخيرة، أو طريقة تعامل دول غربية كفرنسا مع موضوع مطالبة تركيا بالاعتذار عما يفترضون أنها (مذابح للأرمن) إبان فترة حكم نظام حزب (الاتحاد والترقي) الماسونية في تركيا منذ مائة عام تقريبًا، والذي ستحين ذكراها هذا الشهر ويتوقع أن تكون مثار جدل أوروبي من جديد.
في مقابل ذلك؛ فإن حصول انقلابات أو تجديد هزلي للحكم في بلدان تدعي أنها جمهورية في العالم العربي وتواصل التمديد لأشباه أموات تغطية لحكم جنرالات، ودهس الديمقراطية في بلدان عربية، لا يكاد يثير حفيظة الغرب الذي يواصل تسليح تلك الدول بأدوات القمع ويغض الطرف عن انتهاكاتها الفاضحة في مجال حقوق الإنسان، سواء عبر المجازر الدموية الرهيبة أو الإعدامات الجماعية أو التعذيب أو الاعتقالات بالآلاف أو إصدار أحكام قضاء هزلية.
وبرغم الحذر الشديد الذي يبديه الغرب إثر إعلان النتيجة الفاضحة للقوى العلمانية في الانتخابات المحلية التركية، كون العملية الانتخابية كانت ديمقراطية بامتياز؛ فإن في لحن القول يبدو القلق صاعداً، حين يبدو أن تعليق الصحافة على مسألة حجب تويتر ويوتيوب لفترة زمنية قصيرة كان محل اهتمام ولمز العديد من الصحف الأوروبية، وكذلك ما لوحظ من حدة خطاب أردوغان وتهديده بملاحقة خصومه العلمانيين الموالين للغرب؛ فيما اختارت الجارديان أن تلفت الانتباه إلى المشاركة الشعبية الواسعة في الانتخابات والتي بلغت نسبة 92% ممن يحق لهم التصويت، وهو رقم بالفعل أزعج الغرب كثيرًا بالنظر إلى الحشد الهائل لأردوغان ومشروعه في قلب أوروبا التي بدأت تعاني تراجعًا في الاهتمام بالانتخابات، وتنسحب السياسة من اهتمامات شعوبها.
أردوغان إذن يكتسب حصانة شعبية متزايدة، ورمزية جعلته في وضعية موازية لرمزية أتاتورك في تركيا، بل ربما زادت الآن، وصار استيضاح التوجه (الإسلامي) لحكومتها وزعيمها أردوغان ليس أمرًا عسيرًا في لحظة لا تأتي فيها الرياح بما يشتهي الربان التركي؛ فالغرب وحلفاؤه الإيرانيون والسوريون بدؤوا يتهمون حكومة تركيا بـ(دعم الإرهاب) بسبب توفير الحماية للاجئين السوريين، وتوفير الملاذات الآمنة لحركات المقاومة السورية التي بدأت تحقق نجاحات غير مسبوقة في الساحل السوري بالقرب من الحدود التركية، بما يعزز التكهنات الغربية بأن الثوار السوريين ما كانوا ليحققوا هذا القدر من التقدم ما لم يكونوا يحظون بدعم عسكري ولوجيستي من الحكومة التركية، التي بدا أنها جاهزة لعمل عسكري ربما تلجأ إليه في محيط ضريح سليمان شاه جد مؤسس الدولة العثمانية في محافظة حلب، بما يؤكد للغرب مجددًا أن الدولة العثمانية لن تكون مجرد تاريخ.. بل ربما واقع قادم.
الغرب لا يرقب هذا باستخفاف، بل تبدو كثير من المؤشرات على أنه ماضٍ قدمًا في إطاحة حكومة أردوغان، ولئن فشل في محطات فهو عازم على معاودة المحاولة، وسيكون ذلك ربما قريبًا جدًا.. لننتظر إذن أول المحاولات في 24 إبريل الحالي، مع ذكرى (مذبحة الأرمن)، أو لننتظر مناسبات أخرى، وافتعالات جديدة.
30/5/1435 هـ