رمز العفّة (يوسف عليه السّلام)

منذ 2014-04-03

رغم إبتلاءته طوال حياته، إلا إنه لم يرى من ذلك كله إلا تلخيصاً من الله له من شرّ الدنيا.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هو نبيٌ من أنبياء الله عليهم أفضل الصلاة والتسليم، اختارهم الله بسابق علمه لاستحقاقهم لحمل الأمانة، والدعوة له، وتوصيل الرسالة، فهم خير البشر على وجه الأرض، ولذلك تجدهم دوماً رموزاً لصفات ومعاني بشرية وصلوا لمنتهاها. واجتمعت كلها في خاتمهم، نبينا ورسولنا محمد صلوات ربّي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.

يوسف عليه السلام؛ كريم النَّسب والخلق:

فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وذلك عن عبد الله بن عمر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيم» عليهم السلام (رواه البخاري). وهذا هو كرمُ نسبه.

أما عن كرمُ خلقه.. فها هو أبوه يحبّه حبُّاً كبيراً عن سائر إخوته، مما ولّد لديهم الحسد والضغينة له، حتى قرّروا أن يمكروا به.

قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ . اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:8-9].

وهو في تلك الصفة.. وهي كرم النسب والخلق، أقرب ما يكون من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

رمز العفة والخوف من الله واستحضار مراقبة الله:

فهو رمز للعفة والطهارة، والخوف من الله، فلا نجد خيراً منه رمزاً ومثلاً؛ لما جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله «..وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ..» (متفق عليه).

فها هي إمرأة العزيز تراوده وهي ذات منصب وجمال، كما أنها هيأت له كل السبل التي تحقق لهما الخلوة التامة ، ودون أن يكتشف ذلك أحداً، ولكنه يأبّى ذلك لاستحضار مُراقبة الله له وخوفه من غضبه.. {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِه? وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ . وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:23-24].

والجدير بالذكر قول الشيخ أبو إسحاق الحويني حفظه الله في كلمة مخلصين وهو: "أن الله استخلصه لنفسه، فكرمّه وحفظه من الوقوع في الفاحشة".

آتاه الله حكماً وعلماً وعلّمه من تأويل الأحاديث:

ويظهر ذلك واضحاً منذ صغره، فيرى رؤيا في المنام عن سجود الشمس والقمر والنجوم له، وهي رؤيا صادقة تحققت فيما بعد.

والتي دلّت على نبوته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصادقة أو الصالحة جزءٌ من سبعين جزءاً من النُّبُوة» (صحيح مجمع الزوائد).

وها هو يفسر رؤيا الفتيان اللذان دخلا عليه السجن ورؤيا الملك أيضاً.

وأيضاً حين رزقه الله الذكاء والحكمة ليكيد بأخوته ليأخذ أخوه في كنف الملك.

قال تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِه إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36].

وقال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف:46].

وقال تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].

يصبر على الإبتلاء والمحن، ولا يُنسب ذلك إلى الله:

صبر على بُعدِه عن أبويه في صغره وهو في أمس الحاجة لعطفهم وكنفهم ، وصبر على مكوثه في السجن رغم برائته.

الذي فضله واختاره عن الوقوع في الفاحشة وطالما أن في ذلك رضى الله عنه: {قَال? رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. وصبر حين نسيَ الفتى تبليغ مولاه بيوسف ومكث في السجن بضع سنين أخرى، ولم يعترض على قدر الله له: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42].

وصبر أيضا على ظلم إخوته له لما إفتروا عليه بالسرقة حين دخلوا عليه ولم يعرفوه ، وكتم غيظه. {قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77].

الدعوة إلى الله في الشدة:

فحين دخل السجن رغم برائته وهمّه ، لم ينسَ واجبه.. وهو الدعوة إلى الله.

فحين دخل عليه الفتيان وطلبا منه تفسير رؤياهما، استغل فرصة شغفهم للإستماع لحديثه، وآذانهم الصاغية له، فبدأ بدعوتهم إلى توحيد الله تعالى.

وذلك من حكمته وفطنته.. ويالها من أمور هامة في الدعوة!!

قال تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:39-40].

حافظ لحرمات الغير، ولا يفضح الآخرين:

وذلك من كرم أخلاقه عليه السلام، فلم يحدّث بفعل إمرأة العزيز معه، وإن كانت إفترت عليه بالفاحشة، ولكنه لم يتكلم بذلك الأمر أو يحاول تبرئة نفسه رغم برائته، واكتفى بدخول السجن عن تلبية مطلبها منه، وإن كانت تكررت محاولتها باغوائه أكثر من مرة. {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29].

عفوٌ ومتسامح:

عفى عن كل من ظلمه في حياته وصفح عنهم، رغم ظلمهم البيّن له والذي غير مجرى حياته!!

عفى عن إخوته رغم كيدهم به الذي أدّى إلى حرمانه من أبويه في الصغر، بل ومن كيدهم كادوا يقتلوه!!

ولكنه صفح صفحاً جميلاً عنهم بكل صفاء ونقاء.

فقال لهم: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].

وعفى عن إمرأة العزيز وفعلتها ولم يفضحها، رغم أنها كانت السبب في دخوله السجن رغم برائته ومكوثه فيه بضع سنين، حتى إعترفت بفعلتها وبرّأه الله من كيدها. فقالت: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51].

شاكرٌ وحامدٌ لله على نعمه:

رغم إبتلاءته طوال حياته، إلا إنه لم يرى من ذلك كله إلا تلخيصاً من الله له من شرّ الدنيا.

أخذ من أبويه في صغره وحُرِم َمنهما، لم يرى فيه إلا الخير بخروجه من البدو إلى مصر، وكيف أصبح أَميّناً على خزائن مصر وأصبح ذو مكانة وشأن.

ودخل السجن رغم برائته، فلم يرى في ذلك سِوى حفظ الله له من مكر النساء والبعد عن كيدهن، وكيف أخرجه الله من السجن وأتى بأهله من البدو إلى الرغد والحضر.

قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:100-101].

قال تعالى في أوّل السورة الكريمة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:1].

وقال في آخرها: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُد?ى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].

وهذا هو المُراد من سردِ قصص الأنبياء.. الإتّعاظ منها وأخذ العِبَر، ومحاولة التأسي بهم قدر المستطاع في أخلاقهم.

عسى أن نكون خير أُمّة.. وأن نحظى بمرافقتهم في الجنة

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أم جويرية

باحثة شرعية وصاحبة مدونة إسلامية (رحمها الله)

  • 12
  • 2
  • 60,409

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً