المُفْتُون المَفْتُونُون

منذ 2014-04-03

قال أحد العلماء: "عظم أمر الفتوى وخطرها وقلّ أهلها ومن يخاف إثمها، وأقدم عليها الحمقى والجهال، ورضوا فيها القيل والقال، واغتروا بالإمهال والإهمال".

لقد ميّز الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم والعلماء، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الأمناء على دينه وشرعه، وحينما يُفتقد العلماء في الأمة أو يتطاول على مقامهم ومهنتهم أو تخرُس ألسنتهم عن أن يصدعوا بالحق، فإن الأمة حينها تهلك في مهاوي الضلال؛ لأنه سيقوم في الناس من يفتي في شرع الله بغير علم فيَضل ويُضل، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (صحيح البخاري) .


وإن أعظم مقام يقومه العلماء في الناس هو التوقيع عن رب العالمين بالحلال والحرام، وقد ارتضى الله سبحانه وتعالى هذا المقام الرفيع لنفسه،فقال: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء:127]، وقال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:176].


ثم تولاه رسل الله وأنبياؤه يبلغون عن رب العالمين شرعه وأحكامه ومراده، فقاموا بذلك أحسن قيام ثم ورّثوا هذا العلم لمن بعدهم من العلماء الربانيين، فقاموا في الناس مقام الأنبياء بالتبليغ عن رب العالمين، فكان لزامًا على من تولى هذا المقام أن يكون في المكان الرفيع من العلم والصدق والديانة.


يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "لما كان التبليغ عن الله يعتمد العلمَ بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالمًا بما يبلغ صادقًا فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة مرضيّ السيرة عدلًا في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكر فضله ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات" اهـ.


إن هذا المقام الرفيع هابه أكابر العلماء من سلف هذه الأمة فكان أحدهم لا تمنعه شهرته وعلو شأنه بين الناس أن يقول: لا أدري حين يُسأل عما لا يعلم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حين يُسأل المسألة فلا يجيب حتى يسأل جبريل.


إن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم علموا علم اليقين أن الفتيا بغير علم كذبٌ على الله وافتراءٌ عليه، فهابوا ذلك وخافوا منه امتثالًا؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116]، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].


ولأجل ذلك تورع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الورع عن أن يقولوا على الله بغير علم وهم خير من يبلغ عن الله بعد أنبيائه، فها هم الخلفاء الراشدون مع ما آتاهم الله من سعة العلم وطول الصحبة يجمعون خيار الصحابة وعلماءهم إذا وردت عليهم المسائل والمشكلات، بل إن بعضهم يدفع الفتوى عن نفسه إلى صاحبه لعله يكفيه إياها.


قال البراء رضي الله عنه: "لقد رأيت ثلاثمئة من أهل بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبُه الفتوى".
وقال ابن أبي ليلى: "أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يُسأل عن شيء إلا ودّ أنّ أخاه كفاه".
وقال عطاء بن السائب: "أدركت أقوامًا إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم وإنه ليرعد".


وهكذا كان التابعون لهم بإحسان يعظمون شأن الفتيا والجرأة فيها ولهم في ذلك مواقف عظيمة:
- يقول نفيس بن الأشعث: "كان محمد بن سيرين إذا سئل عن شيء من فقه الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان".
- وقال داود: سألت الشعبي كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم؟ قال: على الخبير وقعت كان إذا سئل الرجل قال لصاحبه أفتهم فلا يزال حتى يرجع إلى الأول.
- وقال الشعبي والحسن البصري: "إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر".
- وقال يحيى بن سعيد: كان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتي فتيا ولا يقول شيئًا إلا قال: "اللهم سلمني وسلم مني".
- وسئل الشعبي عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل له: ألا تستحي من قول لا أدري وأنت فقيه العراق، فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32].
- وسئل مالك عن مسألة، فقال: لا أدري. فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة فغضب، وقال: "ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5].
- وقال ابن المنكدر: "العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم".
- وقال ابن عيينة: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا".
- وقال مالك: "من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار كيف خلاصه ثم يجيب".
- وقال أبو حنيفة: "من تكلم في شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله لا يسأل عنه كيف أفتيت في دين الله فقد سهلت عليه نفسه ودينه".
- وكان أبو الحسن القابسي ليس شيء أشد عليه من الفتوى، وإنه قال عشيةً من العشايا: "ما ابتلي أحد بما ابتليت به أفتيت في عشر مسائل".
- وسئل مالك عن اثنتين وعشرين مسألة فما أجاب إلا في اثنتين بعد أن أكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
- وذكر الحافظ ابن عبد البر عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وكان من الفقهاء أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه -أي: الجواب-، ثم قال القاسم رحمه الله: والله لأن يقطع لساني أحب إلي من أن أتكلم بما لا علم لي به.


هذا هو شأن الأئمة الربانيين الكبار الذين خافوا مقام ربهم واستعظموا الافتراء عليه والكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم فأكثروا من قول: "لا أدري"، مع أنهم أحق الناس بالفتيا وبيان الحق، ولكنه الورع والديانة وتعظيم الله وتعظيم حرماته.


أما زماننا اليوم، فكما قال أحد العلماء: "عظم أمر الفتوى وخطرها وقلّ أهلها ومن يخاف إثمها، وأقدم عليها الحمقى والجهال، ورضوا فيها القيل والقال، واغتروا بالإمهال والإهمال".


كم تعاني بلاد المسلمين عامة من جرأة ليس لها مثيل على دين الله، فمقام الفتوى الذي هو مقام الأنبياء ومقام ورثتهم من العلماء تجرأ عليه الكثير من الحمقى والسفهاء، والصغار والكبار ومن لا عقل له ومن اغتر بعقله ومن لا دين له ومن اغتر بعبادته، حتى بعض المفكرين والصحفيين والإعلاميين والأدباء والشعراء والأطباء حتى أصبح مقام الفتوى مهنة من لا مهنة له، بل للأسف حتى الفساق والسخفاء من المغنين والمغنيات والمهرجين والمهرجات تناقلت وسائل الإعلام فتاواهم وكذبهم على الله ورسوله  صلى الله عليه وسلم.


فهل بعد هذا العبث من عبث بمقام الفتوى؟!


لقد عانت وتعاني أمة الإسلام من الحكم بغير ما أنزل الله وتضييع الحدود والتعدي على المحارم والأخلاق وإهدار الدماء وإزهاق الأرواح بغير حق كل ذلك وغيره كثير كان من أعظم أسبابه أن الذين استباحوا محارم الله وتعدوا حدوده كانوا قد استباحوا مقام العلماء الربانيين ومقام الفتوى، بل إنهم سفهوا العلماء وقدحوا فيهم وردوا عليهم فتاواهم ولم يأبهوا بها فانفرط بذلك عِقد الفتوى، وانفلت على إثره زمام الأمن والأخلاق والاقتصاد وضاقت على الناس معايشهم واختلط الحق بالباطل والحابل بالنابل حتى لم يعد للفتوى مقام يحترم، فأصبح كثير من العامة والخاصة لا يقيمون لفتوى العالم ولا للجهة العلمية وزنًا، وأصبح لكل قناة إعلامية ولكل صحيفة سيارة مفتوها.


وكثر المبطلون، المطبلون بغير علم ولا ورع حتى أصبحتَ تسمع وترى كثيرًا من الناس وهو متحيرٌ لا يدري من يسأل ولا لمن يسمع في أمر دينه وفي الحلال والحرام.
وأصبحت سقطات العلماء وزلاتهم دينًا متبعًا، وأصبح تتبع الرخص ومتابعة المميعين لأوامر الشريعة الواضحة البينة موضةً وسبقًا إعلاميًا تتسابق إليه وسائل الإعلام لتضرب أقوال العلماء بعضها ببعض حتى اختلطت الأمور على الناس، وتساهل البعض في محارم الله وحرماته، واستسهلوا الوقوع في المحرمات والتلبس بها بحجة أن فلانًا يقول كذا وفلانًا يبيح كذا.


إن هذا العبث الذي نشاهده اليوم في شأن الفتوى سوغ لكثير من الناس التساهل في أن يطلق لسانه بالفتوى وهو لا يشعر، فكم نسمع في مجالسنا من عوام الناس من يقول هذا حلال وهذا حرام، وما هذه الجرأة على الله وعلى دينه إلا لأن مقام الفتوى انتهك ولم يعد له حرمته كما كان في سلف الأمة.


إن هذا المقام الرفيع قد انتهكه أصناف من الناس يفترون على الله الكذب علموا أم لم يعلموا، ومن هذه الأصناف وأولها وأعظمها خطرًا:

علماء السوء الذين لهم حظ من العلم لكن لا حظ لهم من الورع والدين والخوف من الله، فهم مفتون مفتونون غرتهم الدنيا، فنبذوا العلم وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا فشابهوا اليهود الذين بدلوا دين الله وكذبوا على الله وهم يعلمون، فزينوا للظالم ظلمه ولم يقوموا بما أوجب الله عليهم من قول الحق أو الكف عن قول الباطل فاغتر بهم العامة والخاصة، واختلت بسببهم معالم الشريعة وانحرفت بسببهم أفهام الناس، فهؤلاء وإن اغتر بهم بعض العامة وتزينوا بزيّ العلماء ولبسوا عمائمهم إلا أنهم ممقوتون عند الله متوعدون بالعذاب الأليم إن لم يتداركهم الله برحمته.


وصنف آخر من هؤلاء المفتين المفتونين هم بعض صغار طلاب العلم ممن أوتوا شبرًا أو شبرين من العلم ولم يؤتوا إيمانًا فتاهوا وأعجبتهم أنفسهم بسبب تقدير العامة لهم، فأعطوا لأنفسهم الحق في الفتيا، وتجرؤوا عليها شيئًا فشيئًا حتى أصبحت شهوة للنفس لا يستطيعون الفكاك عنها، والسبب في زيغانهم أنهم تعلموا العلم قبل الإيمان. يقول جندب بن عبد الله: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا" أخرجه ابن ماجه.


وصنف آخر من هؤلاء المتجرئين على الفتيا بعض الوعاظ والقصاص الذين يعظون الناس ويذكرونهم بالجنة والنار ويخوفونهم بالله فتجد بعضَ هؤلاء تغرّه نفسه ويقوده جهله إلى القول على الله بغير علم، ومن أسباب فتنته سؤال الجهلة له ظنًا منهم أن كل من قام ليعظ الناس أو من تظهر عليه علامات التقوى والورع أنه أهل للفتيا فمع كثرة السائلين يستسهل الجواب ثم يستعذبه حتى يصبح ديدنه فيضل الناس بغير علم.


ومن هذه الأصناف التي جرأت على الفتيا بغير علم قومٌ غرتهم درجاتهم العلمية أو مكانتهم الأدبية والفكرية أو ثقافتهم العامة أو وظيفتهم الإعلامية والصحفية حتى خاضوا غمار الفتيا بقراءتهم لكتاب أو كتابين أو مسألة أو مسألتين، وأخذوا يدندنون ببعض الكلام كحرية الفكر ولا كهنوت في الإسلام وما أشبه ذلك فسولت لهم أنفسهم أحقيتهم في أن يفتوا في دين الله، وأن يبينوا للعامة قضايا الحلال والحرام عبر وسائل الإعلام متجاوزين بذلك حدود الله ومتجاوزين كذلك قضية التخصص التي لطالما قدسوها وليتهم عملوا بها.


إنك لتعجب من بعض الصحفيين والمفكرين في بعض وسائل الإعلام، ما من قضية من قضايا العلم إلا وخاض غمارها، فمرة تجده فقيهًا، ومرة مفسرًا، ومرة طبيبًا، ومرة محللًا سياسيًا أو اقتصاديًا، ومرة عالم ذرة، ثم ما إن يسمع بعالم من علماء المسلمين أو فقيهًا من فقهائهم تكلم في السياسة أو في بعض القضايا الاقتصادية إلا ويصب جام غضبه عليه ويسفهه ويدعوه إلى ألا يتجاوز تخصصه، وكأنه يقول بلسان حاله: كل العلوم يجب أن يحترم جنابها فلا يخوض فيها إلا أهلها إلا علم الكتاب والسنة فحماه مستباح لكل أحد، ثم إنك لتعجب مرة أخرى من هؤلاء حين يعيبون على الشباب الأغرار الذين تجرؤوا على الفتيا بالتكفير والتفجير، وتركوا الرجوع لأهل العلم ثم هم يمارسون نفس الدور بالجرأة على الفتيا وعدم الرجوع للعلماء، بل ويصمون علماءنا بالجمود والانغلاق والرجعية.


وصنف آخر من هؤلاء الذين تجرؤوا على مقام الفتوى هم المنافقون العلمانيون الذين لا يرون للإسلام ولا لشريعة رب العالمين حقًا في أن تحكم الناس في جميع شؤون حياتهم، ثم هم مع ذلك حين يكون الحق موافقًا للهوى، يأتيك الواحد منهم مذعنًا متبجحًا فيفتي الناس بفتوى توافق ما في نفسه ثم يشنع، بل ويرد على العلماء المخالفين، وحين لا يجد ما يوافق هواه ينقلب على عقبيه ويسخر بشرائع الدين وأخلاقياته، فهم كما قال ربنا سبحانه عنهم وهو أعلم بهم: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ . وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:48-50].


وهذا الصنف من المنافقين لم يكتف بنقل فتاوى بعض أهل العلم التي توافق هواه بل تجرأ هو بنفسه على الخوض في كلام الله وكلام رسوله فيرد هذا الحديث ويحرف تلك الآية حتى خرج لنا بعضهم بفقه عجيب يستبيح به موالاة اليهود والنصارى ومحبتهم والخنوع لهم كما يستبيح للمرأة المسلمة خلع حجابها وأن تتبرج بزينتها وتخالط من تشاء، بل وتخلو بمن تشاء.


وصنف آخر من هؤلاء المفتين المفتونين شباب دفعهم الحماس والحمية لدين الله على أن تجاوزوا مقام العلماء الربانيين، بل وتنقصوهم ورموهم بالتهم وأطلقوا ألسنتهم بالتكفير والتفسيق، بل واستباحة الدماء دونما تنبه لخطورة ما يقومون به، ثم إن أحدهم حينما تُعرض عليه بعض مسائل الطهارة والصلاة يتوقف عن الفتيا فيها تورعًا، فأي ورع هذا الذي يكفه عن القول في مسائل الطهارة بينما لا يكفه عن الخوض في مسائل الكفر والدماء.


إن الحماس والحمية للدين والغيرة على المحارم والجهاد في سبيل الله ليس مسوغًا لكل أحد أن يتجاوز مقام الفتيا، فيقول على الله بغير علم.
فكم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من العباد والمجاهدين والغيارى على دين الله، ولكن لم نسمع لأحد منهم فتيا أو قولًا في مسألة من مسائل الدين، وما ذاك إلا لأنهم يعلمون مقام العلم والفتوى وخطورة القول على الله وعلى رسوله بغير علم.


كما أن هناك آدابًا وواجبات لا بد للمستفتي أن يتحلى بها، ذكرها أهل العلم من أهم هذه الواجبات أن يحرص إذا نزلت به نازلة على سؤال أهل العلم المعروفين بالدين والورع العالمين بالكتاب والسنة، فإن الفتيا دين كما قال ابن سيرين: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم".
وقال يزيد بن هارون: "إن العالم حجتك بينك وبين الله تعالى فانظر من تجعل حجتك بين يدي الله عز وجل".


وعلى المستفتي أيضًا أن يحذر من الهوى في تتبع زلات العلماء أو رخصهم حسب شهوته وهواه أو أن يضرب أقوالهم بعضها ببعض.
كما على المستفتي أن يوقر العالم ويتأدب معه ويحسن السؤال والاستماع حال سؤاله وجوابه وأن يحفظ لسانه عن الوقيعة في العلماء إذا بدر منهم خطأ عن اجتهاد، وأن يدعوا لهم بالسداد.


وختامًا لنتأمل هذا الحديث العظيم، عَنْ عَلْقَمَةَ الليثي عَنْ بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
قَالَ: فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: "كَمْ مِنْ كَلاَمٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ". (أخرجه مالك في الموطأ، وأحمد في المسند بسند صحيح).

 

الشيخ فهد العيبان

المصدر: الدرر السنية
  • 0
  • 0
  • 7,781

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً