(4) إبراهيم عليه السلام وهدمه لأصنام قومه وإلقاؤهم إياه في النار
سهام عبيد
- التصنيفات: قصص الأنبياء -
لما لم يستجب قوم إبراهيم له عندما دعاهم إلى الله تعالى وإلى توحيده في المرة السابقة بعد أن بين لهم بالحجة الواضحة ضلالهم.. أراد أن يثبت لهم مرة أخرى بالحجة أن لا إله إلا الله وحده وأنه لا يوجد من يستحق العبادة غيره؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51].
وقد مدح الله سبحانه إبراهيم عليه السلام حيث إنه قد امتن عليه بالرشد والرسالة والخلة والاصطفاء في الدنيا والآخرة؛ لعلمه سبحانه أن إبراهيم عليه السلام كفء لهذا الأمر، ولذكائه حيث دعا قومه مرة أخرى وأثبت لهم بالبراهين العقلية الملموسة سفه ما يعتقدون، فقد وبخهم على ما يعبدون من تماثيل لا تنفع ولا تضر بل هم من يصنعونها.. فكيف بعاقل أن يعبد ما يصنعه وينحته بيديه؟! {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، وما كان جوابهم إلا أن قالوا أن هذا من فعل آبائهم وهم يسيرون على خطى السابقين في عبادتهم لتلك التماثيل.. ويا لها من حجة واهية.. حيث لا يجوز الاتباع سوى للرسل، وخصوصًا في أمور التوحيد والعبادة.
فرد عليهم إبراهيم عليه السلام بأن هذا ضلال بين وشرك صريح بالله الواحد الأحد؛ {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:53، 54]. فلما رأوا ذلك منه استهزؤوا به وقالوا: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55] أي: الذين لا يعقلون ما يقولون.
فمضى إبراهيم عليه السلام في كلامه ودعوته لهم وقال إن الله هو الذي خلق السموات والأرض وجميع المخلوقات وهذا هو الدليل العقلي على وجود الله سبحانه وتعالى، والدليل النقلي: بأنه سبحانه بعث إبراهيم رسولًا داعيًا إليه والرسل لا يكذبون ولا يخبرون على الله غير الحق، فهل يُعقل بعد كل هذا أن يشرك بالله مخلوق؟! {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56].
فلما أن رآهم ما زالوا يصرون على الكفر والعناد أقسم أن يهدم أصنامهم تلك حتى يكون ذلك حجة أكبر لهم على ضعف تلك الأصنام وأنها لا تملك لنفسها شيئًا ولا تستطيع الدفاع عن نفسها.. قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57].
وانتظر حتى تحين الفرصة المناسبة لذلك.. وجاء يوم عيدٍ لهم كانوا يخرجون للاحتفال به خارج البلدة.. فانتهز إبراهيم عليه السلام الفرصة ولم يخرج معهم لهذا العيد فلما كلموه وأرادوا أن يجبروه على الخروج معهم أخذ يفكر فيما يقوله لهم وفي النهاية تحجج لهم بأنه مريض ليتركوه وبالفعل تركوه وذهبوا لعيدهم.. قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ . فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:88- 90].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني سقيم} {بل فعله كبيرهم هذا} » (رواه البخاري ومسلم). قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزًا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: « »". ا.هـ. فهو عليه السلام لم يكن يقصد أنه مريض بدنيًا وإنما أراد أنه مريض القلب من عبادتهم الأوثان من دون الله عز وجل.
{فلما ذهبوا وتركوه أسرع عليه السلام إلى المعبد الذي فيه أصنامهم ووجد هناك بعض الطعام الذي وضعوه لتباركه لهم آلهتهم المزعومة.. فخاطب إبراهيم عليه السلام هذه الأصنام متهكمًا لِمَ لا يأكلون؟! بل لِمَ لا ينطقون؟! هذا إن كانوا آلهة كما يزعم قومه، قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ . مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} [الصافات:91، 92]. ثم قام عليه السلام بتكسير هذه الأصنام جميعًا وترك أكبر صنمٍ لهم ولم يكسره وذلك حتى يقيم عليهم الحجة؛ {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58].
وهنا لطيفة جميلة ذكرها الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره فقال: "وتأمل هذا الاحتراز العجيب، فإن كل ممقوت عند الله، لا يُطلَق عليه ألفاظ التعظيم، إلا على وجه إضافته لأصحابه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول: "إلى عظيم الفرس"، "إلى عظيم الروم" ونحو ذلك، ولم يقل "إلى العظيم" وهنا قال تعالى: {إِلا كَبِيرًا لَهُمْ} ولم يقل: "كبيرا من أصنامهم"؛ فهذا ينبغي التنبيه له، والاحتراز من تعظيم ما حقره الله، إلا إذا أضيف إلى من عظَّمه". ا.هـ.
فلما عادوا ووجدوا أن آلهتهم المزعومة قد تكسرت ذُهِلوا ودهشوا وأخذوا يتساءلون يا ترى من تجرأ على هذا الفعل الشنيع! وتذكروا أن إبراهيم عليه السلام هو الذي يُبغض هذه الأصنام وهو الذي يدعوهم لترك عبادتها وتوحيد الله سبحانه فقالوا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]. واتفقوا على أن يجمعوا كل أهل المدينة ويأتوا بإبراهيم عليه السلام ليؤنبوه ويوبخوه ويحكموا عليه بأشد أنواع العقاب لما فعله بآلهتهم، قال تعالى: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:61، 62]
وكانت هذه هي اللحظة التي ينتظرها إبراهيم عليه السلام ليقيم عليهم الدليل الواضح والحجة البينة أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئًا، فقال لهم إن هذا الصنم الكبير هو الذي كسر باقي الأصنام الصغيرة لأنه أنِف وتغيظ من أن تُعبَد هذه الأصنام الصغيرة معه فكسرها ليتفرد هو بالعبادة، وهذا الكلام من إبراهيم، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه.. وطلب منهم أن يسألوا تلك الأصنام التي تحطمت ليعلموا الحقيقة..
وهنا نظر بعضهم إلى بعض باستغراب وقالوا وكيف نسأل تلك الأصنام ؟! إنها لا تتكلم أتستهزئ بنا يا إبراهيم؟! فما أضلكم إذًا وأسفه عقولكم وأحقر بصيرتكم تلك التي اتخذت آلهة من دون الله! فلما لم يجدوا سبيلًا معه استخدموا منطق القوي المتغطرس في كل زمانٍ ومكان وحكموا عليه أن يُلقى في النار جزاء ما فعل بأصنامهم
قال تعالى: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:63- 68].
ولكن الله سبحانه وتعالى انتصر لخليله إبراهيم عليه السلام وأنقذه من هذه النار العظيمة التي جعلوها له وأخرجه سالمًا منها لم يُصبه أذى ولا مكروه.. وخرج عليه السلام من النار أمام مرأى جميع أهل البلدة في معجزة واضحة تدل على أنه نبي مرسل من الله تعالى. ومع هذا لم يتحرك لهؤلاء الكفار قلب ولم يتبينوا عظمة الله وقدرته ووحدانيته بل ظلوا في طغيانهم يعمهون.. وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم.. فمن يهدِ من أضل الله.
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69، 70]. ونجى الله سبحانه وتعالى نبيه الخليل إبراهيم عليه السلام ولم يؤمن من قومه أحد إلا امرأته سارة وابن أخيه لوط عليه السلام.. وأخزى الله الكافرين وجعلهم الأخسرين في الدنيا والآخرة.