اقتلني ومالكًا

منذ 2014-04-03

كثيرون يتكلمون عن حاكمية الشريعة، ويكادون يَسْطون بمَن يخالفهم في جزئياتها، لكن حين يُراد تطبيق الشريعة عليهم سيكون في المسألة نظر!!

قبل أيّام دعاني صديق إلى مجلسٍ فيه أحد المشايخ الفضلاء زار مدينتنا الصغيرة مؤخرًا، سعدت بهذه الدّعوة، وذهبت مع الصديق العزيز، وقد كانت فرصةً للشيخ الكريم أنْ يمسك بطرف الحديث متحدِّثًا عن قيمة العدل والإنصاف في المنهج السّلفي.

العدل والإنصاف مع مَن يخالفنا، سواء مَن كان خارج سياج أهل السُّنَّة أم داخلها.

قيمة العدل والإنصاف هي الميزان الّذي يضبط أصلًا سلفيًّا كبيرًا، ألا وهو أصل الرد على المخالف، فـ"الرد على المخالف والموقف منه" شريعة إسلامية، وأصل إسلامي كبير، تأتي أهميته تابعةً لأهمية الدين والمنهج؛ فالردّ على المخالف هو الحصن الذي حمت به الشريعةُ الدينَ مِن تأثير أصحابه عليه، أعني مِن أخطاء حامليه في تصوّره أو تصويره أو تطبيقه.

إذ إنّ تقديس الأشخاص والإعجاب بهم، والثقة في أحلامهم؛ قد يَجْنَح بالكثيرين إلى تقليدهم فيما زلّت به أقدامهم، وقد يعظُم على البعض الردّ عليهم أو نَقْدهم وبيان أخطائهم، ولهذا كان السلف يردّون على بعضهم ويُخَطِّئون بعضهم، فضلًا عن غيرهم ممّن فارق منهج السلف.

لكنّ هذه الشعيرة -كسائر الشعائر- لها أصولها وضوابطها، الّتي يأتي العدل والإنصاف في مقدمتها.

ومن أصولها كذلك: خاصية التوازن في التطبيق، أعني: القدرة على إعطاء كل مخالَفة وكلّ مخالِف وكلّ حالة وزنَها الحقيقيَّ دون مغالاةٍ ولا إجحافٍ، وإلَّا ظللنا نتصادم بين الغلوّ والإجحاف حتَّى تضيع الشعيرةُ في خِضَم عراك المتعاركين.
وقد أثار ذلك المجلس وما دار فيه عندي الرغبة في التذكير بأمرين:

اﻷمر الأوّل:

"تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويهَ المنهج! وأنه من الخير للأُمَّة المسلمة أنْ تَبقَى مبادئ منهجها سليمةً ناصعةً قاطعةً، وأنْ يُوصَف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه -أيًّا كانوا-، وألا تُبَرّر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبدًا بتحريف المنهج وتبديل قِيَمه وموازينه. فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام مِن وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف؛ فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص". اهـ. قال هذا الكلام سيّدُ قطب رحمه الله، يا للجَمال!!

نعم؛ المنهج أكبر وأبقى من الأشخاص، هذا الكلام الجميل يتغنّى به الكثيرون حين يكون الأشخاص هم الآخرون، لكنهم يتنكّرون له، ويضربون به عَرْض الحائط إذا جاء التطبيق إليهم.

فكل المناهج، غاليها ومتساهلها، سلفيّها وخلفيّها؛ تأخذ مداها، وتتأرجح بين التطبيق المتشدد، إلى التساهل حين يكون موضوعها ومحمولها هو الآخر، أمّا حين تقترب الشفرةُ إلى الذات فحينئذٍ تنتفض الذات، وتهتزّ النفسُ الحَرون لتقرِّر بطلان أيّ منهج تخسر بتطبيقه بعضَ بريقها وزَخَمِها الّذي تكتسب به جماهيريّتها.

إنّها الذات حين تصبح محورَ اجتهادات الفقيه، ودعوة الداعي، وجهاد المقاتِل، وسياسة السياسي.

ولذا نلاحظ هذه الأيّام موجةً مِن النُّكوص والعودة إلى التفتيش في قضايا المنهج، لا من أجل تثبيتها والإشادة بها، بل لنَقْضها وبيان خَلَلها.

متى حَدَث هذا؟ ومتى يحدث؟ يحدث كلّما تبيّن أنَّ المنهج يقترب من حدود الذات، ويلامس حماها.

قديمًا كان البعض يتترّس بمنهج توقير العلماء وحماية جَنابهم، وحين وجد أنّ العلماء عارضوه، وتكلّموا فيه؛ إذا نفسه تصيح بين جَنَباتها أنَّ تقديس العلماء ليس من أصول الإسلام.

كثيرون يتكلمون عن حاكمية الشريعة، ويكادون يَسْطون بمَن يخالفهم في جزئيات مِن المسألة، لكن حين يُراد تطبيق الشريعة عليهم سيكون في المسألة نظر! وبعضهم يترفع أصلًا عن أنْ يُحاكَم إليها!

كثيرون ينادون بإشاعة روح النقد والرد على المخالف في جوٍّ من الألفة والمودّة، لكن حين يكون النقد موجهًا لهم سيصبح كلّ مَن نَقَدهم عدوًا لهم.

أصبح الناسُ يبيعون المنهج، ويتنكرون له مقابل سلامتهم وبقاء زَخَمِهم.

أين مَن يقول كما قال ابن الزبير:

اقتلوني ومالكًا *** واقتلوا مالكًا معي

حين أقدّس المنهج، وأدافع عنه لن أضحي به مقابل سلامتي، حتى وإنْ استُخدم المنهج ضدّي، حتّى وإنْ كان المنهج سيفًا يتسلّط به البغاةُ على أهل الحق، فإنّ الحق يظل حقًّا وإنْ وظَّفه الباطلُ.

نعم؛ إذا تيَّقنتُ أنّي سأكون ضحيّة تطبيق المنهج الحق والإشادة به والدعوة إليه فليكُنْ، ولتذهب حظوظُ النَّفس إلى الجحيم، لا يجوز أنْ يكون المنهج رهنًا لرياح التغيير التي تهبُّ علينا مِن هنا وهناك.

ورحم اللُه سفيانَ الثوري إذ قال: "إذا رأيتموني قد تغيَّرتُ عن الحال الذي أنا عليه اليومَ؛ فاعلموا أني قد بَدّلتُ".

الأمر الثاني:

قيل: إنّ ذبابةً سقطت على نخلة، فلما هَمّت الذبابةُ بالانصرافِ قالت للنخلة: أيتها النخلة؛ تماسكي فإني راحلةٌ عنكِ، فقالت النخلة: انصرفي أيتها الذبابة؛ فهل شعرتُ بكِ حينما سقطت عَلَيّ لأستعدَّ لك وأنت راحلةٌ عني؟!

تذكرتُ هذا المثل حين أصرّ بعضُ مَن كان في المجلس على تضييق حَدَقة الحوار وتصويبها على مَن ابتُلي ببغضه، ودون تقليل مِن قَدْر الزميل المحتقن؛ فإنّي أقول هذا متذكّرًا حجم الخَلَل الواقع في فهمنا أو تطبيقنا لأصول شرعية عظيمة، ومنها أصل هجر المخالِف والكلام فيه؛ إذ كثيرًا ما نمارس هذه الأصول بلا ضوابط، ممّا يُفْقدها أثرها، هذا إنْ لم تَعُدْ بنتائج عكسية أصلًا.

فهذا الأصل الشرعي العظيم دخله الخَلَلُ من جانبين:

أحدهما: أنّه كثيرًا ما يُوظّف لتفريغ الشحن النفسي لدى الهاجر والمتكلّم؛ إذ يشعر بغيظ وحقد لشخص يخالفه، فيفرّغ هذه العواطف السلبية تجاهه، عبر هَجْره والقَدْح فيه، دون مراعاةٍ لضوابط الهَجْر الشرعية، وهو في هذا غير مأجور إنْ لم يكن مأزُورًا، حتَّى لو فُرض صحة موقفه، كما قال ابن تيمية رحمه الله: "الهجرة الشرعية لابد أنْ تكون خالصةً لله، موافقةً لأمره؛ فمَن هجر لهوى نفسه أو هجر هجرًا غير مأمورٍ به؛ كان خارجًا من هذا، و ما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه، ظانّة أنها تفعله طاعة لله!!".

والجانب الآخر: أنّ الهجر والكلام في المخالف لا يكون ذا فاعليّةٍ إلاّ إذا كان الهاجر ذا مكانة عند المهجور والبيئة التي يعيش فيها، مكانةً علميّةً أو اجتماعيةً أو ولايةً شرعيةً أو غير ذلك، ممّا يؤدي إلى تأثُّر المهجور بالهَجْر، فيُرَاجع نفسه، أو تتأثر به البيئة، فيتابعونه في الهَجْر، فمِن المضحك حقًّا أنْ يمارس الهَجْر فئات ليس لها في الساحة صدًى، وهي تَدَّعي أنّها تقوم بحماية جَناب الشريعة، والذي حصل في مثل هذه الحال أنَّ أثر الهَجْر عاد على الهاجرين أنفسهم، فأصبحوا وحدهم فئةً معزولةً لا تأثير لهم في الآخرين؛ ففقدوا رافدًا من روافد نفع الآخرين، وتركوا الساحة لمن يرونهم مبتدعةً، وهذا خلاف مقتضى الفقه الصحيح؛ إذ كثيرًا ما تكون المشاركة بالّتي هي أحسن أَوْلَى من الهجر والمنابذة دون تفريط في بيان كلمة الحق والإنكار على المخطئ.

أخيرًا فإنّه كثيرًا ما يكون الهَجْر وممارسته نابعًا من إعجاب الشخص بنفسه، وظنّه أنّ له من الوزن ما يُحَقِّق به هدفًا تربويًّا رادعًا وزاجرًا، وتراه يفعل ذلك متقمصًا قميصًا أكبر منه، مع أنّه في الحقيقة لو تدبّر في حقيقة نفسه ووزنه؛ لعرف أنّه يرقص في الظُّلْمة -كما يُقال-؛ إذ ربّما يَهْجر ويعود عن هَجْره، ثم يَهْجر ثمّ يعود، ومع ذلك فإنَّ أحدًا لم يَشْعر به حين أقبلَ، كما لم يَشْعر به لمّا أدبَر.

 


الشيخ أحمد بن صالح الزهراني

  • 2
  • 0
  • 1,570

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً