المسكوت عنه في إصلاح التعليم
يأتي هذا المقال مساهمة في اكتشاف مواطن الخلل في مجال التربية والتعليم، ومحاولة لمعالجة بعض المسكوت عنه في الإصلاح المزعوم، ورغبة في عدم الاكتفاء بالنواح والبكاء على الحال، حيث لا نزال رغم الشعور بخطر المصاب نراوح مكاننا في شتى خطط الإصلاح ومخططات الاستعجال التي لا تزيد التحصيل العلمي والبناء التربوي إلا قترًا وذلة...
يأتي هذا المقال مساهمة في اكتشاف مواطن الخلل في مجال التربية والتعليم، ومحاولة لمعالجة بعض المسكوت عنه في الإصلاح المزعوم، ورغبة في عدم الاكتفاء بالنواح والبكاء على الحال، حيث لا نزال رغم الشعور بخطر المصاب نراوح مكاننا في شتى خطط الإصلاح ومخططات الاستعجال التي لا تزيد التحصيل العلمي والبناء التربوي إلا قترًا وذلة، ونتوهم بأننا نقطع المسافات، ونلهي أنفسنا بمختلف المسوغات والمبرّرات، ولا نكف عن صناعة العجز وتكريس الواقع المتردي، مبتدعين بين موسم وآخر رؤى متباينة ومتناقضة تخضع لأهواء شخصية ورغبات فردية؛ لافتقادنا رؤية إصلاحية استراتيجية تلامس بدقة مكامن الداء، ومواقع الضعف، وتقوم كل مرحلة من المراحل بمعالجة شاملة، لتحديد الإصابات والأخطاء.
وما لم تكن لدينا المصارحة مع الذات قيادة وشعبًا، فسوف ننمي التخلف ونكرس الركود ونبارك العجز، حاملين لواء الضلال والتضليل، والوهم والإيهام، مهدئين الأزمات بحقن مؤقتة منتهية الصلاحية تلهي الناس عن الألم وتلجم فيهم الغضب، يرغب مسؤول كل مرحلة أن يتجاوزها بسلام، وليذهب الجميع بعده نحو الطوفان؛ لأمنه من المراقبة والحساب.. كما لا يهتم الأستاذ إلا بمراقبة آخر الشهر، والتلميذ لا يعتني إلا باجتياز المراحل وتجاوز الامتحان، وإن كان ذلك دون استحقاق، إلا من رحم ربك من كل ذلك وقليلٌ ما هم.
ولا يكفي في إصلاح المستوى التعليمي الهزيل لمختلف المراحل التعليمية من الابتدائي حتى الدراسات العليا؛ الانفعال والارتجال والادعاء، والهروب من قضية إلى أخرى، واستبدال برنامج بآخر، والاكتفاء بالنقد والإبطال وقرارات النقض؛ دون تقديم الحلول الناجحة المدروسة بعناية ودقة والصادرة من أهل المجال والاختصاص، أو إنضاج خطة ودراستها بجرأة وشجاعة وتقويم لبيان موطن الخلل؛ فرغم كثرة الخطط والضجيج الصادر من هنا وهنالك، لا يزال المستوى التعليمي يتردّى يومًا بعد يوم، وتهدر الكثير من الطاقات، وتبعثر الكثير من التضحيات.. والطلب دومًا يلقي بالتبعة والمسؤولية على الآخر، دون مراجعة الذات ومعالجة الأسباب الحقيقية للداء المنبعث منه، وقد لا نكون بحاجة إلى ذكر مظاهر الكسل وتبديد الوقت لدى التلميذ والطالب، واستهتاره بالشأن الدراسي، واستمرار حالات الكسل والخمول التي يضرب لها زعماء الهزائم والفشل الدراسي الطبول من الطلبة والتلاميذ، وينتقلون بزعامة الهزيمة وقيادة الفشل والخذلان من موقع إلى موقع، ومن قضية إلى أخرى، ومن مطلب إلى مطالب، متفنّنين في ابتكار ما يلقون عليه اللائمة، ويبرّئون أنفسهم من التبعة والمسؤولية، وهم المساهمون بالنصيب الأوفر في الفشل الواقع؛ لخوار عزائمهم، ووهن إرادتهم.
وكم وددت أن يتفضل طلبة الجامعة في مختلف المسالك والشعب، والتلاميذ في مختلف المراحل؛ بتقويم التجربة، وتحديد الأخطاء، والاعتراف بالتقصير، والجرأة على النقد والتقويم والمراجعة، ومصارحة الذات بالتقصير والإهمال المفضي إلى الكسل والخمول، وعدم الخوف من الواقع؛ ذلك أن التستر على الخطأ -مع الأسف- أصبح ثقافة، وأصبح له حماة وحَمَلة؛ والتهرب من المسؤولية صار ديدنًا وعادة، كل أمة تلقي باللائمة على الأخرى وتلعن أختها. وإذا اتفقنا على تخبّط واضعي البرامج والمناهج الدراسية؛ فإننا نتفق كذلك على الكسل العارم والمنظم الذي يدب في صفوف الطلبة والتلاميذ، وصار السمة البارزة على وجوههم.. يفرّ الطالب من القاعة والمدرج، والتلميذ من القسم؛ فرار السجين من السجن.
يأتي الطالب إلى الجامعة ولا يكلف نفسه عناء الحضور، ويقضي ساعات الدراسة مستترًا أو مجاهرًا رفقة خليل أو خليلة. في قاعة أخرى غاب أستاذها وطلابها، ويصاب الأستاذ بخيبة أمل وهو يرى الغائبين والغائبات عن الحصة يداومون الحضور والطواف بحرم الجامعة وساحة المدرسة ولا يفتح معظمهم الكتاب إلا في فترة المراجعة للامتحان؛ إن وجد لديه الكتاب أو ما يراجع فيه، أو يكتفى بأماني وأحلام تصدقها الحراسة المغشوشة وتكذبها الأمانة والحزم والصرامة.
والواقع الذي لا يمكن إنكاره يعدّ خير شاهد وإدانة مستمرة لمستوى الطلاب والتلاميذ بما تنتجه الجامعات والمدارس -في الغالب- من شخصيات مهزوزة فارغة من العلم، أمية أو شبه متعلمة، بعيدة عن التفكير والاجتهاد والتبصر بالنتائج والاعتبار بالعواقب، لا تتقن سوى المطالب والتنظير، والمطالبة بالحقوق والتفنن في إهمال الواجبات، وكما أن المطالبة بالحق حق، فإهمال الواجب باطل.
لقد كان الطالب الجامعي النواةَ لمجتمع العلم والمعرفة، والمساهم في حل المعضلات الاجتماعية، والمنتج للمعرفة بمختلف التخصصات والدراسات؛ لكن مع شديد الأسف نجد أن هذا المشروع الطموح أصبح كَلًّا على المجتمع أينما توجه لا يأتي بخير، وأصبح المجتمع منشغلًا بمدارسة همومه وإصاباته ومشكلاته، وتحول إلى مشكلة وعبء بعجزه عن انتشال الأمة من واقعها؛ لعدم توفره وعجزه عن وعي وإدراك مشاكله الذاتية فضلًا عن الاجتماعية، فضلًا عن تقديم الحلول لها؛ لذلك لم يحقق المأمول..
وكثر في المجتمع بعض الخريجين الذين أصبحوا عالة ومشكلة، بدل أن يسهموا في تنمية المجتمع والنهوض به. وصار الطالب والتلميذ بؤرة أمراض اجتماعية كان ينتظر منه أن يعالجها فأصبح واقعًا فيها، من فواحش ومخدرات، إن كثيرًا من رؤى التغيير والإصلاح وتحديد المشكلات، تتناول البرامج والمناهج وتغفِل العنصر البشري، ولم تستهدفه بالإصلاح كما ينبغي، واختبأ الكثير من الطلاب بفشلهم وراء البرامج والمناهج المشوّهة بعجرها وبجرها؛ فضاعت بذلك أجور وأعمار وأموال.. وكم هي المراحل العمرية التي ضيعها ويضيعها الطلبة والتلاميذ ذهابًا وإيابًا في الطرق وحرم الجامعات والساحات المدرسية؟
ونتفاخر في كثير من الأحيان بعدد الخريجين والناجحين، ونشتكي من العجز عن الإيواء دون تقييم الأداء، وملاحظة المستوى الهزيل الذي لا يليق أن تنسب صاحبه للمستوى الذي تخرج منه؛ ولك أن تتأمل حال طالب تخرج من الجامعة وهو لا يجيد تحرير طلب، وأذكر أستاذة حدثتنا في الجامعة أن طالبًا جامعيًا طلب من عامل نظافة أمي أن يحرر له طلبًا ليقدمه للعميد. أما حملة البكالوريا فحدث ولا حرج؛ أجزم أن فئة عريضة منهم تعجز عن إنشاء جملة سليمة من الأخطاء اللغوية والإملائية، وقد شاهدتهم رأي العين.
والإصلاح لا يجوز أن يقتصر على الأشياء من برامج وجدران، بحيث أصبحت الجهات الوصية تختزل الإصلاح وطيّ المسافات في المظاهر، بل ينبغي استهداف العنصر البشري باعتباره الأساس، ولعل التجربة الفلسطينية خيرَ مثال في هذا المجال بما يتوفر عليه طلابها من رغبة وإرادة رغم كل المعوقات والمثبطات، ورغم ذلك كله تصدروا القائمة في التربية والتعليم الناجح، وإن كنا ظالمين لأهل فلسطين بهذه المقارنة التي تبخسهم قدرهم.
وقد كان الحرم الجامعي والساحة المدرسية ساحة للعلم والمعرفة لها قوتها في التأثير الثقافي والفكري، وتحولت اليوم إلى ساحة للشهوات والغرائز ونفث المكبوتات الجنسية! وإشاعة الانحلال الخلقي باسم الحرية الشخصية والإيديولوجية الفكرية التي تنتهك القيم والأخلاق الإسلامية الرفيعة، وتسيء تلك السلوكيات المنحرفة للمدرسة، فتتحول من وسيلة تربية إلى وسيلة انحلال وهز الثوابت وتوهين القيم، واغتيال حرمة الجامعة ومكانتها، والاعتداء على أدبيات المدرسة تحت مسميات براقة، وخداعة، بحماية ومباركة من الجميع، ومَن أنكر أو حاول عدّ معاديًا للحرية ومنتسبًا للرجعية، وصارت التقدمية مقتصرة على المجاهرة بالفاحشة.
ولتحقيق إصلاح حقيقي مثمر وفاعل، يجب أن تستعيد المدرسة رسالتها في التحصين الثقافي والتربوي، وتكف عن حماية الانحلال الخلقي، وتقدم النماذج التي تمثل الشخصية المسلمة، وتحمل الرسالة، وتثير الاقتداء والاتباع، والطالب بقدر ما يلتزم بهذه الالتزامات بقدر ما يمنح الحلول والإمكانات، وينتقل من موقع العطالة واتباع الشهوات إلى استشعار المسؤولية والتحديات، ذلك أن أي نجاح أو إصلاح لا يمكن أن ينجح إلا من خلال عزمات البشر، واستشعار المسؤولية، وتقديم التضحية.
هذا جانب من المشكلة، والجانب الآخر هو مظهر الهزيمة النفسية واليأس عند الطالب في مستهل مشواره، والتلميذ في أولى خطواته، وافتقاد أي قدرة على توظيف ما لديه من قدرات وإمكانات، والاستسلام الكامل، وانطفاء الروح والعيش في سلم وانتظار ما يجود به الآخر من مناصب ووظائف..
ونحن نمتلك أكثر بكثير مما يمتلك غيرنا من الشعوب المتقدمة علينا في التعليم، لكن الإشكال في الإصابة البالغة التي تمسّ العنصر البشري الذي أصبح عبئًا بدل أن يكون سندًا ومنطلقًا، ونتجاهل هذا الخلل في الإصلاح فيزداد عجزنا وتتعمق مأساتنا.
وقد تكون بعض جوانب المشكلة التي نعانيها في العنصر البشري جاءت ثمرة للفساد التعليمي، فكثير من المؤسسات العلمية -ليس في بلدنا فحسب، بل في العالم الإسلامي- مسكونة بثقافة الآخر التي لا تناسبنا، ويحمل تلك الثقافة بعض أطر التربية والتعليم الذين لا يزال بعضهم رهائن لمبادئ فاسدة تلقوها في مستنقعات آسنة في الداخل والخارج، ويعدّون أمثلة شوهاء مشوهة في العلم والسلوك.
ونجاح الإصلاح أو فساده -فيما أرى- يحسمه العنصر البشري، مستندًا في رأيي هذا إلى واقع الأجيال السابقة في المغرب ممن لم يتوفر لهم عُشر مِعشار ما يتوفر للطلبة والتلاميذ اليوم، وقد كانوا دون نقل مدرسي أو إيواء، بل لا يجدون ما يسدون به الرمق، ورغم ذلك كان مستواهم مشرفًا جدًا في مراحله الأولى، أما المراحل النهائية فكان بالغها يعدّ من العلماء، ونظراؤهم اليوم في المستويات المماثلة أنصاف متعلمين، وبعضهم يحارب الأمية.
ولعل هذه الكلمات تكون لبنة على طريق البناء المأمول، وتفك بعض القيود الذهنية التي لحقت بعملية الإصلاح، وتصلح بعض الخلل والعطب الذي لحق بالتربية والتعليم، وتخلصها من الارتجال، وتعود بها إلى مسارها الصحيح.
- التصنيف:
- المصدر: