حلقات التحفيظ .. توقف وعودة
أحمد بن عبد العزيز الحمدان
أمة الإسلام إنما أعزها الله تعالى بكتابه، فمتى تأخرت عنه مقتها الله وأخرها، ومتى اعتصمت به وفقها وقدمها.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
فإن من أعظم ما يجب صرف الهمم إليه في تربية الأبناء: تعليمهم كتاب الله تعالى، الذي جعل الله نجاة الأمة وعزتها ورفعتها منوطة بتعلمه وتعليمه والاعتصام به، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44] أي: إن القرآن العظيم لفخر لك وللمؤمنين به ومنقبة جليلة لكم، ونعمة لا يقدر قدرها إلاّ العاملون العاقلون، وهو ذكر لكم يذكركم بخيري الدنيا والآخرة، وسوف تسألون عنه، هل أديتم حقه حتى انتفعتم وارتفعتم به، أم جعلتموه وراء ظهوركم كما صنعت الأمم السابقة بكتبها؟ فـ (القرآن حجة لك أو عليك).
وأمة الإسلام إنما أعزها الله تعالى بكتابه، فمتى تأخرت عنه مقتها الله وأخرها، ومتى اعتصمت به وفقها وقدمها، قال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: « » ( صحيح مسلم)، فلا عزة ولا رفعة لنا إلاّ باعتصامنا بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فنحن أمة أعزها الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وقد دلّ القرآن على أن الناس فيهم كريم يرفعه الله بالقرآن، ولئيم يهينه الله بهجره القرآن.
ولقد جرب أبناء المسلمين بعد أن استخربت ديارهم مناهج عدة، فما جنوا من شوكها إلا الحنظل، وآن لهم أن يوقنوا أنهم لن ينهضوا من كبوتها، ولن تصلح أحوالهم، ولن ينالوا عزتهم، ولن ينالوا موعود ربهم بالخيرية إلا باعتصامهم بالقرآن العظيم؛ إيمانًا وتعلمًا وتعليمًا وعملًا وصبرًا.
ومن عظيم النماذج التي ضربها سلفنا الصالح في التضحية في باب تعليم القرآن الكريم: التابعي أبو عبدالرحمن السلمي رحمه الله، الذي جلس للناس يعلمهم القرآن من خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه إلى زمن الحجاج بن يوسف، وكان بين تولي الأول وهلاك الآخر اثنتان وسبعون سنة، وكان إذا سئل عما أجلسه للناس مجلسه هذا معلمًا؟ قال: سمعت أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح البخاري). وكان أبو عبدالرحمن يقول: "وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا".
قال السيوطي رحمه الله: "تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام، فينشأون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكن الأهواء منها".
وقال ابن خلدون رحمه الله: "تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهالي الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم؛ لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، بسبب آيات القرآن، ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي بني عليه ما يحصل بعد من الملكات".
ومن الأمثلة المشرفة الواقعة الآن أنه نشرت الصحف المحلية في 10/1/1432هـ إعلان مدير (المركز الوطني للقياس والتقويم) الأمير الدكتور فيصل المشاري نتائج اختبارات القدرات التي أجراها المركز لطلاب المرحلة الثانوية على مستوى المملكة فحصدت (مدارس تحفيظ القرآن الكريم الحكومية والأهلية للبنين والبنات) التي تعد قطرة في بحر آلاف المدارس المراكز الأولى في التخصصات النظرية لثلاث سنوات متتالية.
وقد ظهر عند كل أمة، أن الأمة تفكر بلغتها، وأعظم تأسيس للعقل المفكر: أن يكون مدركًا لما يقرأ، ومعلوم أنه كلما كان الإنسان متمكنًا من حفظ وإتقان كتاب الله كلما كان محبًا للقراءة، متمكنًا من فهم وإدراك ما يقرأ، الكل بالكل والحصة بالحصة؛ لذلك كان الغالب على هذه الفئة أنها أينما توجهت في التخصصات المختلفة تبذ غيرها إدراكًا وإبداعًا.
وإن الأمة في عمومها يوم أن جعلت مناهلها غير هذا المنهل العذب الصافي، والمصدر اللجَب الكافي، ورضيت المناهل التي كدرها وطء الرعاء، ونزح الدلاء، وجدناها كلما أرادت أن تخطوا إلى الأمام خطوة من خطوات رجعت إلى الوراء خطوات في خطوة: « » (صحيح مسلم).
وإن بني يعرب لما ترك جمهورهم تعليم أبنائهم مصدر عزتهم وقوتهم ورفعتهم، متوهمين أنهم بذلك يخطون خطوة نحو عالم الغرب الأول، وجدناهم من تدهور إلى تدهور أشدّ منه.
وإنّ الحدث الذي مرّ بنا منذ السابع عشر من شهر شوال من العام 1431هـ وانتهى بإذن الله تعالى بعد مرور خمسة وثمانين يومًا عجافًا، توقفت فيها حلقات تحفيظ القرآن الكريم في منطقة مكة المكرمة، وانصرف ستة آلاف معلم للقرآن، و185 ألف طالب ينتظرون ويترقبون عودة الحلقات إلى أن يسر الله تعالى عودتها.
إنّ هذا الحدث يحمل في طياته منحًا في محن، وعبرًا بيّنات تجود بها تأملات، أحببت أن أضع بعضها بين يدي القارئ الكريم، علّها تكون سببًا في انقداح غيرها من العبر في عقول المتأملين، ونفتح الباب لتلقي دروسنا من هذه الحادثة، ونسعى لنستفيد منها في مستقبل أيّامنا، ولا يغرّ بطيب العيش إنسان، وإلاّ فإنّنا سنظل نتلقى الصفعات تلو الركلات، ونحن لم نستطع أن نضع وسيلة لتلافيها، وسنظل نرى من ينام بين كل ركلة وركلة، وبين كلّ صفعة وأختها.
وأولى هذه العبر: أنّ كتاب الله تعالى محفوظ بحفظ الله، {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فهذا وعد متحقق جزمًا ويقينًا، والله لا يخلف الميعاد، ومن رحمة الله بنا أنّه لم يكل حفظ كتابه إلينا، وكتاب الله ليس بحاجة إلى دفاعنا عنه، بل نحن بحاجة إلى تمسكنا به؛ لذلك نحن لا نخاف على كتاب الله تعالى، وإنّما نخاف من ذنوبنا أن تكون سببًا في حرماننا منه، وفصلنا عنه.
ثانيها: ضعف دعمنا الشعبي للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم كان من أسباب وقوف هذه الجمعيات عاجزة عن جعل عمل معلميها وظيفة رسمية، يتقاضى عليها المعلم راتباً يعيش به حياة كريمة، ويترقى من مرتبة إلى مرتبة، ويكون كغيره من الموظفين الذين يجدون مرتباً بعد تقاعدهم يستطيع كلّ منهم أن يعيش به عيشة كريمة، وينال الحقوق التي كفلتها الدولة للموظفين والعمال حين ينطبق عليه نظامهم، لا أن يكون كريشة في مهب ريح.
ثالثها: ظهر أنّنا لا نملك خطة بديلة في حال الطوارئ، فما إن أقفلت الحلقات حتى وجدنا الناس بين صمت مخيّم على أجوائهم، وصدمة ملأت نفوسهم، وتحيّر شوّش تفكيرهم، وبدأت عمليات الإسقاط تتوالى، كلٌّ يريد تبرئة نفسه، ورمي لوم التقاعس على غيره، وتناسى أنّه مطالب بالعمل كما أنّ غيره مطالب بالعمل، وإن كانت درجات المطالبة تتفاوت، ونوع العمل يختلف، إلاّ أنّه على كلّ حال مطالب بالعمل من أجل كتاب الله عزّ وجلّ، وتقصير المقصّر ليس عذراً لمقصّر آخر، ولا حجّة يتذرع بها؛ لينجو من المسؤولية الملقاة على عاتقه، وما كان كلّ ذلك ليقع لولا أنّنا مقصّرون في وضع خطط للطوارئ.
وأتذكر أنّه في زمن سيطرة الاتحاد السوفيتي على بلدان المسلمين في وسط آسيا (الجمهوريات الإسلامية)، كانت تأتينا أنباء من بعض من كان يزور تلك الديار ذات الجدار الحديدي، أنّ المساجد عُطّلت، وأصبحت قراءة القرآن وكتب الدين تعد جريمة يعاقب عليها القانون الشيوعي، وأنّ النّاس أبعدوا عن دينهم، ومنعوا من كتاب ربهم قسراً، ومع ذلك كانوا يدخلون الأقبية يتعلمون فيها القرآن، وكنت أسمعه كضرب من الأساطير.
وفي حجّ عام 1416هـ كنت والشيخ طلال بن أحمد العقيل، والدكتور رضوان بن حسن الرضوان مع سماحة شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، في زيارته المعتادة التي كان يقوم بها كل عام قبل وبعد الحجّ؛ ليلتقي حجاج الخارج في المطار، وزرنا حجاج دولة من الدول الإسلامية التي خرجت للتو من نير السيطرة السوفيتية، وكانوا قد نزلوا من طائرتهم، ينتظرون إنهاء إجراءات جوازاتهم، وكان جمهورهم من كبار السن الذين شابت لحاهم، فطلب الشيخ مترجمًا، فوجدنا أحد المطوفين الذين يتكلمون لغتهم لكنه لا يجيدها، وبدأ الشيخ حديثه معهم في بيان توحيد الربوبية الذي ولج منه إلى تقرير الألوهية، ولم يرعنا إلا صوت شاب يركض من بعيد، وينادي بصوته: أنا أترجم.. أنا أترجم، فأعطاه مكبر الصوت، وبدأ يترجم ويتكلم بطلاقة، ورأينا المستمعين يبدو عليهم التأثر أكثر، وبعد أن فرغ الشيخ، أقبل على الشيخ يسأل: من الشيخ؟ فرد الشيخ مبتسمًا: محمد بن عثيمين. وإذا بالشاب ينظر إلى الشيخ باندهاش، ويقول بصوت عال: الشيخ محمد؟! قال: نعم. قال: ابن صالح؟! قال: نعم. قال: ابن عثيمين؟! قال الشيخ: نعم. وإذا بالشاب يضم الشيخ ويقبل رأسه ويبكي، ثم قال للشيخ: يا شيخ، أتأذن لي أن أبلغهم، من أنت؟ قال الشيخ: نعم.
وكان الشيخ ونحن معه في دهشة من أمره، فأخذ الشاب مكبر الصوت وحدثهم بكلام لم نفهم منه إلاّ اسم الشيخ، ولقد كان منظرًا مؤثرًا تأثرنا به جميعًا، حين رأينا الشاب يخبرهم وهو فرح متأثر، وما إن ختم كلامه حتى رأينا أصوات بكاء الحجاج، واللحي قد خضبت بالدموع، وقاموا يصطفون أمام الشيخ، وهذا زاد من دهشتنا، فالتفت الشاب إلى الشيخ، وقال: يا شيخ، هؤلاء كلهم طلابك، لقد كانوا يقرؤون القرآن، ويتفقهون على كتبك وبرامجك الإذاعية في الأقبية تحت الأرض، يا شيخ كلهم يعرفونك، ولكنهم لم يروك، وقد بكوا فرحًا برؤياك، وهم يستأذنونك في السلام عليك، ثم سلموا على الشيخ، وانصرفنا.
لقد تمكن هؤلاء الناس في الأقبية تحت نير الحكم الشيوعي أن يواصلوا حفظ كتاب الله، ويتفقهوا بما يمكنهم الوصول إليه من كتب العلماء، ولم يقولوا: لِمَ لم يفعل فلان كذا؟ ولِمَ لم يقل فلان كذا؟ بل عملوا هذه الخطة التي دامت أكثر من سبعين سنة، فحفظ الله تعالى لهم دينهم بها، فما بالنا نحن تعطل فينا كلّ شيء بأدنى هزة؟!
رابع هذه العبر: رأينا سنّة الله تعالى في الشامتين من بعض المتلبرلين، الذين طبلوا وزمروا فرحَا بالخبر، حتى أنّ أحدهم كتب في موقع من مواقعهم: هذه خطوة جريئة إلى الأمام، قطعت الصلة بمصدر من مصادر الخرافة والرجعية في هذا الزمن. ويا لها من كلمة {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم:89-90] . وقام بعضهم بكيل التهم ضد إخواننا الذين علّمونا وعلموا كبار مشايخنا القرآن الكريم، فمنهم من اتهمه بالإرهاب، ومنهم من اتهمه بانحراف في العقيدة... إلخ.
ولا يجد المؤمن أمرًا يخفف عنا صدمة بعض كلماتهم إلا يقيننا بأنّ هذه سنّة المجرمين مع الأنبياء والصالحين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ . أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52-53].
وعن ربيعة بن عباد رضي الله عنه، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمر في فجاج ذي المجاز، قبل أن يهاجر، وهو يدعو الناس إلى الإسلام، يتبع الناس، يدعوهم إلى الله في منازلهم، والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا، إلا إنهم يتبعونه، وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا. فلم يزل يرددها مرارًا، وخلفه رجل أحول وضيء الوجه، ذو غديرتين، يتبعه، يقول: يا أيها الناس، لا تقبلوا منه، إنه غوي، صابئ، كاذب، لا يفتنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم. ويرمي عقبيه بالحجارة حتى أدمى عقبيه. قلت لأبي: من هذا؟ قال: هذا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، وهو يذكر النبوة. قلت: ومن هذا الأحول، الذي يمشي خلفه يكذبه؟ قال: هذا عمه أبو لهب. قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفر منه، وهو على أثره، ونحن نتبعه، ونحن غلمان".
خامس عبرة: أنّ الإغراق في الترفه، وجعله هدفًا لا يحيد المرء عنه، يحول بينه وبين كثير من أعمال الخير والاحتساب، ولقد ظهر ذلك جليًّا في عزوف السعوديين عن الجلوس إلى طلاب التحفيظ، ونيل شرف تعليمهم كتاب الله تعالى، ولقد أخبرني بعض مسؤولي الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم عن عزوف السعوديين عن التشرف بهذه المهنة، وأنّ الجمعية تعطيه راتب المعلم غير السعودي الحافظ المجاز، وهو لا يحفظ إلا ثلث القرآن، وغير مجاز، ومع ذلك يشترط المسجد الذي يريد أن يكون فيه، ويوافقونه على طلبه، ثم لا يلبث -بعد مدة قد لا تطول- أن يتركنا فجأة، ويوقعنا في حرج البحث عمن يسد مكانه، وها هم من بين أكثر من ألف معلم لم يجدوا إلاّ أقل من ثلاثين وافقوا موافقة مبدئية، ولا شكّ أنّ هذا خلل كبير لابدّ من إيجاد حلّ له.
سادس عبرة: كثرت الدندنة حول (مخرجات التعليم وسوق العمل)، ومع أنّ هذا سوق عمل كبير جدًا، إلا أنّا لم نر من أشار إليه أدنى إشارة، بل جلّ ما نقرؤه تحريض ضد أن تهتم الجامعات بهذا النوع من التخصص، وإذا كانت جمعيات منطقة مكة المكرمة فقط تحتاج إلى أكثر من ستة آلاف معلم ومعلمة لتعليم القرآن -غير الحلقات التي لم تجد معلمين إلى الآن- فأين من سودوا صفحات زواياهم بالمنادات للموائمة بين مخرجات التعليم وسوق العمل؟ لقد أقاموا الدنيا وما أقعدوها من أجل 168عمل كاشيرة، بحجة أنها تنهي بطالة النساء، فأين هم من 3000 وظيفة معلمة، تنهي –حسب رأيهم- بطالة آلاف النساء.
سابعها: الكلمة أمانة، وقد رأينا جميعًا كثيرًا ممن خاض في هذه المسألة بدون علم، أو بهوى، وتكلم بكلام، أسأل الله أن يوفقه للتوبة منه، فيه من المجازفات شيء كثير، ولو أنّه تذكر قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُون} [الصافات:24]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح الجامع:1619). وهذا يجعلنا نتنبه إلى أنّ ليس كل ما يقال يمكن تصديقه، فكم من بريء اتهموه، وكم من متهم برؤوه، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:112].
ثامنها:سلاح المؤمن: دعاؤه ربّه أن يسهل له أمره، وتملقه وإلحاحه عليه، ورفعه خاضعًا يديه، هو من أعظم ما يدخره العبد للملمات، هذا السلاح الذي يستحي الله جلّ جلاله أن يرد يدي صاحبه صفرًا، كذلك يغضب ممن يلقيه جانبًا ويجعله آخر اهتماماته، ولقد رأينا أننا لم نعط هذا السلاح حقّه في هذه الفترة التي توقفت فيها الحلقات، وغفل بعضنا عن قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
قال الماوردي رحمه الله: وإنما خص إجابة المضطر لأمرين:
أحدهما: لأن رغبته أقوى وسؤاله أخضع.
الثاني: لأن إجابته أعم وأعظم؛ لأنها تتضمن كشف بلوى وإسداء نعمى.
وإني لأدعو الله والأمرُ ضيق *** عليّ فما ينفك أن يتفرجا
وربّ أخ سُدت عليه وجوهه *** أصاب لها لما دعا الله مخرجا
مع أنّ كثيرًا مِنّا رأى نماذج تثلج الصدر في التواصي بالدعاء، وتحري مواطن الإجابة، حتى في خارج بلادنا، فقد أخبر إمام مسجد معروف، قال: اتصل بي رجل تركي كان يعمل في جدة، وسألني: يا شيخ ماذا حصل عندكم، فقد سمعت إمام مسجدنا في تركيا يقنت لعودة الحلقات في مكة المكرمة؟!
تاسعها: ما تزال مجالس بعضنا لا تتجاوز البكاء عند وقوع ما لا نرضاه، ولا تنطلق إلى فعل ما يرضي الله، بل قد يقع بعضهم في تجاوزات شرعية، يحاول بها سد خلل ضعفه، وستر عجزه وخوره، ولا يسعى لفعل شيء موجب يكون من ورائه ما يخدم الإسلام والمسلمين، متواكلًا في ذلك على من يسعى لرمي عبء المسؤولية عليه، متذرعًا بأنه لا يستطيع أن يصنع شيئًا. وهذه بلية ابتلي بها بعضنا، فلابدّ من إنكارها؛ بتوجيه من يكثر منها إلى أن يكون فاعلًا لا بكّاءً لوّامًا فقط.
عاشرها: ظهور عظمة كتاب الله تعالى في نفوس المسلمين حيث اهتزت مشاعرهم، وهالهم ما وقع، وهذا أمر مهم حريّ بالعاقل أن لا يهمل استثماره؛ لصالح كتاب الله تعالى.
العبرة الحادية عشرة: لنتذكر جيدًا أنّ هذا الأمر لم يكن ليصيبنا إلاّ بتفريط منّا في جنب الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، ولنعلم أنّه لم ينزل بلاء من السماء إلاّ بذنب، ولا يكشف إلاّ بتوبة، فلنبادر إلى التوبة النّصوح؛ ليرفع البلاء، ويعمّ الرخاء، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا*} [نوح:10-12].
الثانية عشرة: أنّ المملكة العربية السعوديّة مع تكالب أعدائها، والضغوط التي تمارسها القوى العظمى الدوليّة عليها، وانحسار أداء الجهات الدعوية والإغاثية عمّا كانت عليه خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وظهور بعض النماذج غير الموفقة التي كانت وما زالت تستعدي علينا غيرنا، وتسعى لتشويه صورتنا؛ بالنّفخ في كلّ خطأ يقع، وتشويه كلّ خير يظهر، بل وبنشر الفساد من خلال بعض وسائل الإعلام، مع كل ذلك وغيره ما زالت أمامنا فسحة لتصحيح الوضع؛ لأنّ مقومات التصحيح موجودة، والمسلمون قاطبة تشرئب أعناقهم لكلّ حدث يقع في قبلة المسلمين، ويتألمون أشدّ الألم لكلّ ما يرونه خروجًا عن النّهج الذي قامت عليه هذه البلاد، ويشتدّ نكيرهم علينا، ولا يحقّ لنا أن نلومهم؛ لأنّ ما يؤملونه فينا ومنّا أفضل ممّا نحن عليه، وأكبر ممّا نظنّه مرض لنا، فهم لم يعرفونا ويحبونا لأنسابنا وجاهنا، ولا عقاراتنا وأرصدتنا، ولا لإبلنا وأغنامنا، ولا لمنتدياتنا وأفلامنا.
وإنّما لأنّنا البلد الوحيدة التي ينادي حكامها ليل نهار أنّهم يطبقون الشريعة، ويحمون الملّة، ويخدمون الحرمين الشريفين، وينصرون قضايا المسلمين، أحبونا لما رأوا النّماذج المسلمة المشرقة منّا التي قادت الخير في كلّ موطئ قدم تطؤه، أحبونا لجائزة الملك عبدالعزيز، والأمير نايف وسلمان ومحمد بن فهد للقرآن والسنة، فإذا خرجنا أمامهم بغير هذه الصورة، فلا نلم أنفسنا إذا تغير حبهم إلى كره، وإعجابهم إلى احتقار، وتعلقهم إلى نفور، قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182]، والعرب تقول: "يداك أوكتا وفوك نفخ".
الثالثة عشرة: ظهرت قيمة حلقات تحفيظ القرآن، ومعلمي التحفيظ، وتجلت في النّفوس لما حُرم أبناؤنا منها 85 يومًا، وظهر لكثير من الآباء والأمهات أنّ أبناءهم والحلقات؛ كحبّ قمح في سنبله، لا يصلح إلاّ فيه، وإن أخرج منه قبل اشتداده لم ينتفع به. وهذه حادثة من مئات غيرها لامرأة كان ابنها ذو السنوات الست في حلقة تحفيظ، وكانت أمّه تأتي به كلّ يوم عند باب المسجد، ثم تنتظره، فإذا خرج أخذته إلى بيتها، وبعد أن توقفت الحلقات، اتصلت بمشرف الحلقات تطلب منه أن يوافق على انضمام ابنها إلى الحلقة التي بقيت، فأخبرها أنّ هذه حلقة مؤقتة لطلاب الثانوية والجامعة، يقوم عليها أحد الطلاب تطوعًا بانتظار أن يعود معلمهم إليهم، ولا أستطيع إلحاق ابنك بهم لفارق السنّ، وأرى أن تعلميه في بيتك قصار السور، يقول المشرف: فهالتني إجابتها، حيث قالت: يا أستاذ، أنا حافظة وعندي إجازة في القرآن الكريم، لكن ولدي يحترم معلمه ويستجيب له أكثر مني، وينتفع به. قال: حينها ظهرت أمامي الخيرية التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »، وأنها تقتضي المنزلة العالية والهيبة لمن جلس يعلم الناس القرآن؛ لأنها مرتبطة بعظيم، وهو كتاب الله تعالى. قال: فاعتذرت منها، وطلبت منها أن تصبر لحين عودة الحلقات، فظلت تردد: يا رب، يا رب، يا رب، وتبكي، وأنهت المكالمة.
الرابعة عشرة:المحن تكون سببًا في صقل أفذاذ الرجال، فما أحوجنا إلى اهتبال هذه الفرصة ليتحمل شبابنا مسؤولياتهم، في زمن أصبح التواكل وعدم الاهتمام سمة بعض الشباب، ولكنّه قد ينتفض إذا رأى أنّه في وجه العاصفة. قال أحد المعلمين: لما جاء خبر إبعادنا عن الحلقات، جمعت الشباب الذين أعلمهم، ونظرت إليهم نظرة تحفيز، ووضعت يدي على أكتافهم، وقلت لهم: هذا زمنكم... إني قد مضى زمني. فكان ذلك الموقف سببًا في تأثر الطلاب تأثرًا عميقًا، وتقدم أحد الشباب وهو يسكن في بلدة تبعد عن الحلقة 70 كيلو، ولسان حاله يقول: أنا لها. وقام بالمهمة خلفًا لمعلمه. فكم نحن بحاجة إلى صناعة الرجال الذين يحملون المسؤولية ويواصلون الطريق على مائدة القرآن.
العبرة الخامسة عشرة: تعودنا أنّه كلّما وقعت مسألة من مسائل ما يسمى بـ (حقوق الإنسان)، ضجّت بعض الهيئات والجمعيات الخارجية، مدّعية أنّ حقوق الإنسان تنتهك، ونحو ذلك من (شجب واستنكار)، أمّا في هذا الحدث فقد مرّ وكأنّ الأمر لا يعنيهم، ونحن لا نريد تدخلهم في جليل ولا حقير، ولا قنطار ولا قطمير، ولكنّا نظهر المكاييل المختلفة التي يعاملون بها الناس، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1-3].
ولا أشك أنّ العبر في هذا الحدث أضعاف ما ذكرتُ، ولم يكن القصد من المقال الحصر، ولكنه محاولة لفتح باب التأمل، واستخراج العبر، وإضافتها. والله تعالى أعلم.
22 محرم 1431هـ