الغَيرة على دين الله (1-2)
ليس من المستغرب أن يغار المؤمن على دين الله سبحانه وتعالى وعلى حرماته أن تنتهك، بل إنه إن لم يفعل كان إيمانه موضع شك، لأن غضب القلب وإنكاره هو أضعف الإيمان.
الغَيرة[1] صفة من صفات الكمال، وقد أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم لله عز وجل بقوله كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: « »[2]، وأعظم الناس غيرة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يغار لله ودينه ولا ينتقم لنفسه قط؛ وما دام الأمر كذلك فليس من المستغرب أن يغار المؤمن على دين الله سبحانه وتعالى وعلى حرماته أن تنتهك، بل إنه إن لم يفعل كان إيمانه موضع شك، لأن غضب القلب وإنكاره -وهذا هو أصل الغيرة- هو أضعف الإيمان.
فالغيرة على دين الله أصلها محمود؛ وهي عبادة قلبية لله عز وجل، وما دامت من العبادات فلا بد أن تنضبط بالضوابط الشرعية حتى لا تخرج بصاحبها عن حد الاعتدال إلى الغلو المنهي عنه فيهلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقولهالنساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « »"[5].
»[3]، قال النووي رحمه الله: "أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم"[4]، وخير مثال على ذلك ما كان من أمر النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم في السر؛ قال أنس رضي الله عنه: "فلما أُخبِروا كأنهم تَقالُّوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداًَ، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزلإن كثيراً من الشباب وبخاصة في زمن الفتن وأوقات الأزمات قد تشتد غيرتهم حتى تخرج بهم عن حد الاعتدال وتوقعهم فيما لا تحمد عقباه، وما ذاك إلا بسبب عدم وضوح الرؤية وغياب الضابط الشرعي عن أذهانهم، وهذا أمر خطير لا بد من التحذير منه وتبصير الناس بفساده ومخالفته للشرع المطهر الذي ما غار المرء ابتداء إلا له، والأمر كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كم من مريد للخير لن يصيبه"[6].
إن أعظم منكر على الإطلاق هو الشرك بالله عز وجل، وهو أولى ما يُغار على الدين بسببه، وقد دنس المشركون أطهر بقعة وهي الكعبة المشرفة بالأصنام والأوثان ومع ذلك فما قام النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بتحطيمها ولا أمر أصحابه بذلك رغم أنه كان بوسعهم، ولا يقول عاقل إنه عليه السلام ما كان يغار عند رؤية هذه الأصنام -حاشاه- لكنه بأبي هو وأمي ما كان يأتي شيئاً أو يذره إلا وفق مراد الله ومشيئته.
ومن أعظم المنكرات كذلك ما كان يلاقيه أصحابه من قتل وتعذيب وتشريد في مكة، ولا يقول عاقل إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يغار على أصحابه أو يألم لألمهم، ولا يقول عاقل إنه ما كان يمكن أن يأمر بمن يأتي برأس أبي جهل أو غيره من عتاة المجرمين الذين يعذبون المؤمنين وليكن بعد ذلك ما يكون، لكنه ما كان يزيد عن أمرهم بالصبر، كما في قوله: «
»[7]، أو نهيهم عن الاستعجال كما في حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه حيث قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: « »[8]؛ وهكذا حال بعض شبابنا اليوم؛ يستعجلون.يستعجلون رغم أن كلمة التوحيد في بلادنا ظاهرة، والمؤمنون فيها أعزة، وما يقع من منكرات أو من تغير للأحوال كالتشكيك في بعض الثوابت أو التعرض لأهل الإيمان من العلماء والمشايخ وغيرهم لا يمكن أن يقارن بحال بما كان قبل الهجرة.
ونحن لا ندعو لترك الباطل أو الحبل على الغارب لأهله ولكن ننهى عن الاستعجال الذي لن نقطع معه أرضاً ونبقي بعده ظهراً! وهكذا بعض الشباب يستعجلون استعجالاً دفع بعضهم للتهور والتفجير والتدمير، ودفع بعضهم الآخر لليأس ومن ثم الانزواء والانطواء، أو الانهزام والتخاذل والتساهل والتفلت، وكل هذا من عواقب ترك الانضباط بالمنهج الشرعي في التغيير، ومن عواقب الجهل بسنة الله في التدافع.
إن من أوضح ما يبين ضرورة انضباط الغَيرة بضابط الشرع حتى تكون ممدوحة وتخرج عن كونها مذمومة قصة سعد بن عبادة رضي الله عنه، فإنه لما أنزل الله عز وجل أن حد الزنا إنما يثبت بشهادة أربعة شهود قال كما في الصحيحين: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « »[9]، فقد أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الغيرة، لكنه أنكر عليه مقالته لأن هذه الغيرة لم تنضبط بضابط الشرع، فإن الذي بلَّغ هذا الحكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ليس بأقل غيرة من سعد بل هو أغير إنسان، والذي أنزل هذا الحكم هو الله عز وجل ولا أحد أغير منه سبحانه، فلا ينبغي لأحد أن تدفعه غيرته على دين الله وشرعه إلى مجاوزة الحد فيقع في المحذور. وقد جاء عند الإمام أحمد بسند حسن أنه لما نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النــور:4] قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا نزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ؟» قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور؛ والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة له قط فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق، وأنها من الله تعالى، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لُكاعاً تَفَخَّذَها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله لا آتي بهم حتى يقضى حاجته![10].
فبعض الناس قد يرى أن الغيرة تمنح صاحبها في مثل هذا الموقف نسأل الله العافية لنا ولعامة المسلمين الحق في أن يقتل المرأة أو الرجل أو يقتلهما معاً، بل إن القوانين في بعض البلاد لا تعاقب على مثل هذا الفعل ويسمونه حماية العرض أو الشرف، لكن هذا غير صحيح، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى حكم الملاعنة بين الزوجين، ولم ينزل إذناً للزوج بالقتل أو الضرب بدعوى الغيرة. هذا هو حكم الله، لكن بعض الناس يستحسن القتل أو الضرب وما أشبه، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، يستحسنون ذلك ظناً منهم أنه من لوازم الشدة والقوة والرجولة، وليس الأمر كذلك، بل هو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »[11]، وهذا هو القانون الذي ينبغي أن يفهمه المتعجلون المتهورون، فالعاطفة ينبغي أن تضبط بضابط العقل، والعقل يضبط بضابط الشرع وإلا وقعت كوارث كالتي نراها ونسمعها هنا وهناك.
وللحديث بقية إن شاء الله.
_______________
[1] الغَيرة بفتح الغين مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب، وأما الغِيرة بالكسر فهي المِيرة أي الطعام الذي يجلبه الإنسان.
[2] (صحيح البخاري [6/2693] [6968]، (صحيح مسلم [4/2113] [2760]).
[3] (صحيح مسلم [4/2055] [2670]).
[4] (شرح النووي على مسلم [16/220]).
[5] (صحيح البخاري [5/1949] [4776]، (صحيح مسلم [2/1020] [1401]).
[6] (سنن الدارمي [1/79] [204]).
[7] المستدرك 3/432 [5646]، قال الألباني في تخريج أحاديث فقه السيرة: حسن صحيح.
[8] صحيح البخاري 6/2546 [6544].
[9] صحيح البخاري 6/2511 [6454]، صحيح مسلم 2/1136 [1499].
[10] مسند أحمد بن حنبل 1/238 [2131]، قال الأرنؤوط: حديث حسن.
[11] صحيح البخاري 5/2267 [5763]، صحيح مسلم 4/2014 [2609].
- التصنيف: