الأحكام الشرعية للنعل والانتعال
ملفات متنوعة
قال صلى الله عليه وسلم : استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال
راكباً ما انتعل
- التصنيفات: فقه الملبس والزينة والترفيه -
الحمد لله وكفى والصلاة
والسلام على نبينا المصطفى وعلى آله وأصحابه ومن اجتبى ، أما بعد فإن
كثيراً من السنن قد جهلها كثير من الناس ثم هجروها ، و أصبحوا ينقمون
على من عمل بها ويريد إحياءها ، ويرمونه بالضلال البعيد ، ومن جملة ما
هجر الناس هجرانهم للسنن المتعلقة بالنعل والانتعال ، فأردت في هذا
البحث أن أجمع شتات هذه المسألة من بطون أمهات الكتب ، إحياء لهذه
السنن وتذكيرا لمن نسيها وإرشاداً لمن جهلها ، في وقت أصبح المؤمن فيه
بغربة يستوحش من قلة السالكين على الحق ، وكثرة المنحرفين المخذلين له
، فأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، وصارت السنة بدعة والبدعة
سنة ، وأصبحت العبادات ثقيلة على الأنفس ، وانشغل الناس عنها إما لجهل
وإما لنسيان ، وصدق المصدوق- صلى الله عليه وسلم - القائل فيما رواه
عنه الإمام مسلم في صحيحه ( 2948 ): « العبادة في الهرج كهجرة إليّ » .. قال
النووي - رحمه الله - : " المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور
الناس ، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون
عنها ، ولا يتفرغ لها إلا أفراد " ا.هـ .
وسوف نتكلم عن بعض الأحكام والآداب الشرعية المتعلقة بالنعل والانتعال
والتي نوردها فيما يلي :
أولاً : لبس النعال عبادة من العبادات :
يجهل
الكثير من المسلمين أن لبس النعال قربة إلى الله جل وعلا وعبادة من
العبادات ، فقد حثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإكثار من لبس
النعال في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي
الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « استكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكباً
ما انتعل » ، وقد بوب الإمام النووي - رحمه الله - باباً سمّاه
: " استحباب لبس النعال وما في معناها " وقال في شرحه للحديث السالف :
" معناه أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة عليه ، وقلة تعبه ، وسلامة
رجله ممّا يعرض في الطريق من خشونة وشوك وأذى ، وفيه استحباب
الاستظهار في السفر بالنعال وغيرها مما يحتاج إليه المسافر "
ا.هـ.
وقد قال ابن العربي - رحمه الله - : " النعال لباس الأنبياء " ، وقد
جاء هذا الدين الحنيف بكل ما فيه صلاح البلاد والعباد ، فقد أمرنا
عليه الصلاة والسلام بكثرة الانتعال ، لدفع المشقة والأذى ، ولحصول
السلامة للقدمين .
ثانياً : استحباب الدعاء عند لبس الجديد من النعال :
بوب الإمام النووي في رياض الصالحين باباً فقال : " باب ما يقول إذا
لبس ثوباً جديداً أو نعلاً أو نحوه " ثم ساق حديث أبي سعيد الخدري -
رضي الله عنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استجد
ثوباً سماه باسمه - عمامة أو قميصاً أو رداء - يقول : « اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك من خيره
وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له » وصححه
الألباني - رحمه الله - .
ثالثاً : استحباب البدء باليمين عند لبس النعال والخلع بالشمال
:
يستحب للمرء أن يبدأ برجله اليمنى عن لبسه النعال ،, إذا نزعها أن
يبدأ بالشمال ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: « إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين وإذا نزعها فليبدأ بالشمال ، لتكن أولها تنعل وآخرهما تنزع »
قال النووي - رحمه الله - : " يستحب
البداءة باليمنى في كل ما كان من باب التكريم والزينة والنظافة ونحو
ذلك ، كلبس
النعل والخف والمداس والسراويل والكم وحلق الرأس وترجيله ، وقص الشارب ونتف
الإبط والسواك والاكتحال وتقليم الأظافر ،
والوضوء والغسل والتيمم ودخول المسجد ، والخروج من الخلاء
، ودفع الصدقة
وغيرها من أنواع الدفع الحسنة وتناول الأشياء الحسنة ونحو ذلك ، ويستحب البداءة
باليسار في كل ما ضد السابق ، فمن خلع النعل والخف والمداس والسراويل والكم
، والخروج من
المسجد والاستنجاء ، وتناول أحجار الاستنجاء ، ومس الذكر ، والامتخاط
والاستنثار ، وتعاطي المستقذرات وأشباهها "
قلت: أمره - صلى الله عليه وسلم - البداءة باليمين مستحب وليس واجباً
، مع أن ظاهر
النص يفيد الوجوب ، لكنّ الإجماع صرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب
كما ذكر ذلك النووي - رحمه الله - في "شرح مسلم" .
رابعاً : استحباب الصلاة في النعال :
من السنن المهجورة الصلاة في النعلين ، وقد تواتر أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - صلى في نعليه ، وثبت أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أمر بالصلاة في النعلين ، فقد سئل أنس بن مالك - رضي الله عنه
- : " أكان -
صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه ؟
قال:نعم " ،
وقال - صلى الله عليه وسلم - : « خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا
خفافهم »
قلت: الصلاة بالنعال مشروعة ولكن ينبغي على المرء أن لا يصلي في نعاله
في حالتين :
الحالة الأولى : إن أدت الصلاة في النعال إلى مفسدة أو خصام و
تنافر للقلوب بين المصلين ، فإنه من الأفضل عدم الصلاة في النعال إذا
وصلت الأمور إلى هذا الحد ، فينبغي على المرء فعل المفضول عنده لمصلحة
الموافقة والتأليف ، خاصة إذا كان غير مطاع في قومه ،
والتأليف بين القلوب مصلحة راجحة على مصلحة الصلاة في النعلين ، قال
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:"لذلك استحب الأئمة كأحمد وغيره
أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل ، إذا كان فيه تأليف المأمومين ، مثل
أن يكون عنده فصل الوتر أفضل ، بأن يسلم في الشفع ، ثم يصلي ركعة
الوتر ، وهو يؤم قوماً لا يرون إلا وصل الوتر ، فإذا لم يمكنه أن
يتقدم إلى الأفضل ، كانت المصلحة الحاصلة بموافقته لهم بوصل الوتر
أرجح من مصلحة فصله مع كراهتم للصلاة خلفه ، وكذلك لو كان ممن يرى
المخافتة بالبسملة أفضل ، أو الجهر بها ، وكان المأمومون على خلاف
رأيه"
الحالة الثانية : ألا يكون المسجد مفروشاً بالسجاد ،
قال الشيخ الألباني - رحمه الله - :"وقد نصحت إخواننا السلفيين
بالمدينة الذين يعرفون بسكان الحرة أن لا يتشددوا في هذه المسألة - أي
الصلاة بالنعال في المساجد - لما هناك من فارق بين المساجد اليوم
المفروشة بالسجاد الفاخر ، وبين ما كان عليه المسجد النبوي في زمنه
الأول ، وقد قرنت لهم ذلك بمثل من السنة في قصة أخرى ذكرتهم بأن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قد أمر من بادره بالبصاق أو المخاط وهو يصلي
أن يبصق عن يساره أو تحت قدميه ، وهذا أمر واضح أن هذا يتماشى مع كون
الأرض أرض المسجد التي سيضطر للبصاق فيها من الرمل أو الحصباء ،
فاليوم المصلى مسجد مفروش بالسجاد فهل يقولون أنه يجوز أن يبصق على
السجاد فهذه كتلك"
خامساً : مشروعية المسح على النعال :
قال الألباني - رحمه الله -:"أما المسح على النعلين ، فقد اشتهر بين
العلماء المتأخرين أنه لا يجوز المسح على النعلين ، ولا نعلم لهم
دليلاً "
وقد صحح الترمذي المسح على الجوربين والنعلين ، وحسنه من حديث هزيل
عن المغيرة ، وحسنه أيضا من حديث الضحاك عن أبي موسى ، وصحح ابن
حبان المسح على النعلين من حديث أوس ، وصحح ابن خزيمة حديث ابن عمر في
المسح على النعال السبتية ، وما ذكره البيهقي من حديث زيد بن الحباب
جيد ، وقال أبو بكر البزار:ثنا إبراهيم بن سعيد ثنا روح بن
عبادة عن ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر:كان يتوضأ ونعلاه في رجليه
ويمسح عليهما ، ويقول : كذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل
وصححه ابن القطان.
وقال الألباني - رحمه الله - : وإذا عرفت هذا ، فلا يجوز التردد
في قبول هذه الرخصة بعد ثبوت الحديث بها... لا سيما بعد جريان عمل
الصحابة بها ، وفي مقدمتهم الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله
عنه - كما تقدم ، وهو مما ذهب إليه بعض الأئمة من السلف الصالح - رضي
الله عنهم أجمعين"
سادساً : كيفية تطهير النعلين لمن أراد الصلاة فيهما :
إذا أتى المرء إلى المسجد فعليه أن ينظر في نعليه فإن رأى فيهما
وسخاً أو أذى فليمسحهما في الأرض فإنه
تطهير لهما ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا جاء أحدكم إلى
المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل
فيهما »
سابعاً : موضع النعلين إذا لم يصل فيهما :
إذا أراد المصلي أن يصلي في غير نعليه فإنه يضع نعليه تحت رجليه ، أو
عن يساره إن لم يكن عن يساره أحد ، فإن كان عن يساره مصلٍ فيضعهما تحت رجليه ، أو خلفه إن لم يكن خلفه
أحد ، ولا ينبغي للمصلي أن يضع نعليه عن يمينه أو قدامه اتباعاً لقوله
- صلى الله عليه وسلم - : « إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه ولا عن
يساره فتكون عن يمين غيره إلا أن لا يكون عن يساره أحد وليضعهما بين
رجليه »
وقال المباركفوري في "مرعاة المفاتيح" :
"وفي رواية بأن لا يضعهما عن يمينه أو
قدامه وليجعلهما بين رجليه أو ليصلّ فيهما... وقال العراقي هذا حديث
صحيح الإسناد... وقال أيضاً: ولم يقل : « أو خلفه
» لئلا يقع قدام
غيره أو لئلا يذهب خشوعه لاحتمال أن يسرق "
ثامناً : من أخذت نعله ووجد غيرها :
قال ابن قدامة - رحمه الله - في "الشرح الكبير": " ومن أخذت ثيابه في
الحمام ووجد بدلها ، أو أخذ مداسه وترك له بدله لم يملكه بذلك... فإن
كانت ثم قرينة تدل على السرقة بأن تكون ثيابه أو مداسه خيراً من
المتروك له وكانت ممّا لا يشتبه على الآخذ بثيابه ومداسه فلا حاجة إلى
التعريف ، لأن التعريف إنما جعل على المال الضائع من ربه ليعلم به
ويأخذه ، وتارك هذا عالم به راض ببذله عوضاً عما أخذه ولا يعترف أنه
له فلا يحصل من تعريفه فائدة ، ... وفيما يصنع به ثلاثة
أوجه:
أحدها:
يتصدق به على ما ذكرنا .
والثاني: أنه يباح له أخذها لأن صاحبها في الظاهر تركها
له بادلاً إياها عوضاً عما أخذه فصار كالمبيح له أخذها بلسانه ، فصار
كمن قهر إنساناً على أخذ ثوبه ودفع إليه درهماً .
والثالث: يرفعها إلى الحاكم ليبيعها ويدفع إليه ثمنها
عوضاً عن ماله ، والوجه الثاني أقرب إلى الرفق بالناس ، لأن فيه نفعاً لمن سرقت ثيابه بحصول عوض عنها
، ونفعاً للسارق بالتخفيف عنه من الإثم وحفظاً لهذه الثياب المتروكة
من الضياع.
وقد أباح بعض أهل العلم فيمن له على إنسان حق من دين أو غصب أن يأخذ
من ماله بقدر حقه إذا عجز عن استيفائه بغير ذلك ، فههنا مع رضا من
عليه الحق يأخذه أولى ، وإن كانت ثم قرينة على أن الآخذ للثياب إنما
أخذها ظنا منه أنها ثيابه ، مثل أن تكون المتروكة مثل المأخوذة أو
خيراً منها ، وهي ما تشتبه بها فينبغي أن يعرفها ههنا ، لأن صاحبها لم
يتركها عمداً فهي بمنزلة الضائعة ، والظاهر أنه إذا علم بها أخذها ورد
ما كان أخذه فتصير كاللقطة في المعنى ، وبعد التعريف إذا لم تعرف
ففيها الأوجه الثلاثة المذكورة إلا أننا إذا قلنا يأخذها أو يبيعها
الحاكم ويدفع إليه ثمنها ، فإنما يأخذ بقدر قيمة ثيابه من غير زيادة ،
لأن الزائد فاضل عما يستحقه ولم يرض صاحبها بتركها عوضاً عما أخذه ،
فإنه لم يأخذ غيرها اختياراً منه لتركها ولا رضى بالمعاوضة بها ، وإذا
قلنا إنه يدفعها إلى الحاكم ليبيعها ويدفع إليه ثمنها فله أن يشتريها
بثمن في ذمته ، ويسقط عنه من ثمنها ما قابل ثيابه ويتصدق
بالباقي"
تاسعا : يشرع لمن دخل المقابر خلع نعليه :
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية
السعودية:هل خلع النعال في المقابر من السنة أم بدعة ؟ فأجابت :" يشرع
لمن دخل المقبرة خلع نعليه ، لما روى بشير بن الخصاصية قال: " بينا أنا أماشي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رجل يمشي في القبور وعليه نعلان ،
فقال: « يا صاحب السبتيتين
ألق سبتيتيك » فنظر الرجل ، فلما عرف رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - خلعهما فرمى بهما "رواه أبو داود ،
وقال أحمد : إسناد حديث بشير بن الخصاصية جيد ، أذهب إليه إلا
من علة ، والعلة التي أشار إليها أحمد - رحمه الله - كالشوك والرمضاء
ونحوهما ، فلا بأس بالمشي فيهما بين القبور لتوقي الأذى"
قلت :السبت بالكسر ، جلود البقر المدبوغة بالقرظ يتخذ منها النعال
سميت بذلك لأن شعرها سبت عنها أي حلق وأزيل.
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى جواز المشي في المقبرة بالنعال ، منهم
النسائي وابن حزم - رحمهما الله - ، لحديث أنس - رضي الله عنه -
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد إذا وضع
في قبره وتولى عنه صاحبه وإنه ليسمع قرع نعالهم » ، وقال بعض
أهل العلم : بأن
النعال السبتية خاصة بأهل الفخر .
قلت:وهذا القول ليس بجيد ، فأما استدلالهم بأن الميت يسمع قرع نعال
المشيعين فهذا دلالة مفهوم ، بينما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
لصاحب السبتيتين بأن ينزعهما دلالة منطوق ،
والمنطوق يقدم على المفهوم ، أما كون النعال السبتية خاصة لأهل الفخر
فهذا القول كذلك ضعيف ، إذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه
لبسها ، فعن عبد الله بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر - رضي الله
عنهما - : " رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا
من أصحابك يصنعها قال :ما هي يا ابن جريج ؟...وفيه : "رأيتك تلبس النعال السبتية فقال:أما
النعال السبتية فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس
النعال السبتية التي فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها"
عاشراً : من أزال نعلاً من موضع ووضعه بموضع آخر ضمنه إن فقد
:
يجب على المرء إن دخل مسجداً ووجد نعلاً قد وُضِعت في مكان ما ثم أزال
هذه النعل ووضع نعله مكانها أن يضمن النعل ، لأنه لا يحق له إزاحتها
ولكنه إن فعل فيجب عليه أن لا يضيع حقوق الآخرين ، وأن يحفظها أو
يضعها في مكان آمن ، قال العلامة الوزاني المالكي - رحمه الله - : " من أزال نعلاً من موضع ووضعه بآخر ضمنه ، لأنه
لما نقله وجب عليه حفظه"
الحادي عشر : النهي عن المشي في نعل واحدة إذا انقطعت إحداهما
:
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المشي في نعل واحدة إذا انقطعت
إحداهما حتى يصلحها ، وقد أجمع العلماء على أن النهي للكراهة وليس
للتحريم ، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي
الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : «إذا انقطع شِسْعُ أحدكم فلا يمش في الأخرى حتى
يصلحها » ،
قال النووي - رحمه الله - : " وسببه أن ذلك تشويه ومثلة ومخالف للوقار ، ولأن
المنتعلة تصير أرفع من الأخرى فيعسر مشيه وربما كان سبباً للعثار
".
قلت : قولـه - صلى الله عليه وسلم - :« لا يمش » فهم منه بعض أهل
العلم جواز الوقوف بنعل واحدة إذا عرض للنعل ما يحتاج إلى صلاحها ،
فنقل القاضي عياض عن الإمام مالك أنه قال :
" يخلع الأخرى
ويقف إذا كان في أرض حارة أو نحوها ، مما يضر فيه المشي حتى يصلحها أو
يمشي حافياً إن لم يكن ذلك " قال ابن عبد البر :
هذا هو الصحيح في الفتوى والأثر ،
وعليه العلماء "
قلت : ويكره كذلك المشي في نعلين مختلفين ذكره ابن مفلح في كتابه
الآداب الشرعية .
فائدة : النهي عن المشي في نعل واحدة قد يدخل فيه كل لباس شفع
، كإخراج اليد الواحدة من الكم دون الأخرى ، كمن يلبس عباءة أو ما
يسمى عند أهل الخليج "البشت" ، فيخرج يده من الكم دون الأخرى ، وينبغي
على المرء ألا يفعل ذلك تركاً للشهرة وعدلاً بين الجوارح ، قال الحافظ
ابن حجر - رحمه الله - : " قد يدخل في
هذا كل لباس شفع كالخفين ، وإخراج اليد الواحدة من الكم دون الأخرى ،
وللتردي على أحد المنكبين دون الآخر ، قاله الخطابي"
الثاني عشر : النهي عن الانتعال قائماً إذا كان في لبسها تعب أو
مشقة:
أخرج أبو داود في سننه من حديث جابر قال: «نهى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أن ينتعل الرجل قائماً »
قال الخطابي: " إنما نهى عن لبس النعل قائماً لأن لبسها قاعداً
أسهل عليه وأمكن له ، وربما كان ذلك سبباً لانقلابه إذا لبسها قائماً
، فأمر بالقعود له والاستعانة باليد فيه ليأمن غائلته "
قال المناوي : "
والأمر للإرشاد لأن لبسها قاعداً أسهل
وأمكن ، ومنه أخذ الطيبي وغيره تخصيص النهي بما في لبسه قائماً تعب
"
الثالث عشر : عدم جواز وضع المصحف على النعل حتى لو كان نظيفاً لم
يلبس :
يجب على المرء أن يحترم كتاب الله جل وعلا ، فهذا الكتاب لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وإن من احترام القرآن حفظه
وتلاوة آياته ، وتدبره وفهم معانيه ، وصيانته من الامتهان وعدم
الاحترام .
وقد نص بعض أهل العلم على أن من امتهان المصحف وعدم احترامه ، وضعه
على نعل نظيف حتى لو لم يلبس ، وقد نقل الوزاني في نوازله عن الشافعية
قولهم بأنه : "
لا يجوز وضع مصحف على نعل نظيف لم يلبس ،
لأن به نوع استهانة وقلة احترام"
الرابع عشر : جواز لبس المؤذن النعال أثناء الأذان :
سئل العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - عن قيام أحد
المؤذنين بالأذان والنعال في قدميه ، خاصة وأنه قد اعترض كثير من
الإخوان لما رأوا المؤذن يؤذن وهو منتعل ، فأجاب - رحمه الله - :"لا
مانع من لبس النعال وقت الأذان ، وحتى في الصلاة ، لأن النبي - صلى
الله عليه وسلم - «
صلى في نعليه » ، غير أنه ينبغي على
المؤذن والمصلي أن يتأكد قبل دخول المسجد من طهارة نعليه ، وطهارتها
كما هو معلوم دلكها بالأرض ، وأما الذين اعترضوا فلا علم لديهم ، ولا
يجوز لهم الخوض فيما لا علم لهم به"
النعال المحرمة والتي لا يجوز لبسها :
يكون لبس النعل محرما في صور وأنواع متعددة والتي من أهمها ما يلي
:
أ : إذا قصد بلبسها الكبر
:
الكبر صفة كمال لله جل وعلا ، فلا يجوز لأحد من الخلق أن ينازع الله
في صفاته ، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن رب العزة جل وعلا قال:"الكبرياء
ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار" ، وتوعد
الله المتكبرين بصنوف من العذاب في الدنيا والآخرة ، فقد صح عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"بينما رجل يمشي في حلة تعجبه
نفسه ، مرجل جمته ، إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة"
قلت:النعل أو الثوب الحسن نفيس أو غير نفيس لا يعد من الكبر الذي
تُوعد صاحبه ، والذم يقع على من كان في قلبه الكبر ، والعجب
بالنفس والهيئة والبطر ، قال ابن حجر - رحمه الله -:"والذي يجتمع من
الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه مستحضراً لها
شاكرا عليها غير محتقر لمن ليس له مثله ، لا يضره ما لبس من المباحات
ولو كان في غاية النفاسة ، ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود : أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يدخل
الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل:إن الرجل يحب أن
يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة فقال :إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر
الحق وغمط الناس »
ب : إذا كان في لبسها شهرة
:
يحرم لباس النعل لقصد الاشتهار ولمخالفته الناس وليشار إليه بالبنان ،
فقد تسابق الناس في هذا الزمان إلى لبس النعل والملابس النفيسة بقصد
لفت أنظار الناس إليهم ، واشتهارهم بينهم مع الكبر والترفع عليهم ،
جاهلين أو متجاهلين قوله - صلى الله عليه وسلم -:« من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب
مذلة يوم القيامة »
قال ابن الأثير: " الشهرة ظهور الشيء والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس
لمخالفة لونه لألوان ثيابهم فيرفع إليه أبصارهم ، ويختال عليهم بالعجب
والتكبر "
وقال الشوكاني في النيل: " إذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس فلا
فرق بين رفيع الثياب ووضيعها والموافق لملبوس الناس والمخالف ، لأن
التحريم يدور مع الاشتهار ، والمعتبر القصد وإن لم يطابق الواقع
"
وثوب الشهرة قد يكون بالوضيع من الثياب أو النعال ، كمن يلبس رديء
الثياب والنعل ليعتقد الناس فيه الزهد والورع ، قال شيخ الإسلام ابن
تيمية - رحمه الله -:"وتكره الشهرة من الثياب ، وهو المترفع
الخارج عن العادة ، والمنخفض الخارج عن العادة ، فإن السلف يكرهون
الشهرتين ، المترفع والمتخفض ، وفي الحديث « من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة »
وخيار الأمور أواسطها ".
ج : إذا كانت النعل مصنوعة من جلود
السباع فلبسها محرم :
إذا كانت النعل من جلود السباع أو كان فيها شيء من جلود السباع فيحرم
لبسها على الذكور والإناث ، لحديث خالد قال وفد المقدام بن معدي كرب
على معاوية ، فقال :« أنشدك بالله
هل تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبوس جلود السباع
والركوب عليها قال:نعم » ، ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:« لا تصحب الملائكة رُفقةً فيها جلد نمر
»
قال القاضي من الحنابلة : " لا يجوز الانتفاع بجلود السباع لا قبل
الدبغ ولا بعده ، وبذلك قال الأوزاعي ويزيد بن هارون وابن المبارك
وإسحاق وأبو ثور"
قال الإمام الترمذي في جامعه:"وكره بعض أهل العلم من أصحاب النبي -
صلى الله عليه وسلم - وغيرهم جلود السباع ، وشددوا في لبسها والصلاة
فيها ، ثم قال الترمذي:وكره ابن المبارك وأحمد وإسحاق والحميدي الصلاة
في جلود السباع"
قلت:ولا يفهم من قولهم الكراهة نفي التحريم ، فإن المتقدمين إذا
أطلقوا لفظ الكراهة فإنما يعنون في الغالب التحريم ، قال ابن القيم -
رحمه الله -:"وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم
بسبب ذلك ، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم ، وأطلقوا لفظ
الكراهة ، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة ،
...ثم قال ابن القيم : " وقال أبو القاسم الخرقي فيما نقله عن أبي عبد
الله:ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة ، ومذهبه لا يجوز"
وقد اختلف أهل العلم في ذكر الحكمة من النهي ، فذهب بعضهم إلى أن
النهي بسبب ما يقع على هذه الحيوانات من الشعر ، لأن الدباغ لا يؤثر
فيه ، وقال بعضهم:يحتمل أن النهي لأجل أنها مراكب أهل السرف والخيلاء
، وعلى المسلم أن يتقي ربه وأن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه وفي
المباح والحلال مندوحة عن ارتكاب المعاصي ، ومن حام حول الحمى يوشك أن
يقع فيه.
د : أن يكون فيها الذهب أوالحرير
:
يحرم لباس النعل على الرجال إن كان فيها ذهب أو حرير ، فقد صح عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أنه : « أخذ حريراً فجعله في يمينه وأخذ ذهباً فجعله
في شماله ثم قال:إن هذين حرام على ذكور أمتي »
هـ : يحرم لباس النعل التي فيها ضرر
على الإنسان :
يحرم لبس النعل التي فيها ضرر على النفس ، كالكعب العالي ، وقد سئلت
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم لبس الكعب العالي ،
فأجابت بأن : " لبس الكعب العالي لا يجوز لأنه يعرض المرأة للسقوط ،
والإنسان مأمور شرعاً بتجنب الأخطار ، بمثل قوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } و
قوله { ولا تقتلوا أنفسكم } ،
كما أنه يظهر قامة المرأة وعجيزتها بأكثر مما هي عليه ، وفي هذا تدليس
وإبداء لبعض الزينة التي نهيت عن إبدائها المرأة المؤمنة بقول الله عز
وجل { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو
آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو
بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن } "
و : لبس الرجال نعل النساء ولبس
النساء نعل الرجال :
يحرم على النساء التشبه بالرجال ، ويحرم على الرجال التشبه بالنساء ،
فلا يجوز للرجال لبس النعال الخاصة بالنساء ، ويحرم على النساء أن
يلبسن النعال الخاصة بالرجال ، ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من
الكبائر ، فقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك ، كما
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: « لعن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة
تلبس لبسة الرجل »
أخطاء شائعة لدى بعض الناس :
أولا : اعتقاد بعض الناس بأن قلب النعل وجعل عاليها سافلها أمر
محرم ولا يجوز ، وهذا اعتقاد خاطئ وقول على الله بغير علم ، فمن قال
بالكراهة أو التحريم فعليه بالدليل من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى
الله عليه وسلم - ، أو مما قاله سلف هذه الأئمة من أصحاب النبي - صلى
الله عليه وسلم - وتابعوهم بإحسان
، والعلم الشرعي لا يأتي بالظن والوساوس ، والقول
على الله بغير علم كبيرة من الكبائر ، وقد قرنه الله تعالى بالشرك به
، قال عز من قائل { قل إنما حرم ربي
الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا
بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }
ثانياً : يعتقد بعض الناس أن تقصد
المشقة يحصل به الأجر الكبير ، فترى بعض الجهلاء يستحب
أداء مناسك الحج حافياً تقرباً إلى الله ، حتى يتحقق فيه
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة : «
أجرك على قدر نصبك » ، ولحديث جابر في صحيح البخاري قال :
« خلت البقاع حول المسجد ، فأراد
بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - فقال لهم : إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا
إلى قرب المسجد ، فقالوا : نعم يا رسول الله
، قد أردنا ذلك . فقال : بني سلمة zدياركم تكتب آثاركم
، دياركم تكتب آثاركم - وفي رواية فقالوا : ما كان يسرنا أنا
كنا تحولنا » ولأمر النبي صلى الله
عليه وسلم أمته ، بالاحتفاء وعدم لبس النعال
، في الحديث الذي يروى عنه - صلى الله عليه وسلم - وصححه
العلامة المحدث الألباني في الصحيحة : « أمرنا أن نحتفي أحياناً » والأمر يقتضي الوجوب ، وبمعنى آخر أن
من لم يحتف أحياناً فإنه يستحق الإثم لمخالفته أمر النبي - صلى الله
عليه وسلم - .
الجواب :
أما تقصد المشقة فالرد عليه كما يلي :
أولاً : لا يجوز للإنسان أن يتقصد المشقة عند أدائه لأي
عبادة ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " قول
بعض الناس : الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق
، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات
المبتدعة ، التي لم يشرعها الله ورسوله ، من
جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات ،
ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال :
" هلك المتنطعون " وقال : " لو مدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع
المتعمقون تعمقهم " مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل
والجسم ، ويمنع أداء واجب أو مستحبات أنفع منه
، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا
فائدة ، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم وأن يقوم
قائماً ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم ، فقال النبي - صلى
الله عليه وسلم - : « مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه
. » ثم قال - رحمه الله - : " فأما
كونه مشقاً فليس سبباً لفضل العمل ورجحانه ، ولكن قد يكون
العمل الفاضل مشقّاً ففضله لمعنى غير مشقته ، والصبر عليه
مع المشقة يزيد ثوابه وأجره ، فيزداد الثواب بالمشقة .
فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب ، لا لأن
التعب والمشقة مقصود من العمل ، ولكن لأن العمل مستلزم
للمشقة والتعب ، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار
والأغلال ، ولم يجعل علينا فيه حرج ، ولا
أريد بنا فيه العسر ، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون
المشقة مطلوبة ، وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم
والتعب مطلوباً مقرباً إلى الله ، لما فيه من نفرة النفس
عن اللذات والركون إلى الدنيا ، وانقطاع القلب عن علاقة
الجسد ، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم "
ثانياً : النيات في العبادات معتبرة في الشرع ،
فلا يصلح منها إلا ما وافق الشرع ، قال الإمام الشاطبي -
رحمه الله : " إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع
من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد
يخالف قصد الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل
، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا
ثواب فيه ، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة
التحريم ، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض "
وقال أيضا : " ونهيه عن التشديد - أي النبي عليه الصلاة والسلام -
شهير في الشريعة ، بحيث صار أصلاً قطعياً ،
فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد
المكلف إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع
به ، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح
، هذا واضح وبالله التوفيق "
ثالثاً : باستقراء الأدلة الشرعية فإن الشارع لم يقصد إلى
التكاليف بالمشاق والإعنات ، لقوله تعالى { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت
عليهم } ، وقوله { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على
الذين من قبلنا } ، وقوله { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وقوله
{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم
العسر } ، وقوله { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله
{ يريد الله أن يخفف عنكم }
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « بعثت بالحنيفية السمحة » و « وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن
إثماً »
رابعاً : لو قصد الشارع التكاليف بالمشقة لما حصل
الترخيص ، فالرخص الشرعية أمر مقطوع به ،
ومعلوم من الدين بالضرورة ، وهي لرفع الحرج والمشقة
الواقعة على المكلفين ، كرخص القصر ، والفطر
والجمع بين الصلاتين .
خامساً : ثبت في شريعتنا ما يمنع من التكلف والتنطع في دين
الله ، لقوله تعالى { وما
أنا من المتكلفين } وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « اكلفوا من الأعمال
ما تطيقون فإن الله لا يملّ حتى تملوا » .
سادساً : نقل الإمام الشاطبي الإجماع على عدم وجود التكليف
بالمشاق غير المعتادة في الشريعة .
سابعاً : لو قصدت المشقة في كل مرة وداوم عليها المكلف
، لوجدت مشقة غير معتادة وحرج كبير ، ممّا يفضي إلى
ترك العبادة بالكلية والانقطاع عنها ، وهذا النوع لم تأت
به الشريعة الإسلامية ، فشرع الله جل وعلا لنا الرفق
والأخذ من الأعمال بما لا يحصِّل مللاً ، ونبّه النبي -
صلى الله عليه وسلم - على ذلك فقال : « القصد القصد تبلغوا » لذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التنطع
وقال : « هلك
المتنطعون »
أما استدلالهم بحديث : « بني سلمة دياركم تكتب آثاركم » فالجواب عليه :
أن الحديث لا دليل فيه على قصد نفس
المشقة ، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ما يفسره
فإنه - صلى الله عليه وسلم - : « كره أن تُعرّى المدينة قِبَل ذلك
، لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها »
لذلك فلا حجة لمن تعلق بهذا الحديث واستدل به على تقصد المشقة في
العبادات والله أعلم .
أما احتجاجهم بحديث أمرنا أن نحتفي أحياناً
فالحديث لا يصح ، وبيان ذلك كما يلي :
عن عبد الله بن بريدة ، أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر فقدم عليه وهو يمد ناقة له
فقال : إني لم آتك زائرا ، إنما أتيتك لحديث بلغني عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم
، فرآه شعثا فقال : مالي أراك شعثا وأنت أمير البلد فقال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا
عن كثير من الإرفاه "
ورآه حافيا فقال : مالي أراك حافيا قال : " إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمرنا أن نحتفي أحيانا "
قلت : الحديث صححه الشيخ الألباني حفظه الله في الصحيحة (2/4) وقال :
" هذا إسناد صحيح أيضا على شرط الشيخين "وليس عند النسائي الأمر
بالاحتفاء .
والحديث أخرجه أحمد 6/22 . وأبو داود (4160) قال : ثنا الحسن بن علي .
كلاهما ( أحمد بن حنبل ، والحسن بن علي ) عن يزيد بن
هارون قال : أخبرني الجريري عن عبد الله بن بريدة فذكره .
أخرجه النسائي 8/185 قال : نا يعقوب بن إبراهيم ثنا ابن علية عن
الجريري عن عبد الله بن بريدة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم يقال له عبيد قال : " إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الإرفاه "
سئل ابن بريدة عن الإرفاه قال : منه الترجل .
قال المزي رحمه الله وهو وهم والصواب فضالة بن عبيد " تحفة الأشراف
7/226)
قلت : الجريري هو سعيد بن إياس قال عنه الحافظ في التقريب : "ثقة من
الخامسة اختلط قبل موته بثلاث سنين " وذكره العجلي في ثقاته ص181 وقال
ثقة واختلط بآخره روى عنه في الاختلاط : يزيد بن هارون وابن المبارك
وبن أبي عدي وكلما روى عنه مثل هؤلاء فهو مختلط ، إنما
الصحيح عنه : حماد بن سلمة وإسماعيل بن علية " .
فرواية أمرنا أن نحتفي أحيانا من طريق يزيد بن هارون عن الجريري وهو
ممن روى عنه بعد الاختلاط ورواية إسماعيل بن علية الذي روىعن الجريري
قبل الاختلاط وروايته عنه صحيحه ليس فيها ذكر الاحتفاء .
فرواية أمرنا أن نحتفي أحيانا شاذة لا تصح لأن يزيد خالف ابن علية
ويزيد ممن روى الحديث عن الجريري بعد اختلاطه ومن القرائن التي ترجح
صحة ما ذهبنا إليه أن النسائي أخرج في سننه (8/132) قال : نا إسماعيل
بن مسعود ثنا خالد بن الحارث عن كهمس عن عبد الله بن شقيق قال كان رجل
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عاملا بمصر فأتاه رجل من أصحابه
فإذا هو شعث الرأس مشعان قال : مالي أراك مشعانا وأنت أمير قال
:
" كان نبي الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن الإرفاه "
قلنا : وما الإرفاه قال : الترجل .
فهذه الرواية من الشواهد على صحة رواية ابن علية التي ليس فيها ذكر
الاحتفاء خاصة وأنها لنفس الحادثة .
ثالثاً : قيام بعض طلبة العلم بمسك النعل باليمين والكتب
بالشمال:
من الأخطاء التي قد يرتكبها بعض طلبة العلم مسكهم للنعل بأيمانهم
والكتب بشمائلهم ، وهذا خطأ فينبغي إذا فرغ طالب العلم من درسه
وأراد أن يحمل كتبه ونعليه أن يمسك الكتاب بيمينه والنعل بشماله ، قال
علامة فاس المهدي الوزاني المالكي - رحمه الله - في "النوازل
الكبرى":"كثيراً ما يقع لبعض الطلبة حتى فقهاء التدريس أن يمسك النعل
بيمينه ، والكتاب بشماله أو تحت إبطه الشمالي ، وذلك خلاف المطلوب
عقلاً ونقلاً ، وتفاؤلٌ لأن يؤتى كتابه بشماله ، عياذاً بالله"
والحمد لله رب العالمين فإن وفقت فالفضل لله وحده وإن أخطأت فمني ومن
الشيطان والله ورسوله من ذلك براء .
كتبه أبو عبد العزيز
سعود الزمانان "ALYAMY68"
13 / 8 / 2000