عود على بدء: عن النهضة

منذ 2014-04-06

لجهد المطلوب لنهضة الأمة ضخم، تتجدد التحديات وتدور الأحداث، ليستمر تفكيك مساحة الوعي الإسلامي لأسباب تتراوح بين الانشغال باستهلاك الأفكار والسلع، أو هجرة الكوادر والعقول، أو تنافس الفرقاء وتفكك النسيج الاجتماعي، ووطأة تحولات المنظومة الاقتصادية التي ربطت نفسها منذ الاستعمار بآلة الرأسمالية الدولية، ومنطقها ودوائرها.

الجهد المطلوب لنهضة الأمة ضخم، تتجدد التحديات وتدور الأحداث، ليستمر تفكيك مساحة الوعي الإسلامي لأسباب تتراوح بين الانشغال باستهلاك الأفكار والسلع، أو هجرة الكوادر والعقول، أو تنافس الفرقاء وتفكك النسيج الاجتماعي، ووطأة تحولات المنظومة الاقتصادية التي ربطت نفسها منذ الاستعمار بآلة الرأسمالية الدولية، ومنطقها ودوائرها. ووَضْعُنا من مطلع القرن التاسع عشر كان أشبه بلحظة ما قبل النهضة الصناعية في أوروبا، وظهرت جهود التجديد التي توجه بعضها للغرب مستلهما وبعضها للتراث مستصحبًا، ومرت العقود دون تحقق المنشود، والمرحلة اليوم في ظل المستجدات ومجريات الأحداث العربية تحتاج لرؤية ثاقبة، وصناعات ثقيلة للفكر، وعناية فائقة بإعادة صياغة خرائط العقل، وتحصيل لموارد القوة بأنواعها، ومن المهم أن ندرك أنه في بعض المجالات التركيز على (المشروعات الفكرية الصغيرة) في مجال بناء القدرات للنهضة لا يقل أهمية عن المشروعات الكبرى، ومن الفرائض الغائبة جهد صغير قد يوفر اللبنة الناقصة في صرح شبه مكتمل.. أو ترس ناقص في آلة تستعد للدوران.

 

وهناك رؤيتان لنهضة الأمم: أن تفكر بشكل واسع وضخم Think Big، أو أن تطبق نظرية (كل صغير جميل) Small Is Beautiful، والجمع بينهما واجب، والاختيار بينهما في المسارات المختلفة يحتاج بصيرة، ولا يعني الاتساع في الرؤية الزحام في المهمة، فقد يصوغ تصور العالم فرد، ويتولى ملف التشبيك مع القارات ثلة، وقد يكون في الأمة على بعض الثغور.. فرد بأمة، فهناك إستراتيجية النمل وإستراتيجية الأفيال، الأفيال لها عالمها ولها خبراؤها، ونحتاجها للتغيير السياسي والاقتصادي السليم، لكن علينا أن نفهم أن النمل أقدر على مواجهة العواصف من الأفيال، وتغيير الحال من عصر إلى عصر. {فلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ:14].

 

لكن عنصر الخطر في المشهد هو الجراد والفئران، الجراد الذي تحكمه عقلية الإتيان على الأخضر واليابس والطيران بُعَيدها بعيدًا، والفئران التي تكتفي بالقفز من السفينة وهي تغرق بعد أن تكون قد قرضت خشبها وحولته لألواح متناثرة. وتحتاج أمتنا لصياغة عقل النهضة قبل العمل على مشروع النهضة، فالعقل السياسي والاقتصادي قد يفكر في قياس العائد وحساب النتائج، وهذا حق مشروع وصواب، لكنه لا يبني صرح النهضة، بل يشيده العقل النهضوي الحضاري، حيث يفكر في إلقاء البذور وحماية التربة والاحتفاء بالثمر وقت الحصاد، ونهضة كالتي نحلم بها تحتاج عقلية التجارة كما تحتاج عقلية الزراعة. والمدنية والحضارة لا بد أن تقف على ساقين. لكن المقاصد قبل التفصيل، والقبلة قبل التكبير.

من أين نبدأ؟

إجابتي دوما عن سؤال النهضة أن الإصلاح عملية معقدة، لكن تبدأ من الناس، صحيح أن (الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) لكن يظل التغيير في يد الناس، فالركلة الأولى لكرة الإصلاح تأتي من الناس، وليس هذا عزوفًا عن دهاليز السياسة وأضابيرها، فلها أهلها ولها طلابها، لكنه وعي بأن السياسة ميزان قوة وعلاقة (ردع متبادل).. وتدافع. فإذا أهدر الناس إمكاناتهم وطاقاتهم، وقبلوا قتل أحلامهم، ولم يردعوا (النخبة/الملأ) عن الاستبداد والفساد، حتى تحت شعار نهضة، فإن المحصلة هي حاكم مستبد ونخبة فاسدة وخذلان للمشروع وللأمة. وليس من قبيل المصادفة أن الناس تحصل على حقوقها في كل مرة تطالب بها وتدافع عنها، فما ضاع حق وراءه مطالب، لكن في مرات كثيرة تهدر النخبة تلك المكتسبات، فتكون المحصلة هي الارتباك والإخفاق ثم البوار.

وسيكون السؤال التالي: فمن أين نبدأ وما الخطوات؟

ولطالما وَجَدْتُ فكرة خطوات الإصلاح التنظيمية المرتبة (وكأننا نصعد سلمًا أو نسير على أرضٍ من المربعات المخططة) فكرة طريفة جدًا، ومضللة للغاية، فمن قال إن التغيير نتاج خطط مسبقة وخطوات مرسومة.. وفقط؟

لم أجد في التاريخ أمة حصلت نهضتها بخريطة طريق معلومة ومحددة سلفًا، لكن الأمم تحقق النهضة بروح تسري فيها، فتحول اللون الأصفر الرابض على مساحات القلب إلى لون أخضر، ويبدأ الناس في المبادرة بالفعل غير المتوقع وغير المنتظر، فتبزغ الرؤية وتتشكل، ويقترن الفكر والواقع في مشروع تلك اللحظة التاريخية الفارقة. ولا ينفي هذا إعداد الملفات لمرحلة مَا بعد اللحظة الفارقة، لكن كيف تأتي؟ هو سؤال يحكمه التاريخ والقدر، والتكليف في القرآن هو: {وأعدوا}..[الأنفال:60]، والتحقق: {وما رميت إذ رميت} [الأنفال:17].

التغيير يحدث حين يبدأ الناس في تحدي الواقع بدون خطة تسمح بإجهاض مقاومتهم، ولأن الأمر غير متوقع؛ ولأنه خارج السيناريوهات التي ترسمها القوة المهيمنة، تفلح الجهود الصغيرة في فتح ثغرات في الجدار، وشق مساحة في السقف، وهدم ركن ركين في صرح ظن الناس قبلها أنه لا يهزم ولا يقهر؛ فإذا خر تبينوا أن لو كان لهم طاقة أمل وجرأة فعل لانهدم منذ دهر. هكذا تهاوت بنية الجاهلية مع بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا تهاوت كل بنى الطواغيت عبر التاريخ.

وقد بدا لي في التجوال بين الكتب والنظريات والترحال في البلدان والمساحات أن خريطة التغيير أشبه بطاولة البلياردو، وليس بلعبة القوس والسهم، فنحن نظن أحيانًا أننا لو شحذنا القوة وسددنا على نقطة تصيب في مقتل لانتهى الأمر. وتقديري أن الأمر ليس كذلك البتة! فنبي الله موسى لم يملك من مقومات البطش ما امتلكه فرعون وهامان وجنودهما، لكنه امتلك قوة الحق وطاقة السعي، وغاية تمكين الناس، ويكفي المرء أن يدفع أول كرة أمامه على طاولة البلياردو لتحرك الكرات الأخرى، ليس في اتجاه واحد بل في عدة اتجاهات، وقد تسقط في المكان المنشود كرة غير التي نتحسبها، ومن لون لا نتوقعه، فالكرات على الطاولة ألوان، والتنوع سنة، وحركة التاريخ أشبه بحركة الكرات في اتجاهات تثمر في النهاية عن تغيير خريطة القوة ومشهد الطاولة.. لكن لفكرة الضربة القاضية في حلبة ملاكمة للأسف سلطان على العقول.. والأفئدة.

الواقع لا يتغير كما في لعبة الرماية بطلقة تصيب هدفًا، بل بمناورة أشبه بمصارعة الثيران التي يملك فيها الثور قوة أكبر من قوة اللاعب المتقافز هنا وهناك، ولو واجهه لصرعه الوحش، لكن إنهاك الوحش وطول النفس ومهارة التصويب لغرس سهم وراء الآخر والمراهنة على الجروح الصغيرة والنجاحات المتكررة ما تلبث أن تؤدي لنزيف يفقده قوته وتصبح الضربة الأخيرة أشبه بالقشة التي تقصم ظهر البعير، بسيطة وسهلة وأحيانًا أقرب مما يظن المشاهد بعد أن كاد ييأس ويغادر مقعد المتفرج.

 

السنن.. واليقين

لدينا في مواقف كثيرة من الرعونة ما يغلب التعقل، ومن التخاذل ما يغلب العزيمة، ومن الحرص على الدنيا ما يغلب الدفاع عن الكرامة، ومن التنازع على السلطة والنفوذ ما يغلب التعاون على البر والتضحية في سبيل المبدأ، ونقرأ في كتاب الله قوله {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78].. ما تحتاجه أمة هو قليل من الرشد.. وقليل من الرجولة.. وبعض من المروءة. والنهضة حركة تاريخ، لكنها تراكم فعل يومي للناس، يتراكم ويفرز قياداته منكم ليصلحوا الأمر.. وليست تغييرًا يقلب الطاولة بما عليها. ولا يغني هذا عن الخطط والمراحل المرسومة، لكن الخرائط تصلح للحظة ما بعد النهضة.. تلك اللحظة التاريخية من صحوة أمة، ويقيني أن التقاتل على جثة لا يجدي كثيرا، (اضربوه ببعضها)؛ فإن عادت له الروح فليذهب حيث يشاء، فالحي يتوجه حيثما أراد ودعوته للمكارم ممكنة، أما الميت فإنه لا يسمع النداء.

لذلك فالحديث عن النمل حديث موصول، النمل يتحمل أضعاف وزنه، يحاول ويناور، يدخل الجحور ويختبئ ثم يعود منتشرًا، يملك الجرأة أن يقرص الفيل فيؤرق نومه، ويتابع الأخبار السياسية ويعرف متى يمر سليمان وجنوده وأين، ويطلق التحذير ليدخل الباقون منازلهم حتى تمر الكارثة القادمة بسلام، وحين يأكل النمل العصا الذي يتكئ عليه الجسد المترهل الميت الذي يحسبه الناس مهيمنًا وباطشًا يدرك العالمون أن لو كانوا أكثر وعيًا لما لبثوا في العذاب المهين.. وأن النمل كان أكثر وعيًا وأقدر على صياغة التاريخ بالفعل الدؤوب الصغير دون حاجة للقدرة الخارقة للجن.

كان سليمان يعرف لغة النمل، وكان يعرف أمانة الملك، وكان يسخر الجن، لكن المشكلة أن الأمة اليوم لا تعرف لغة النمل. حين تتوغل الوحوش فتبتلع المساحات التي يتحرك فيها النمل وتبدأ في حملات إبادة، هل نحسب أن النمل سيندثر، التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع تدلنا على أن ذلك لا يحدث، وأن النمل يختبئ لكنه لا يموت، يتمهل لكنه لا يكل ولا يمل، وأنه يطور إستراتيجيات جديدة، ليعيد تأسيس مجتمعاته الخفية غير المنظورة، ثم يعود في لحظة تاريخية مواتية ليتحرك في المساحات المحظورة ويتحدى التقييد والمحاصرة، ويستعصي على التجاهل والتهميش والإزاحة من الوجود.

يدرك النمل أن استعادة المساحات مسألة وقت، فالنمل لا يعرف اليأس، بل يجيد ممارسة الصبر، والمرابطة، ويعرف أن الأحوال مثل الفصول.. تتغير، وأن الأيام.. دول، وأن الدول.. أيام. والنمل أنواع، نمل صغير لا يكاد المرء يراه، ولكن قرصته مؤلمة جدًا، ونمل أحمر ونمل أبيض ونمل يزحف ونمل يطير.. وكلٌ مُيسر لما خلق له.

إستراتيجية النمل ليست إستراتيجية ثورية تراهن على استخدام القوة الصلبة أو تبحث عن تغيير مفاجئ وراديكالي، بل هي إستراتيجية تعتمد الاحتفاء بالعمل في صمت.. فهي لا تؤمن بالضجيج، وهي إستراتيجية تؤمن بتقسيم الأدوار والتعاون المنظم والاشتراك في القيادة والإدارة اللامركزية، والتعاون في اتخاذ القرار، وشيوع المسؤولية لتستشعرها كل نملة، ولم تقل نملة يوما: لا أستطيع، بل تظل تحاول وتحاول وتحاول، حتى يتم إنجاز المهمة.

ضجيج الآلات الكبرى قد يشعرنا بتفاهة النمل، وقد نظن أن الآلة لا بد لها من عصا لو وضعناها فيها ستوقفها، النمل قد يقرر أكل سير الماكينة أو أن يتسلى بتناول وجبة من الغلاف العازل لسلك كهرباء، واترك النمل قليلا ستجده قادرًا على وقف الآلة الكبيرة بأفعال صغيرة. فطول النفس، والإخلاص في العمل مهما كان صغيرًا، والحرص على الاستمرار.. هو الرهان، ونقطة الماء تحفر مجرى النهر.

 

من المقاومة.. للنهضة

علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعطى الأمة دروسا في التمدن، ووضع قواعد للأخلاق حتى في زمن الحرب والقتال، ورأى المواجهة المسلحة لحظة على مستمر تاريخي ممتد، أصله التعارف والتدافع، فالغاية هي تحقيق العدل ودفع الظلم، فإن جنحوا للسلم فإن فكرة الثأر التاريخي ليس لها مجال، وإن عادوا.. عدنا، وطنيًا وإقليميًا ودوليًا. الأمم لا تحصل تقدمها ولا تبني حضارتها بفعل المقاومة وحده، إذ ينبغي أن تكون المقاومة خطوة تكتيكية في سياق إستراتيجية نهضة كاملة، لأن هذا الإطار الأوسع هو الذي يحدد لنا متى نهجم ومتى يحق لنا أن نعتصم بالصبر وطول النفس، ومتى نوظف أدوات القوة المسلحة، وما هي اللحظة التي ينبغي فيها أن نضغط بأدوات السياسة والتفاوض، وهكذا.

لكن المقاومة ذاتها صارت مشهدا ضمن مشاهد (ثقافة المنظر) الإعلامي، غلبت عليها أدوات العصر وفرقعات الصورة والدعاية، ففقدنا البوصلة، وأدمنت الجماهير التي تشاهد الشاشة الفرقعات والمصادمات، تذرف الدموع حين تشاهد صور الدم، وتتهم بالعمالة والخيانة من يسعى للوصول إلى حل طويل الأجل يكفل –في ظل المعطيات والظروف- بالمواصلة والوعي الإستراتيجي. المقاومة تغري بصور البطولة.. تغري بالمواصلة واستعذاب التضحية، فقد يجيد البعض فنون الموت أكثر مما يجيدون معايشة ومكابدة الحياة والصبر على البناء.

إن مقاومة بلا رؤية للنهضة على المستوى الداخلي هي بدورها عرضة لنفس الخطر، أن تسقط في أسر الصورة والمشهد بدون أن تبني رؤية للمستقبل، فيغدو حضور القنوات الفضائية في تغطية المشهد أهم من إنفاق الوقت في الاتفاق على منهج تغيير. بعد عامين انتشرت الإضرابات العمالية، بل وإضرابات الموظفين.. وما زالت، فالمقاومة لها أثر ولا شك، لكن أين المشروع الذي ينظم هذا كله في حركة تغيير تعيد للأمة نهضتها التي نبحث عنها منذ عقود طويلة. والتغيير سلسلة حلقاتها متشابكة. فعن المقاومة والنهضة نحتاج أن نتحدث، وأن نتجادل ونجتهد ونجدد، إذ يبدو أن المسألة أبسط مما نتخيل، ولكن علينا واجب ثقيل هو أن نستحضر كلا من المقاومة والنهضة في الواقع اليومي للناس.. وفي الأفعال الصغيرة كما في الكبيرة.

 

كي لا ننسى الدعوة

يفلت منا خيط الدعوة حين نشد حبال السياسة، ننجرف أحيانًا في اليومي، وتبتلعنا عجلة التدافع والصراع.. فتحتل الأخلاق والتزكية والدعوة أولوية متأخرة لأن لحظة التمكين تغري.. وتستلب. الآية الكريمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]. توضح لنا أن الحكمة تسبق الموعظة، وأن الإحسان شرط الجدل، وأن الله أعلم بالعباد.

تصدر البعض للدعوة فصدوا الناس عن سبيل الله، وجوه مكفهرة، ومقولات حادة، وشعور بالتعالي على الناس، وتنزيه النفس واتهام الآخرين، يضيقون الواسع ويصعبون السهل ويجيدون تحويل القضايا الفرعية إلى قضايا كبرى، ورفع اللمم إلى مرتبة الكفر. لكن الغاية الكبرى من الدعوة هي استمالة القلوب واستنقاذ الناس من العذاب وشمولهم بالرحمة... فكيف يمكن أن تتحقق هذه المقاصد على حين تجرفنا نزاعات السياسة ومصالح الاقتصاد؟

أسلوبنا في الدعوة بل في طريقتنا في الحياة وطباعنا وسبل معيشتنا وأخلاقنا اليومية وقيمنا، غايتها حمل الأمانة وتحملنا الشهادة على العالمين.. والسياسة سبيل للنهضة وليس مساحة النهضة كلها. والحكمة لازمة، وتقصيرنا شديد، وأغلبنا عنيد، والرشيد في هذا المجال.. غريب وحيد. نحتاج ألا تشغلنا مسارات السياسة عن صناعة المستقبل والتفكير في إستراتيجيات تغيير العالم، ولم تكن دعوة الإسلام دعوة فقط لمقاومة الجاهلية، بل دعوة تأسيس وصياغة لنموذج رباني المنهج، إنساني الصبغة، رسالي المقصد، فكيف حاصرتنا الأزمات وانحبسنا في أمكنتنا وفرضت علينا السياسة هذا السقف المنخفض من التصور وتلك المسافة المحدودة من الرؤية؟ والحل هو رسم خرائط المساحات وتقسيم المهام وتنسيق الحركة وتمييز الوسائل وتوزيع الأعباء وصيانة الرؤية الكلية ومنطقها الأعلى والأسمى.

 

أمكنة النهضة ومساحات الوجود

أحد مفاتيح النهضة المنسية هو فهم تحولات المكان كي لا تتوه مشاريعنا في متاهات اليومي، فتمر الحياة دون أن نملك التحقق والعيش بشكل يليق بنا.. كبشر. ففي العديد من المدن العربية اليوم تحول المكان من وعاء للنسيج الاجتماعي إلى مساحات تنتج التفكيك والتنازع وإنتاج الفوارق، مدن يتم فيها فصل الفقراء عن الأغنياء فصلا عنصريًا، ومدن تم اجتياحها من جحافل المغول الجدد القادمون من وراء النهرين، لكي يغسلوا أموالهم أو يبيعوا أعراضهم، ومدن باعت ثلث مساحاتها للفرنجة حتى أغلقوا عليهم حارات كاملة في الأحياء القديمة لأرض المرابطين واحتفلوا بالعودة والاستيطان.

كتبنا كثيرا عن واقع العرب والمسلمين، وعن إسهامات التيارات المختلفة وإخفاقاتها حتى الآن في صناعة النهضة، وعن رؤيتها عند التيارات الإسلامية بدءًا من القرن التاسع عشر. كل التيارات الفكرية والاجتماعية والسياسية لها هدف هو التغيير، بعضها يريد أن يغير واقعه، والبعض الآخر الذي يحمل رؤية كونية أو رسالة أيديولوجية يريد أن يغير بها واقعه.. والعالم.

لكن كيف نضع تصورا للنهضة يغيرنا.. ويغير العالم؟

والحق أن السؤال الأولى بالرد قبلها هو.. ما تصورنا للعالم؟

تصور المسلمون العالم في صيغة المعسكر، معسكر الكفر ومعسكر الإيمان، دار إسلام ودار حرب، ثم نمت فكرة دار العهد، ثم تحولت الرؤية إلى تصور مركب لأمة دعوة.. وأمة إجابة، وتشابك الدور، في ظل عولمة تفشت فيها الجاهلية في دور المسلمين، اختلط الصالح بالسيء في الممارسة الاجتماعية والسياسية والشخصية، وفي كيفية إحداث التغيير. ثم برز في عصرنا تصور رواد التجديد، بدءًا من الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، مرورًا برواد الحركات الإصلاحية الاجتماعية، ثم خرائط أفكار أمثال مالك بن نبي، وعلي عزت بيجوفيتش، وروجيه جارودي، وعلي شريعتي، وعبد الوهاب المسيري، وطه عبد الرحمن، وغيرهم قائمة طويلة، وانبعثت جهود أثمرت تأسيس مدارس فكرية في الجامعات، وجامعات إسلامية في الأقطار، تتبنى المنظور المقارن، وتمثل منصات للاجتهاد الجماعي في العلوم المختلفة.

هناك أيضا مهمة تغيير عالم المسلمين بتغيير الفقه، فقد تطورت المذاهب الإسلامية في مسارها المعاصر لتواجه عالمًا جديدًا، وانتفض علماء الشريعة ليشحذوا أدوات الفهم والاجتهاد، وتأسست المجامع الفقهية في عالم الإسلام وفي الغرب، ونشأ فقه حول الاقتصاد الإسلامي ليتعامل مع المتغيرات، وفقه الأقليات ليؤسس لتغيير العالم بصياغة رؤى لمقاومة الهيمنة، وللتعايش بين المسلمين وغير المسلمين على أساس من العدل والدفاع عن الحقوق (حلف فضول عالمي معاصر).

تلك كلها تجليات كبرى لعقول تريد تغيير العالم، بتغيير الخرائط المختلفة، وتجديد الرؤى والجهود. بيد أن هناك في عصر العولمة وسائل تجدد مناهج تغيير العالم وتجعلها في متناول يد الفرد العادي، فهل لدينا رؤى لها وكيفية استخدامها دون أن تؤدي لتجريف الأخلاق وغياب المسؤولية عن الكلمة وأمانتها، وتحري الدقة في نقل الأخبار والتعفف عن الخوض في أعراض الخصوم؟

فكيف ننقل الإسلام من عقيدة.. لمنهج حياة، فيغدو للإسلام أصوات تدافع عنه وإن لم تؤمن بعقيدته، كانت في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم.. وما زالت. وهو استثمار في (المعمورة الفاضلة) التي تحدث عنها الفارابي، والتي قد تغدو أيضا داعمة للمدينة الفاضلة والأمة الفاضلة. وعلى هذا الدرب قائد هو المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي كانت سيرته مسيرة لتغيير العالم، بدون شروط موضوعية، وبدون حسابات القوة، لكنه آمن، ودعا، وصبر، حتى أتم الله عليه النعمة.. وأكمل له الدين.. رحمة للعالمين.

فإن نجحنا نحن في تطوير فقهنا عن التصورات المكانية للذات والآخر التي حكمت العقل والنظر الفقهي طويلًا، وأدركنا العلاقة المركبة بين بناء النهضة وتغيير العالم، وإذا كان الصراع بين القوى واختلال توازنات العدالة مسألة تاريخية معروفة مرتبطة بالظاهرة الإنسانية فإن صيغ العلاقة وسيناريوهات إدارتها ومسارات وأشكال مقاومة الظلم تتنوع وتتغير.. وتجاهل ذلك لمصلحة تفكير بسيط يعكف على الذات ويتعامل بردود الأفعال مع التحديات اليومية يعني ببساطة السير بخطى واثقة ثابتة نحو الهزيمة. وفي ظل هذه المعادلات لم يعد ممكنا أن نكون مادة لصراع الحضارات.. بل لا بد من أن نكون فاعلا على الساحة الدولية له وزنه واعتباره.

كثيرا ما يسألني طلابي في العلوم السياسية أسئلة شاملة وكبرى ويندهشون حين أقول لهم إنني لا أملك إجابات متكاملة على قضايا كثيرة تناولها النقاش، وأبين لهم أن خريطة العقل المسلم يجب في المرحلة القادمة أن تكون خريطة العالم، وأن رسم هذه الخريطة مهمة ثقيلة تحتاج اجتهاد جماعي يفوق طاقة فرد مهما بلغت درجة تخصصه، وأن المجتهد الفرد المعتد برأيه المنفرد الذي يظن أنه يمكن أن يحيط بالأمر من جميع وجوهه -أي أمر جاد ويمس حياة الناس- لا أرضًا قطع ولا حضارة استبقى.

ولست ممن يقولون عند الأزمات إن التغيير يجب أن يكون شاملا كاملا، لأنني أعلم أن الاجتماع البشري مبني على التغير لكنه فيه سنن الاستمرارية، ويجب أن يتناغما معا بإيقاع متواز، لكنني أدرك جيدًا أن العالم المفتوح الذي نعيش فيه يحتاج منا مزيدًا من التفاعل والتواصل.

لقد تجولت في مساحات من العالم لم أجد للعروبة والإسلام فيها تواجدًا فاعلًا، رغم أنها مهمومة بقضايانا، شغلنا الجاري عن التعاون والتعارف، وهو الذي من أجله خلقنا الله شعوبًا وقبائل، لكننا للأسف أضعنا الشهادة على الناس التي هي أصل الشهود، وقصرنا الشهادة على أن نقتل في سبيل الله. ويبقى أن نتذكر دوما أن كل الخيارات لها ثمن.. السكون له ثمن والفعل له ثمن، والركود له ثمن، والنهضة لها ثمن، ويد القدرة تتحرك لتغير مجرى التاريخ حين يتحرك الناس بما أمكنهم ليغيروا ما بأنفسهم، ويستنفذون وسعهم، ثم يغير الله متى شاء.. بسنن لا تتخلف وقدرة لا تنازع. فالنهضة تراكم أفعال وليس قلب طاولة على الناس.

هبة رؤوف عزت

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي- العدد 584
  • 0
  • 0
  • 123,595

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً