دولة غزة حلمٌ إسرائيلي
إن أكثر ما أخشاه، وكثيرٌ من الفلسطينيين الوطنيين المخلصين الغيورين على القضية الفلسطينية، أن يتكلس وضع قطاع غزة، ويجمد على حاله، ويصبح بمرور الزمن بقعةً جغرافية معزولة، وكيانًا سياسيًا مستقلًا، وكتلةً سكانية منفصلة، لا علاقة لها بالأرض الفلسطينية، ولا يربطها ببقية الوطن معابر ولا خطوط مواصلات، بما يهدد هوية القطاع، وينفي عنه الصفة الفلسطينية.
إن أكثر ما أخشاه، وكثيرٌ من الفلسطينيين الوطنيين المخلصين الغيورين على القضية الفلسطينية، أن يتكلس وضع قطاع غزة، ويجمد على حاله، ويصبح بمرور الزمن بقعةً جغرافية معزولة، وكيانًا سياسيًا مستقلًا، وكتلةً سكانية منفصلة، لا علاقة لها بالأرض الفلسطينية، ولا يربطها ببقية الوطن معابر ولا خطوط مواصلات، بما يهدد هوية القطاع، وينفي عنه الصفة الفلسطينية.
إذ إن الجزء في الأصل والمنطق ينتمي إلى الكل، والصغير يلحق بالكبير، والمحدود يستوعبه المطلق، ولما كان قطاع غزة هو الجزء الصغير المحدود من الوطن فلسطين، فإني أخشى في حال عزله وفصله، والحفاظ على حاله المعزول القاصي المستقل، بادعاء أنه قادر على العيش مستقلاً، وإدارة شؤونه بنفسه، أن يصبح مع الوقت كيانًا مستقلًا، ولا يكون بحاجةٍ إلى وصله بالأصل، أو ربطه بالوطن. خاصةً أنه وفق الفهم الإسرائيلي والدولي، والعربي عمومًا، ولدى بعض الفلسطينيين أيضًا، أن قطاع غزة جزءٌ من الأرض المحتلة عام 1967، وليس جزءاً من فلسطين كلها، لكنه معزولٌ عنها، ومفصولٌ بالأرض المحتلة عام 1948، وبالتالي فإن ربطه بالضفة الغربية والقدس الشرقية أمرٌ في غاية الصعوبة.
ومنطق وصله ببقية الأرض المحتلة عبر نفقٍ أو معبرٍ مغلقٍ كليًا تحت الأرض أو فوقها، بفتحتين اثنتين فقط، واحدة في غزة والثانية في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، لا يعتبر حلًا منطقيًا، وقد لا يكتب له الدوام والاستمرار، ولعل سلطات الاحتلال الإسرائيلي ستكون متحكمةً فيه كليًا، وصلًا أو قطعًا، فتحًا أو إغلاقًا حسبما تريد، ووقتما تشاء وتقرر.
الإسرائيليون يحلمون ويأملون ويعملون ويجتهدون ويبذلون أقصى جهدهم، ليصبح قطاع غزة كيانًا مستقلاً سيدًا حرًا عربيًا، ينتمي إلى العرب، ويرتبط بهم، ويتعاون معهم، شرط أن ينفصل عن أمه، ويبتعد أن أصله، ولا يربطه شيء بالضفة الغربية، أو بالأرض المحتلة عام 1948.
ولعل الإسرائيليين مستعدون وجاهزون لأن يمدوا هذا الكيان بكل أسباب الحياة والاستمرار، وأن يجلبوا له الاعتراف الدولي، وأن يحققوا له الدعم المالي، إذ إن خلقه مستقلاً يخدم المصالح الإسرائيلية، ويحقق أمانيها، ويؤمن مصالحها، ويحميها من هجمات المقاومة في قطاع غزة. علمًا أنهم يكرهون هذه البقعة الجغرافية من قبل أن يتشكل كيانهم، فهم يقولون أن غزة لم تكن يومًا جزءًا من ممالكهم، ولم تكن محط أحلام وأطماع ملوكهم، وأما أنبياؤهم فليس لهم بقايا أو أثر في قطاع غزة، إلا ما يدعيه بعض حاخاماتهم من وجودٍ مقدسٍ لليهود في مستوطنة كفار درووم، وهي مستوطنةٌ قديمة جدًا، وتقع خارج حدود قطاع غزة. أي إن وجودهم المقدس المدَّعى لا يقع داخل حدود قطاع غزة، وبالعودة إلى التاريخ القديم والحديث، فإننا نجد أن وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه دايان يعبر بقواته إلى مصر من الحدود الشرقية لقطاع غزة، وقديمًا يقول المؤرخون اليهود أن شعبهم قد هرب من مصر فرارًا من فرعونها إلى الأرض المقدسة، مجتازًا الحدود المصرية من جهة صحراء النقب الفلسطينية، أي أنهم لم يمروا من قطاع غزة، ولم يعسكروا فيه، بما ينفي أي أثرٍ لهم فيه.
وحديثًا يكره الإسرائيليون قطاع غزة، وقد تمنى جنرالهم الأكبر إسحق رابين لو أنه يستيقظ يومًا فيجد أن قطاع غزة قد ابتلعه البحر، فلا يعود موجودًا، كما أنه أعيا أرئيل شارون الذي كان حاكمًا عسكريًا للمنطقة الجنوبية، بما فيها قطاع غزة، وخلال فترة إدارته للقطاع في سبعينيات القرن الماضي، عانى كثيرًا من المقاومة الفلسطينية، وتكبدت قواته خسائر فادحة، وكان جنوده يخشون التجوال في شوارع غزة ليلاً ونهاراً، وإن قرروا التجوال، فإنهم كانوا يتحركون بأعدادٍ كبيرة، وبجهوزية عسكرية عالية، مع تأمين الاتصال بمراكز القيادة، التي كانت دومًا على أهبة الاستعداد لنجدتهم وإنقاذهم، وإرسال المدد لهم.
الإسرائيليون يكرهون قطاع غزة ويعانون منه، فهو يكتظ بمليوني فلسطيني في مساحته الصغيرة جدًا، فهو شعبٌ ولودٌ كثير الإنجاب، تزيد نسبة الذكور فيه عن الإناث، ورجاله مقاتلون أشداء، لا يبالون بالموت، ولا يعرفون الخطر، ولا يقفون عند الصعب أو المستحيل، ولا يترددون عن مهاجمة الأهداف الإسرائيلية، وتحدي أمنهم ولو كان صعباً وخطراً، بل إنهم يجدون لذةً في مقاومة الإسرائيليين ومقارعتهم، وقد نالوا منهم قنصًا وذبحًا وتفجيرًا ونسفًا وخطفًا واستدراجًا واشتباكًا ومداهمة وغير ذلك، ما جعل الإسرائيليين يتمنون اليوم الذي يخرجون فيه من القطاع ولا يعودون، لما سببه لهم من استنزافٍ دائم، ومسؤولية كبيرة، وحالة استنفارٍ عالية.
الإسرائيليون اليوم يقولون بصوتٍ عالٍ مرتفع، فلا يخفون تفكيرهم، ولا يخفتون أصواتهم، إن قطاع غزة مؤهلٌ لأن يكون دولة مستقلة، قادر على الحياة والاستمرار، فعنده كل المقومات التي تلزم الدولة، والشروط التي تحقق الاعتراف بها. فحدوده معروفة بدقةٍ عالية، ويشهد المجتمع الدولي على حدوده الفاصلة، ولديه حكومة مستقلة قادرة وقوية، وهي السلطة القائمة التي تدير الأوضاع كلها، وفي القطاع قوة عسكرية كافية، تشكل نواة جيشٍ للدولة، ويمكن لهذه القوة أن تبسط الأمن، وتفرض القانون، وتحقق هيبة الدولة. كما أن لهذا الكيان وسلطته علاقاته الخارجية، وسياسته المستقلة الواضحة، التي يعبر عنها قادته ورموزه في أكثر من مكانٍ ومناسبة، وهذه الشروط الأربعة اللازمة لإعلان الدولة متوفرة وقائمة. وقد قامت الحكومة الإسرائيلية قبل سنواتٍ بالإعلان من طرفها أن قطاع غزة كيانٌ معادي، وفرضت على من ينوي مغادرته إلى الجانب الإسرائيلي، الحصول على موافقةٍ مسبقة، بما يشبه تأشيرة الدخول التي تفرضها الدول المستقلة ذات السيادة، كشرطٍ لدخول الأجانب إليها.
علينا ألا نستخف بالتفكير الإسرائيلي، وألا نقلل من أطماعهم، وألا نضرب عرض الحائط بما يسربون وينشرون. إن هذه الأفكار جدُ خطيرة، وهي تنسف الحق الفلسطيني، وتعرض وحدة أرضه وشعبه للخطر، ولا أعتقد أن هناك وسيلة لضرب الإسرائيلي على رأسه وقفاه ليصحو ويعقل، سوى المصالحة الوطنية، التي توحد الشعب والأرض والموقف والمقاومة، وإلا فإننا ووطننا وحقوقنا في خطرٍ عظيم، وعلى شفا جرفٍ كبير، يكاد ينهار بنا، ويودي بنا وبأحلامنا، فهل ننتبه ونتفق، وهل نصحو ونتصالح، ونعيد إلى الوطن والقضية وحدته ورونقه الجميل الذي كان، أم نشرع الانقسام، ونجلب الاعتراف الدولي به.
- التصنيف: