الاعتصام بالإسلام
إن من أعظم أصول الإسلام الاعتصام بحبل الله، والنهي عن الفرقة والاختلاف، لتحقيق العبادة الدينية والدنيوية، إذ إنه لا يتم أمر العباد فيما بينهم، ولا تنتظم مصالحهم ولا تجتمع كلمتهم إلا بالألفة والاجتماع..
إن من أعظم أصول الإسلام الاعتصام بحبل الله، والنهي عن الفرقة والاختلاف، لتحقيق العبادة الدينية والدنيوية، إذ إنه لا يتم أمر العباد فيما بينهم، ولا تنتظم مصالحهم ولا تجتمع كلمتهم إلا بالألفة والاجتماع، الذي حقيقته: (التعاون على البر والتقوى، والتكافل والتناصر، والتعاطف والتناصح والتواصي بالحق والصبر عليه)، وفي ذلك السعادة والنجاة، وصلاح أمر الدنيا والآخرة، وإقامة العدل، وحفظ الحقوق، ونشر الأمن والسلام..
هذا كله قائم على أن المؤمنين جميعًا إخوة، وإن اختلفت ألوانهم ولغاتهم، وتناءت بلادهم.. فالإسلام يجمعهم ويوحد صفوفهم، ويوجب عليهم العدل فيما بينهم، فيكونون قلعة منيعة، وحصنًا حصينًا، وعندئذ يكتب الله لهم العزة والنصر والتمكين في الأرض، والعاقبة الحميدة، ويؤلف بين قلوبهم، وينزع منها الغل والشحناء والاختلاف.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..} [آل عمران:103].
وقال الطبري في تفسير هذه الآية: "يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله"، وقال ابن كثير: قوله: "{وَلَا تَفَرَّقُوا} أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة"، وقال القرطبي في تفسير هذه الآية: "فإن الله تعالى يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة"، ويؤكد القرطبي على المنهج الصحيح، والركيزة والقاعدة الأساسية للاجتماع والألفة، بقوله: "فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة؛ اعتقادا وعملا، وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات، الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين".
وحقيقة الاعتصام بكتاب الله يوضحها ابن القيم بقوله: "وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم، ومعقولاتهم، وأذواقهم، وكشوفاتهم، ومواجيدهم، فمن لم يكن كذلك فهو منسل من هذا الاعتصام، فالدين كله في الاعتصام به وبحبله علما وعملا، وإخلاصا واستعانة، ومتابعة، واستمرارا على ذلك إلى يوم القيامة"، وهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران، هي الآية الجامعة العظيمة لمقومات الألفة والترابط، التي تكفل اجتماع المسلمين وائتلافهم، وتقضي على أسباب الفرقة والاختلاف، وقد جاءت الآيات في ذم الفرقة أكثر عددًا من الآيات التي جاءت في الحث على الجماعة، لأن الجماعة هي الأصل، وملازمتها هو الواجب والمطلوب شرعًا، أما مفارقة الجماعة والاختلاف فأمر طارئ وحادث خطير، ولذا حذرت الآيات الكثيرة منه، وهي تحمل في ثناياها الوعيد الشديد لمن ترك الجماعة وفارقها.
قال تعالى: {ولاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطًا، فقال: «هذا سبيل الله» ثم خط عن يمين ذلك الخط، وعن شماله خطوطا، فقال: «هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها»، ثم قرأ هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]" (الصحيح المسند:848).
ولذا فإن جمع كلمة المسلمين وإزالة ما بينهم من الفرقة، من أفضل الجهاد في سبيل الله، ومن أفضل القربات، وذلك بمراعاة ما أجمع عليه الصحابة الكرام من أمور الدين، كأمور الاعتقاد والعبادة والسلوك، ومراعاة الأخوة الإيمانية وحقوقها التي تربط بين أفراد المجتمع المسلم، وينبغي على المسلمين ألا يجعلوا الأمور الاجتهادية التي يسوغ الاختلاف فيها، سببا في الفرقة والتعصب، فضلا عن نبذ كل ما يسبب ضعف المسلمين وفرقتهم، من الأهواء والبدع والألقاب والألفاظ والمسميات والمظاهر الكاذبة.
قال النووي: "وأما الاعتصام بحبل الله فهو التمسك بعهده، وهو اتباع كتابه العزيز، وحدوده والتأدب بأدبه.. وأمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام"، وقال ابن تيمية: "وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعا، وأن لا يتفرق، وهو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة".
هناء ثابت
- التصنيف: