التسامح كآلية لحل المشكلات ورفع التناقضات

منذ 2014-04-07

اقتضت طلاقة قدرة الله تبارك وتعالى أن يتحرك التاريخ الإنساني، في قضاياه الكبرى، وفق مراد الله عز وجل لا وفق مراد الإنسان ورغباته وتطلعاته، ولأن العقل البشري عاجز بطبيعته وتكوينه عن الوقوف على حكمة الله تبارك وتعالى في كل شيء

اقتضت طلاقة قدرة الله تبارك وتعالى أن يتحرك التاريخ الإنساني، في قضاياه الكبرى، وفق مراد الله عز وجل لا وفق مراد الإنسان ورغباته وتطلعاته، ولأن العقل البشري عاجز بطبيعته وتكوينه عن الوقوف على حكمة الله تبارك وتعالى في كل شيء، فقد لا يتعجب المرء من شيء قدر تعجبه من أحداث الدنيا ومسيرة التاريخ، وكم هي عجيبة تقلبات الحياة وتحولاتها، إذا نظرنا إليها من خلال زوايا رؤيتنا البشرية المحدودة، بقدراتنا الذهنية وإدراكاتنا العقلية، وليس من المنتظر أو المتوقع أن تأتي تلكم التقلبات والتحولات وفق المنطق الإنساني والتفكير البشري، القائم على أسس المعرفة الإنسانية وحساباتها، بشكل دائم ومستمر.. وإلا ما كانت تقلبات أو تحولات، بل تكون عندئذ تطورات طبيعية، ومسيرة حياتية، وحركة آلية للتاريخ، انبثقت من تفاعلات اجتماعية مدروسة، وسلوكات إنسانية معلومة ومفهومة، ومتحقق من ديمومتها وصيرورتها وأهدافها وغاياتها.

يبدو أن الواقع يؤكد أنه كثيرًا ما تفاجئنا الأحداث بما لا نتوقعه، وتداهمنا الظروف بما لم نحسب حسابه، أو نستشرف قدومه بحال من الأحوال. والحق أن دراسة مسار الحضارات وتاريخ الأمم تكشف لنا النقاب عن وقوع العديد والعديد من التحولات الطارئة، والتقلبات المفاجئة في حركية المجتمعات وتفاعلاتها، حتى ليخال المرء أن المفاجآت التاريخية هي من سنن الله تبارك وتعالى التي لا تجد لها تبديلا ولا تجد لها تحويلا: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، وكثيرا ما يظن صاحب الحق أن أحداث التاريخ قد سارت أو تحركت وفق مراد خصومه أو منافسيه، فيتألم لذلك أشد التألم، ويحزن لذلك أشد الحزن، وربما يلعن الظروف والأحداث التي جاءت بحسب ظنه مخالفة لرؤيته وتصوراته وتطلعاته وحقوقه ومستحقاته، وربما يجزم بأنها تعاطفت مع خصومه أو منافسيه! ولنا أن ندرك أن أحداث الدنيا وتحركات التاريخ لن تأتي دائما وفق هوانا، أو متطابقة مع تطلعاتنا.. بالتالي فهي غير مضمونة المسار، وغير معروفة التوجه، وإلا ما سميت تقلبات وتحولات مفاجئة وغير منطقية بحسب التفكير الإنساني، بينما الواقع أن لها قانونها الذي يرجع في الأصل إلى إرادة الله، التي قد تغيب عنا حكمته في تلك الأحداث لبعض الوقت.. الذي قد يطول وقد يقصر.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما أفضل كيفية يمكن للمرء أن يتعامل بها مع مثل تلك المواقف والأحداث؟ هل يجب أن يتمسك برأيه ورؤيته ويصر على أنهما الأصح والأصوب طوال الوقت؟ وبالتالي يتشدد لوجهة نظره وموقفه، زاعما أنه على صواب والآخرين على خطأ؟ أم يجب أن يتحلى بالتسامح، ويقدر الظرف الذي يمر به الآخر، والصعوبات التي تواجهه، والضغوط التي تمارس عليه من هنا وهناك، وبالتالي يلتمس له العذر؟

قد يكون من المتوافق عليه أن من حق كل طرف أن يحافظ على حقوقه، ويتمسك بالدفاع عنها، والذب عن حماها، ما استطاع إلى ذلك من سبيل، بالطرق الشرعية والمشروعة التي لا تدينه، ولا تجعله يتجاوز الحد المسموح به دينيًا وقانونيًا وأخلاقيًا. إن الدفاع عن الحق أمر مكفول للجميع، لا مرية في ذلك ولا شك، لأن الدفاع عن الحق هو السبيل الوحيد لاستعادته والمحافظة عليه، لذلك قيل: لا يضيع حق وراءه مطالب.. غير أن هذا الدفاع له سبله وضوابطه التي لا يجب تجاوزها بأي حال من الأحوال، أو أية صورة من الصور؛ لأن الخروج عن تلكم الضوابط أو تجاوزها يؤدي إلى ضياع هذا الحق، أو على الأقل يعطي للآخرين مبررا لرفضه أو الاجتراء عليه، مستغلين في ذلك حياد صاحب الحق عن المنهج القويم في المطالبة بحقه.. عند محاولته استرداد ما هو له.

وإذا كان من حق المرء أن يدافع عن حقه ومطالبه، فإن الأمر يقتضي الوعي بالمدى الذي يمكن أن يصل إليه هذا الدفاع؛ كي لا تتطور الأمور والأحداث إلى مراحل أو أشكال يكون من شأنها إحداث ضرر أكبر -من حيث القيمة والمقدار- من الحق المطلوب إرجاعه، أو الهدف المطلوب الوصول إليه. وأيا ما كان الأمر.. فإن ثمة آلية قد وضعها الدين الإسلامي الحنيف للوصول إلى درجة من التوافق المجتمعي، وجعلها أداة لرفع التناقضات وفض الاشتباكات بين المجتمعات والأفراد والأمم. ولقد جعل الإسلام تلك الآلية من قيمه العليا ومبادئه الأخلاقية السامية.. إنها (العفو والصفح والتسامح).

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في أكثر من موضع، نذكر منها أن الله عز وجل امتدح المتسامحين، واعتبرهم من المخلصين لدينهم وعقيدتهم، حيث قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].. فأهل العفو والتسامح في الإسلام هم من أهل الإحسان الذين يحبهم الله عز وجل، ومن أحبه الله تعالى أكرم نزله وأحسن مثواه، وأنزله منازل أهل البر والتقوى.. وورد في القرآن الكريم أيضا قول ربنا سبحانه وتعالى في حض المؤمنين على العفو والتسامح: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِه إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109].

وحتى أولئك الذين خانوا ولم يدركوا جوهر العقيدة، وقصروا في أداء ما عليهم من واجبات، تجد القرآن الكريم يوصي النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده المسلمين جميعا بالصفح عنهم، وعدم الإصرار على معاقبتهم أو الانتقام منهم، قال عز وجل: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13]، ثم إن الله تبارك وتعالى يكرر الأمر لنبيه صلى الله عليه وسلم بالعفو في موضع آخر، حيث يقول له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]. ويزاد على ذلك أن الله عز وجل أكد على الأخذ بمبدأ العفو والصفح عمن أساء لنا، وربط بين التسامح والعفو من جهة، وبين مغفرته سبحانه وتعالى لذنوب عباده وسيئاتهم من جهة أخرى، قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].

هي دعوة إذن إلى اجتناب الانتقام، وتقليد سلوك الآخرين في التطاول على الناس أو الإساءة إليهم.. ويتم هذا الأمر باجتناب السير وفق منهجهم، أو التعامل وفق طريقتهم، وللمسلم أن يلجأ إلى العفو والتسامح حتى وإن كان صاحب حق سيما إذا كان هذا التسامح لن يؤثر على دينه وقيمه الإسلامية الرفيعة. أما إن كان هذا العفو سيؤدي إلى ضياع بعض الحقوق الدنيوية والمكاسب الحياتية، فإن الأمر يعد من الوجهة الشرعية هينًا يمكن التغاضي عنه، سيما إذا أدركنا أن الدنيا برمتها لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، ولو كانت تساوي ذلك ما سقى الكافر منها شربة ماء.. كما علمنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال ربنا سبحانه وتعالى في حض المؤمنين على العفو والتسامح، منبهًا إلى أن صاحب الحق الذي يعفو ويصفح لن يتركه الله تبارك وتعالى ولن يتخلى عنه؛ لأن الله عز وجل من أسمائه (العدل)، لذلك فهو سبحانه وتعالى له تصاريفه في كونه، التي قد تخفى علينا ولا ندركها؛ لأنها تتحرك وفق القانون الإلهي الرباني، لا وفق قانون البشر المحدود بإمكاناتهم العقلية، قال تعالى فيما يشير إلى هذا المعنى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109].

وإذا كان القرآن الكريم قد حض المسلمين على العفو والصفح والتسامح فإنه أكد في الوقت ذاته وفي أكثر من موضع أن الله تبارك وتعالى يحب الرحمة والمغفرة، ومن أسمائه الحسنى (العفو) و(الغفور)، يقول ربنا: {إنَّ اللهَ كَانَ عَفوًا غَفورًا} [النساء:43]، {وَكَانَ اللهُ عَفوًا غَفورًا} [النساء:99]، وتلك مسألة من شأنها الأخذ بيد المسلمين جميعًا إلى الاتجاه صوب ممارسة العفو والصفح والتسامح مع الآخر، حتى وإن تطاول وتجاوز حده. وإلا عن ماذا سيكون الصفح؟ وعن أي شيء سيكون العفو؟

وهكذا تقوم فلسفة التسامح في الإسلام على ممارسة اللين مع من أساؤوا، وممارسة العفو عمن أخطؤوا، وذلك لأن في التسامح دلالة على سعة الأفق ورحابة الصدر، وفي العفو قدرة على ضبط الانفعالات الانتقامية.. وتلك مسائل وضعها الإسلام ضمن منظومته القيمية والأخلاقية. من هنا نستطيع أن نقرر أن الإسلام حض المسلمين في كل زمان ومكان على اعتماد التسامح كمنهج وأسلوب ناجع في حل المشكلات، ورفع التناقضات بين الجميع، وتلك هي شيمة كل الرسالات السماوية الكبرى، حيث يقف المرء في العهدين القديم والجديد على العديد من النصوص التي تؤكد على ضرورة الأخذ بمنهج العفو والصفح والتسامح، وتبرز عظمة توجيهات السماء.. غير أن عشاق التشدد وأصحاب الميول الإقصائية هم من ذهبوا إلى زعم أن الأديان لا تحض على التسامح والتآخي الإنساني، وزعموا أن بعضها يعمل على إقصاء بعضها الآخر، وما قالوا بذلك وما زعموه إلا ليجدوا تربة مناسبة لنشر

فكرهم المادي وتياراتهم الإلحادية.. ومعلوم أن تلك الأمور لا تسود ولا تنتشر إلا في ظل غياب الدين الصحيح، والتدين الوسطي المعتدل.

وثمة أهمية لأن نشير في هذا السياق إلى بعض العوامل التي من شأنها دفع الإنسان إلى ممارسة التسامح على مستوى الفكر والممارسة، أو القول والعمل:

أولا: الحرص على مرضاة الله تبارك وتعالى، فالله عز وجل قد حض على التسامح وحبب الناس فيه، بل أمرهم به من خلال العديد من الآيات القرآنية التي أشرنا إليها.. ونشير إلى أن الأحاديث النبوية أكثر من أن تحصى في هذا السياق، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذج يحتذى في العفو والصفح والتسامح مع الآخرين، والمعلوم أننا أمرنا بالتأسي به صلى الله عليه وسلم في كل شيء، فهو القدوة الحسنة، والمثل الطيب في السلوكات للمسلمين جميعا، بل ولغير المسلمين من ذوي العقول الناضجة والبصائر المستنيرة.. قال ربنا سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

ثانيا: الثقة في أن تحول الدهر وتبدل الزمن لا يحدث إلا وفق مراد الله تعالى، فلا يقع في كون الله إلا ما يريد، مع الثقة بأن لله تعالى في كل قضاء حكمة. إن إدراك المسلم لهذا المعنى يجعله يتسامح ويعفو، من دون إحساس بأنه قد سلب حقه أو نهب مستحقه.. فتصاريف الله في الكون تخضع لمشيئته ومراده سبحانه وتعالى، وليس بالضرورة أن يتوافق ذلك مع مرادات البشر ورغباتهم أو مشيئتهم.. وصدق قول من قال: أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد.

ثالثا: الوعي بأن اللحظة الراهنة ليست آخر اللحظات، والفرصة المتاحة الآن ليست نهاية التاريخ، مع إدراك أن الزمن لن يتوقف على حادث معين، أو أن قوانين الوجود ستختل إذا تسامحنا! أو أن الكرة الأرضية ستكف عن الدوران إذا تجاوزنا عن خطأ الآخرين. ويجب أن يرتبط ذلك بالوعي بأن التعويض ممكن، إذا توفرت أسبابه وعوامله، التي من أبرزها الإخلاص والاجتهاد، الأمر الذي من شأنه تخفيف حدة الألم عن النفس الإنسانية إذا ضاعت عليها فرصة، أو أخفقت في تحقيق أهدافها ونجح غيرها في ذلك.

رابعا: التعلم من التاريخ، وقراءته بدقة ووعي وتأمل وتدبر؛ امتثالا لقول الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2]، وقوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم:5].

خامسا: الثقة بأن نتائج التسامح أفضل بكثير من النتائج التي تترتب على التشدد والتزمت وعدم المرونة.. إذ لم يثبت التاريخ عبر كل مراحله الطوال أن تغييب التسامح والصفح أتى بنتيجة إيجابية، بل كل المواقف التاريخية والحياتية تثبت عكس ذلك تماما.

سادسا: إدراك أهمية الحوار؛ فالتسامح هو وليد التفاهم، الذي يؤدي بدوره إلى إيجاد حوار حضاري بين طرفي كل نزاع، والحوار هو آلة العقل الأولى في حل المشكلات، وتقريب وجهات النظر، إذا ما قام على الموضوعية والحيادية، وتخلص من آفاته المتمثلة في الجدل البيزنطي، والتماحكات اللفظية.

سابعا: الوعي بأن التسامح فعل إنساني صرف، فالإنسان أو التيار الفكري الذي ينتهج التسامح منهجا وطريقا في تعامله مع القضايا والأحداث هو تيار إنساني بامتياز؛ لأن التسامح صفة العقول الراقية والأذهان الناضجة، أما العقول الضيقة العاجزة عن الانفتاح فهي عقول أقل قدرة على ممارسة التسامح مع الآخرين، لأن العفو والصفح يمثلان الترجمة الحقيقية والفعلية لقبول الآخر، والاقتناع بحقه في الحياة والوجود بجانب الأنا أو الذات.. وإذا اقتنع المرء بحق الآخر في الوجود فسيقتنع بالضرورة بحقه في أن يصيب ويخطئ.. وما دام الخطأ واردًا فإن العقل الرشيد يقول بضرورة ممارسة التسامح، وهذا بالضبط ما أراده الإسلام.

أخيرًا: توفر الجو العام الذي يحض على التسامح، ويعرف للمتسامحين حقهم ونبل أخلاقهم.

أمان محمد قحيف

مفكر إسلامي

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي- العدد 584
  • 2
  • 0
  • 14,723

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً