لا تسأل الإمارة
نصر بركات
الإمارةُ وغيرُها من الولايات على الخلق ينبغي أن يُسعى بها إلى أهلها ومستحقيها، ولا ينبغي للناس أن يتصارعوا عليها، بل على العبد أن يسأل الله العافية والسلامة، فإنه لا يدري هل تكون الولاية خيرًا له أو شرًا؟ وهل يستطيع القيام بحقها أم لا؟
- التصنيفات: دعوة المسلمين -
روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال لي رسول الله: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا».
في هذا الحديث توجيهٌ نبويٌ عظيم لهؤلاء الذين تهوى أفئدتهم الإمارة، وتتوق أنفسهم إلى الصدارة، غافلين عن حقيقة أمرها، ناسين أنَّها في الدنيا أمانة وأما يومَ القيامة فغالبًا ما تكون خزيًا وندامة، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سمرة أن يسأل الإمارة أو يسعى إليها.
فالإمارةُ وغيرُها من الولايات على الخلق ينبغي أن يُسعى بها إلى أهلها ومستحقيها، ولا ينبغي للناس أن يتصارعوا عليها، بل على العبد أن يسأل الله العافية والسلامة، فإنه لا يدري هل تكون الولاية خيرًا له أو شرًا؟ وهل يستطيع القيام بحقها أم لا؟
- وسؤال الإمارة ينبئ عن محذورين:
الأول: حرصُ السائل على الدنيا والرئاسة، وهذا الحرصُ غالبًا ما يحمله على تعدي حدود الله، والعلو على عباده سبحانه وتعالى.
الثاني: اتكال السائل على نفسه واعتماده عليها، وهذا غاية الخذلان ونهاية الحرمان، وقد كان من دعاء أكثر النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه أبو داود بإسنادٍ حسن).
- وأما من لم يحرص على الإمارة ولم يتشوف لها، بل أتته من غير مسألة فخاف أن يُقصِّرَ في القيامِ بأعبائها، فإن الله يعينه عليها ويوفقه فيها، لأنَّه في هذه الحالة يقوى توكلُه على الله تعالى، ومتى أخذ العبدُ بالأسباب متوكلًا على الله أفلح ونجح، قال الشيخُ السعدي رحمه الله: "وفي قوله: « » دليلٌ على أن الإمارة وغيرها من الولايات الدنيوية جامعة للأمرين: للدين وللدنيا؛ فإن المقصود من الولايات كلها: إصلاح دين الناس ودنياهم، ولهذا أعطى الله سبحانه وتعالى للأمراءِ حقَّ الأمر والنهي، والإلزام بالواجبات، والردع عن المحرمات، والإلزام بأداء الحقوق" (اهـ. بتصرفٍ يسير).
ولذلك كانت الإمارةُ وسياسةُ الناسِ من فروض الكفايات؛ حيث تتوقف كثير من الواجبات عليها، وهي من أعظم العبادات لمن أخلص فيها وقام بحقها، ومن أكبر السيئات لمن لم يكن كذلك!
- وقد يُشْكِل على معنى الحديث ما قصَّه الله علينا من طلب يوسف عليه السلام للإمارة وولاية خزائن مصر المالية كما في قوله تعالى: {قال اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، والجواب على هذا الإشكال في قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}؛ فإنَّ يوسف عليه السلام نبيٌ من أنبياء الله تعالى، وقد أطلعه تعالى على الخطر الذي كان قد أوشك أن يدهم مصرَ فيأكل الأخضر واليابس، فكان طلبُه للإمارة من أجل مصلحةٍ لا يقوم بها أحدٌ سواه: من الحفظ الكامل للثمار والأموال، والعلم بجميع ما يتعلق بذلك من حسن الزراعة والتخزين والإنفاق، وإقامة العدل الكامل بين الرعية.
وكذلك لم يكن يوسف عليه السلام مبادِرًا بسؤالها بإطلاق؛ بل إنَّه لمَّا رأى الملك استخلصه لنفسه، وقدَّمه وأعلى مرتبته وقال له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54]، كان من الواجب عليه أن ينصح للملك ولأهل مصرَ، وأن يقوم بالواجب الذي لا يستطيع أن يقوم به على الوجه الأتم أحدٌ سواه.
وقد قيل: "لما تولى يوسف عليه السلام خزائن الأرض سعى في تقوية الزراعة؛ فلم يبق موضعٌ في مصرَ يصلح للزراعة إلا زُرِع في مدة سبع سنين، ثم حصَّن الثمار وحفظها ذلك الحفظ العجيب، فلمَّا جاءت سنون الجدب، واحتاج الناس وزَّع عليهم الأرزاق وكالَ لهم بالعدل، ومنع التجار من شراء الطعام خوفًا من التضييق على المحتاجين، وحصل بذلك من المصالح والمنافع ما لا يعد ولا يحصى!
- فليتقِ اللهَ أناسٌ سعوا للإمارة وتولي حاجات المسلمين ليصلوا بذلك إلى شهوات خسيسة وأغراضٍ من أعراض الدنيا الزائلةِ البخيسة؛ فوكَلهم الله إلى أنفسهم فضاعوا وأضاعوا.
والموفَّق من وفقه الله تعالى، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.