الصبر المؤسسي الجميل
الذي ينظر في الواقع، ويرى دَأْبَ المؤسسات التغريبية في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية ومثابرتها، ثم يَجُول بِطَرَفِه في أحوال بعض المؤسسات الإسلامية؛ يعرف حقًّا مَنْ خَذَلَ الدين! إذ لا مقارنة بين كثير من الصالحين العَجَزَة في صبرهم ومثابرتهم على الحق، مع أولئك الفجرة الجَلَدةِ المثابرين على الباطل.
لتستقيم حياة المرء وإيمانه لابد له من الصبر، وذلك واجبٌ عليه في الجملة، كما قرَّر أهلُ العلم، وكذلك لتستقيم حياة الأُمَّة بمؤسساتها وكياناتها لابد لها مِن الصبر، إذ لا تنهض أمةٌ من الأمم في مجالات الحياة كافَّة بغير شيء من الصبر، بل شيء من الصبر العظيم في العادة! فإذا كانت المؤسسة أو الكيان يتزعزع عند أول بادرة إذا ضُيِّق عليه تَرَكَ العمل، وإنْ زُوحِم زَهَدَ في الخير؛ فحقيقٌ بمِثْله أنْ لا يقدِّم للأمة شيئًا يستحق أنْ يُذْكَر به! وحقيقٌ عليه ألا يكون له لسان صدق في الآخِرِين، بل ربما قَدَحَت فيه الأجيالُ السالفة، وحُقَّ لها.
والذي ينظر في الواقع، ويرى دَأْبَ المؤسسات التغريبية في البلدان الإسلامية وغير الإسلامية ومثابرتها، ثم يَجُول بِطَرَفِه في أحوال بعض المؤسسات الإسلامية؛ يعرف حقًّا مَنْ خَذَلَ الدين! إذ لا مقارنة بين كثير من الصالحين العَجَزَة في صبرهم ومثابرتهم على الحق، مع أولئك الفجرة الجَلَدةِ الذين لا تزال حالهم ناطقة مردِّدة بلسان مبين مقولةَ أسلافِهم: {وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6].
وللهِ ما أبصر الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه حينما شكا إلى الله همَّه فقال: "اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ الفاجر وعَجْزَ الثقة". (انظر: السياسة الشرعية لابن تيمية ص [16])، وعنه رضي الله عنه أنه قال لأصحابه: "تمنوا!"، فقال بعضهم: أتمنى لو أنَّ هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق. وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق. ثم قال عمر: "تمنوا!" فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين! فقال عمر: "أتمنى لو أنها مملوءة رجالًا مثل أبي عبيدة ابن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان". (أخرجه الحاكم في المستدرك [3/ 252/ 5005]، وقال الذهبي في تلخيصه: على شرط البخاري ومسلم). ولله درُّه عَلِمَ أنَّ المشكلة ليست موارد مالية! وإنما هي كفاءات بشرية.
إنَّ ما شكا منه عمر رضي الله عنه؛ نشكو إلى الله منه اليومَ على نطاق الفرد، وكذلك على نطاق المؤسسات في شؤون الحياة كافة؛ سياسية، واقتصادية، وإعلامية، وخيرية، وعجز الثقة...وجلد الفاجر!
هل ترون أداء مؤسساتنا مثل أداء مؤسسات مجتمعات غربية أخرى؟
ولك أنْ تتساءل: ما الذي أوجب الفرق؟
الجواب: مفتاحه الصبر والجَلَد والإرادة الرامية إلى إصلاح العمل وإتقانه.
كثيرٌ من الفُضَلاء يعملون في المؤسسات المختلفة، سواء كانت مؤسسات دولة أو مجتمع مدني -كما يقال- أو خيرية، وكثيرٌ من هؤلاء العاملين يحمل همًّا ويريد بالأمة خيرًا، لكن أداء المؤسسات لا يزال غير مرضٍ! لماذا؟
إنَّه عدم الصبر على الإصلاح، والاستسلام للأمر الواقع، وإلا لو وُجِدَ الصبر الجميل مع تلك الإرادة والنية الطيبة؛ لتغيَّرت الحال يومًا بعد يوم.
أما الذي يشكو إلى الناس الحالَ كلَّ يومٍ، لكنه لا يحرِّك ساكنًا لتغيير الأوضاع نحو الأحسن؛ فهو العاجز المتمنّي على الله الأماني، وإنْ قال بلسانه الناطق: الشكوى لله! وماذا نفعل؟
ولو كانت الشكوى لله صادقةً لَبَذَلَ وُسْعَه في الإصلاح، ولم يدَّخر جهدًا لتصحيح الأوضاع، أما الشكوى لله مع القعود عن العمل والاستسلام للأمر الواقع؛ فَكَقَوْلِ القائل: الرزق على الله وهو جالس في بيته! وكزَعْمه أنه متوكِّل على الله، وهو لا يبذل سببًا من الأسباب؛ وهنا يُكَذِّبُ العملُ القولَ، والفعلُ الكلامَ، بل هو المتواكل.
فحريٌ بك أخي المسلم أنْ تُراجِع نفسك أينَ كنت -في مؤسسة، في مدرسة، في أي دائرة حكومية-: هل أخذتَ بموجَبِ الصبر الجميل الذي يقتضي تَرْكَ الشكوى والجَدَّ سعيًا في إصلاح الأمة؟ أو آثَرْتَ التشكِّي والتباكي، والعجز والدَّعَة؟ حاسِبْ نفسَك، واعلمْ أنَّ الصبرَ واجبٌ، وأنَّ الأمة لا تنهض بغير صبرِ بَنِيها، وأنَّ لذلك الصبر أمورًا تنافيه وتُكذِّب مُدَّعيه، وهي كثيرة تختلف بحسب الصبر المطلوب، هل هو إقدام على فعل، أو كَفّ عن فعل؟ فقد ينافي الصبرُ الجميلُ عملَ ما لا ينبغي، فضلًا عن العمل الذي لا يجوز القيام به، وقد ينافي الصبرُ الجميلُ تركَ ما لا ينبغي تَرْكه، فضلًا عن تَرْك ما يجب فعله، واعتبِرْ ذلك في النطاق المؤسسي بالنطاق الشخصي، فالإقدام على المحرَّم لشهوةٍ أو دنيا منافٍ للصبر الجميل، وتركُ الواجب أو المندوب كذلك، وهذا ظاهر.
لكن قد ينافي الصبر الجميل في الأمر المطلوب شرعًا المحبوب عقلًا أو عرفًا؛ فعل أيضًا، فمما ينافي الصبر الجميل:
- طلب النتائج قبل وقتها، والذي يريد تحصيل النتائج قبل أوانها؛ كالذي يحتال لقطف الثمار قبل نضجها، ولن يجني شيئًا نافعًا، بل سيفسد ما كان يمكن أن يكون نافعًا، والعجلة مذمومة، وهي من الشيطان، فتريَّثْ في عملك، في مشروعك الدعوي، في مؤسستك الاقتصادية، في عملك السياسي، تريَّثْ في ذلك كله، ولا تطلب ثمرة ذلك قبل الأوان، فتُفْسِد ما اجتهدت فيه زمنًا طويلًا، وطلب النتائج قبل وقتها قد يكون سببه الاستعجال، أو الجهل، أو السَّفَه وعدم الرشد، أو غير ذلك.
- ومما ينافي الصبر الجميل الاستعجال، والاستعجال قد يدفع إلى قطف الثمار قبل أوانها، كما تقدم، وقد يؤدي إلى غير ذلك، ومِن أكثر ما يؤدي إليه خروج عملٍ غير متقن ولا جيد، بل مشوَّه، ينفر منه الناس ولا يحمدونه، فالاستعجال قد يدفع للعمل، لكن بحيث يؤديه ولا يتقنه، ولهذا لمّا ذكر الله الصبر في موضعٍ نهى عن ضده، وكان ذلك الضد هو الاستعجال، كما في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} [الأحقاف:35]، فليس لزامًا أنْ يكون خلاف الصبر على العمل المطلوب مجرد تركه فقط، بل قد يكون خلاف الصبر الجميل الاستعجال فيه، والآية الكريمة السالفة تفيد بأنَّ جميع أولي العزم من الرسل الذين هم أعلى الرسل مقامًا وأكثرهم أتباعًا وأنفعهم أثرًا على الناس، وأعمهم خيرًا للبشرية، وهم نوح أبو البشرية الثاني، وإبراهيم أبو الأنبياء، وموسى الكليم أكثر الناس تابعًا بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وعيسى الذي أظهر الله أهل ملته والمنتسبين إليه على سائر أمم الكفر؛ كل هؤلاء صبروا، ومِن خصيصتهم في صبرهم ترك الاستعجال؛ ولهذا قال: {كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ}.
- ومما ينافي الصبر الجميل إتيان العمل بغير طريق مشروع، وهو كذلك من آفات بعض المستعجلين، وإن كان قد ينجم هذا عن رِقَّة في الدين أيضًا أو جهل، وإنْ لم يصحب ذلك استعجال. بعض الناس قد يجد مخالفةً في بيته، فينصح، ويعظ، ويذكِّر مدة من الدهر، فإذا لم يجد استجابة فَاصَلَ مَن تلزمه صلتُه، وأغلظ لمن يجب عليه خفض الجناح له، فيتسع الخَرْقُ على الراقع، وتزيد الأمور سوءًا؛ لأن صاحبه ما سلك طريقًا مشروعًا، بل لو استقام له ما أراد، كرجل يريد أنْ يؤدب ابنه على خُلُق رضي، لكنه سلك في ذلك عقوبة قاسية لا تبيحها الشريعة، فاستقام الولد كرهًا، فليس هذا الوالد بالمأجور ولا المثاب على ذلك، بل قد يوزر.
- ومما ينافي الصبر كله الاجتهاد في نقض ما أبرمه المرء، ونكث ما عقده، والارتداد على عقبه، ولهذا أسباب كثيرة، وبالجملة الصبر عما يبطل العمل أو ينقضه مطلوب، وقد أمر الله في كتابه بأوامر كثيرة ونهى عما يبطلها، وذلك بمنزلة الأمر بالصبر عليها؛ كما في الأمر بالثبات عند الجهاد، قال: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]، فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة؛ وقوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، فإنَّ إبطالها ترك الصبر على إتمامها؛ وقوله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران:139]، فإن الوهن من عدم الصبر.
وجديرٌ بنا أنْ تنسجم دعوتنا وأنْ يطرد حالنا، فتكون دعوتنا وتربيتنا على الصبر الجميل متعدية النطاق الشخصي إلى النطاق الجماعي ونطاق العمل المؤسسي، ومِن التقصير وقصر النظر: قصر الصبر على شؤون دون شؤون ربما كانت أَوْلَى منها، جعلنا الله من الصابرين، والله المستعان.
جمادى الأولى 1435هـ، مارس 2014م.
- التصنيف: