هيستريا تنصير العالم!
ملفات متنوعة
- التصنيفات: اليهودية والنصرانية -
هيستريا
تنصير العالم!
خطاب مفتوح إلى البابا بنديكت السادس عشر
بقلم الدكتورة زينب عبد العزيز
الأستاذ المتفرغ للحضارة الفرنسية
بمناسبة انتهاء شهر أكتوبر، شهر التنصير فى العُرف الكنسي، ويوم التبشير العالمي، الذى يتم الاحتفال به يوم 21 أكتوبر، وانتهاء مؤتمر التبشير المنعقد فى مدينة نابولي من 21 إلى23 أكتوبر، وكل ذلك فى إطار قرار "تنصير العالم " الذى فرضه مجمع الفاتيكان الثاني عام 1965، اسمح لى أيها الأب المبجل أن أتناول موضوع شديد الحساسية، لم يعد أحد يجهل عواقبه التى تتخذ أبعادًا هيستيرية إستحواذية..
فسواء أكانت مؤتمرات أو ندوات أو موائد مستديرة أو أيام عالمية للشباب أو تحت أية مسميات أخرى كالألعاب الأولمبية وبعثات التبشير الموجهة إلى أركان الدنيا الأربعة أو محشورة فى العتاد الحربي لجيوش الإحتلال، فلم يعد أحد لا يلحظ المبشرين وأعمالهم.
إن هوس الإصرار على تنصير العالم قد تعد أى منطق، خاصة وأنكم لا تكفون عن ترديده فى كل خطبكم تقريبًا، أن الكنيسة أولاً تبشيرية. تبشيرية استجابة للآية رقم 19، فى آخر إصحاح إنجيل متّى القائل: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس".
ولقد قام مجمع الفاتيكان الثاني بتجنيد كل المسيحيين فى وثيقة " إلى الأمم " لكى يساهموا فى عمليات تنصير العالم.
لقد تم تجنيد ترسانة بأكملها من المؤسسات والمنظمات الرسمية وغير الحكومية وجماعات تبشيرية من الشباب، بل ومن الأطفال ومن الخلايا الكنسية التبشيرية، وكل الوسائل فى كافة المجالات فى المجتمع قد تم وضعها كسلاح للتبشير.
وإن كان ذلك قد مر فى البداية بصورة غير ملحوظة، فقد أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني صراحة عام 1982 فى مدينة شانت يقب. ومنذ ذلك الوقت لم يحدث أن كان الهوس أكثر عُجالة وأكثر هيستيرية لشيطنة الإسلام والمسلمين فى العالم!
وهنا اسمح لى أيها الأب المبجل، أن أوضح لك أن نصوص العهد الجديد تناقض تلك الآية التى تعتمدون علي نصها، ومن هنا فهى تدين كل ما يترتب عليها وهو : السبب الحقيقي للإرهاب الذى يثيره هذا التبشير!
ووفقًا لنصوص العهد الجديد، فإن رسالة يسوع كما يقولها شخصيًا: "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (متّى 15 : 24) ! وهو نفس ما كان قد قاله فى الإصحاح العاشر من نفس إنجيل متّى: "هؤلاء الإثنى عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً: إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة " (آية 5 و 6 ).
وهو ما نطالع معناه أيضًا فى أعمال الرسل إذ تقول: " إليكم أولاً إذ أقام الله فتاه يسوع أرسله يبارككم بِرَد كل واحد منكم عن شروره " ( 3 : 26 ).
وذلك يعني أن يسوع لم يُبعث وفقًا للنص، إلا من أجل اليهود الغارقين فى الشرور لكى يبتعدوا عنها.
وليست هذه الآيات وحدها التي يحتوي عليها العهد الجديد (طبعة 1966 العربية). فما أكثر الآيات التي تكشف عن أن يسوع كان يبشر بملكوت الله وليس بتبشير الأمم!
فما أكثر المرات التي كان يؤكد فيها اقتراب موعد ذلك الملكوت ومنها: ما نطالعه فى إنجيل متّى: "وفيما أنتم ذاهبون أكرزوا قائلين أنه اقترب ملكوت السموات " (10 : 7) ؛ أو "فإني الحق أقول لكم لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان"(10 : 23). بل إن إنجيل متّى به أكثر من ثلاثين آية تشير إلى تبشير يسوع بملكوت الله بخلاف ما في الإصحاح الثالث عشر وحده، من الآية 1 إلى الآية 52 ، فكلها تتحدث عن ملكوت الله واقترابه الوشيك!
بل لقد كانت سرعة اقتراب حدوث ذلك الملكوت وشيكة إلى درجة أنه عندما ذهب الإثنى عشر حواريا فى أولى جولاتهم قال لهم يسوع بوضوح: "ومتى طردوكم فى هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى، فإني الحق أقول لكم لا تكملون مُدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان " ( متّى 10 : 23 ). وحتى أثناء مثول يسوع أمام الكاهن الأكبر أثناء المحاكمة نراه يقول لهم: " وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء " (متّى 26 : 64 )..
أما إنجيل مرقس فيورد فى الإصحاح الأول كيف أن يسوع يواصل الرسالة التى بدأها يوحنا المعمدان والتبشير بنفس المضمون، إذ تقول الآية: "وبعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل " ( 14 و15 ) وفى الإصحاح التاسع نطالع: "وقال لهم الحق أقول لكم إن من القيام هاهنا قومًا لا يذوقوا الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة ".
وتتكرر المقولة : "الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله. السماء والأرض تزولان لكن كلامي لا يزول " (مرقس 13 : 30و31).
ونطالع فى إنجيل لوقا أن يسوع " لما صار النهار خرج وذهب إلى موضع خلاء وكان الجموع يفتشون عليه فجاءوا إليه وأمسكوه لئلا يذهب عنهم. فقال لهم إنه ينبغي لى أن أبشر المدن الأخرى أيضًا بملكوت الله لأني لهذا قد اُرسلت "( 4 : 42 و 43)..
وهو ما يثبت إن رسالة يسوع كما تتضح من كل هذه الآيات تنحصرـ كما يقول هو فى إعادة خراف بيت إسرائيل الضالة إلى رسالة التوحيد بالله الواحد وليس بالثالوث، و فى التبشير باقتراب ملكوت الله الذى هو العدل والسلام والفرحة.
ونطالع فى نفس إنجيل لوقا، فى بداية الإصحاح التاسع أن يسوع قد "دعا تلاميذه الإثنى عشر وأعطاهم قوة وسلطانا على جميع الشياطين وشفاء أمراض وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى " ( آية 1 و 2 ) . وهو ما يكشف عن أنه أسند إليهم كل السلطات التي كان هو يمارسها .. وفى الإصحاح العاشر يواصل نفس الوصية قائلاً: " واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم قد اقترب منكم ملكوت الله، وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا حتى الغبار الذى لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم ولكن اعلموا هذا إنه قد اقترب منكم ملكوت الله " ( 9 ـ 11 ).
وهو ما يثبت أنه لم يكن يسوع وحده الذى كان ينادي باقتراب ملكوت الله وإنما قد أسند بهذه المهمة إلى الحواريين أيضاً. وهو ما يوضح أهمية هذا الملكوت الذى يمثل أساس رسالته، ملكوت العدل والسلام والفرحة، وليس تنصير العالم.
ويبدأ الإصحاح الثالث من إنجيل يوحنا بواقعة نيقوديموس الفاريسي الذى قال له: ".. لا أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التى أنت تعمل إن لم يكن معه الله. أجاب يسوع وقال الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله ".
وكما رأينا للتو فإن الأناجيل الأربعة تتحدث عن ملكوت الله على أنه الرسالة الأساس ليسوع، فما من إنجيل إلا وتناولها بنسب متفاوتة من الآيات.
وهو ما سوف نتابعه أيضًا فى أعمال الرسل والرسائل التي تبدأ فى الإصحاح الأول بالإشارة إلى ما فعله يسوع وعلمه إلى اليوم الذى ارتفع فيه عندما أمضى "أربعين" يومًا بعد بعثه ـ كما يقولون، يتحدث عن الأمور المختصة بملكوت الله "وهو يظهر لهم أربعين يومًا ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله " ( 1ـ3 ).
ونغض الطرف هنا عن الاختلاف أو تناقض مدة بقاء يسوع على الأرض بعد بعثه عن الأناجيل المعتمدة، التي تمتد من يوم واحد إلى أربعين يومًا، وهي واحدة من الآف المنتناقضات التي يزخر بها الكتاب المقدس، لكنا نكتفي بتوضيح نقطة جوهرية: أنه حتى بعد بعثه، وفقًا لأعمال الرسل وليس أثناء حياته فقط، ظل أربعين يومًا يحدث حوارييه فقط عن الأمور المختصة بملكوت الله!..
بل والأدهى من ذلك تنتهى أعمال الرسل بالآيتين التاليتين: " وأقام بولس سنتين كاملتين فى بيت استأجره لنفسه. وكان يقبل جميع الذين يدخلون إليه كارزا بملكوت الله ومعلمًا بأمر الرب يسوع المسيح بكل مجاهرة بلا مانع " ( 28 : 30 و 31 ).
وفى رسالته إلى أهل رومية يوضح بولس قائلاً: "لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشربًا. بل هو بِرٌ وسلامٌ وفرحٌ فى الروح القدس " ( 14 : 17 ).. وفى رسالته إلى أهل كورنثوس يضيف بولس قائلاً: " أم ألستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله " (6 : 9).. ويواصل السرد فى رسلاته إلى أهل غلاطية معددًا أعمال الجسد الظاهرة محذرًا إياهم: "فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضًا إن الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله " ( 5 : 19 )..
وفى رسالته إلى أهل أفسوس يقول: " فإنكم تعلمون هذا أن كل زان أو نجس أو طماع الذى هو عابد للأوثان ليس له ميراث فى ملكوت المسيح والله " ( 5 : 5 ) ، ونلاحظ هنا تغييرًا واضحًا: فبعد أن واصل بولس تصعيده لعملية تأليه يسوع و جعله "ربنا يسوع" فى أقواله السابقة، ها هو يسند إليه ملكوت الله ويشرك ملكية الملكوت للمسيح ولله معًا!..
وهو تغيير يزايد عليه بطرس فى رسالته الثانية إذ يقول فى الإصحاح الأول: " لأنه هكذا يقدم لكم بسعةٍ دخولٌ إلى ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدي" (الآية 11 ) ! فبعد أن كان يسوع يبشر بملكوت الله واصل الحوارييون تصعيد أهمية يسوع، و جعلوا الملكوت شركة بين الله ويسوع، ثم تحول إلى "ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدى "!!
وأيًا كان صاحب ذلك الملكوت، فإن هذا لا يغيّر شيئًا من أن الرسالة التي أتى من أجلها يسوع والتي أرسله الله ليحققها هي بكل وضوح: إعادة خراف بيت إسرائيل الضالة إلى رسالة التوحيد، والتبشير بملكوت الله الذي اقترب مجيئه.
بل والأدهى من ذلك يقول يسوع لمن عصوا كلام الرب: " لذلك أقول لكم إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لإمةٍ تعمل أثماره " (متّى 21 : 43 ).
وقبل أن ننهي هذه الجزئية لا بد لنا من لفت نظركم إلى بعض التناقضات المتعلقة بالنص وتطبيقكم له. فقد رأينا أن يسوع قد حدد قائلاً أنه لم يرسل إلا من أجل خراف بيت إسرائيل الضالة (متّى 15 : 24) ، وكذلك فى نفس الإنجيل حينما حدد قائلاً لحوارييه: " إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيس الضالة " (10 : 5 و 6)،
ألا يبدو من غير المنطقي، بعد كل هذه النصوص أن نراه يملي لحوارييه بعد "بعثه" ، سواء أكان طيفًا أو تجليا، و أن يأمرهم بالذهاب ليتلمذوا جميع الأمم ويعمدوهم باسم الثالوث ـ وهو القائل:" إلى طريق أمم لا تمضوا" ؟!
ألا يعني ذلك مخالفة لرغبة يسوع وإرادته والقيام بفرض المسيحية على العالم، خاصة وإن نص ذلك الكتاب مرتاب فى أمره بين العلماء؟!
وهناك تناقض آخر بين متّى ومرقس حول نفس هذه المقولة عن التبشير بالثالوث: إذ يقول متّى أن هذا الأمر قد أُعطى للحواريين الأحد عشر فى الجليل "إلى الجبل حيث أمرهم يسوع " (28 : 16).
بينما يورد مرقس أن هذا الأمر قد أُعطى للحواريين الأحد عشر فى المنزل، إذ يقول : " أخيرًا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام وقال لهم اذهبوا إلى العالم أجمع وأكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها " (16 : 14 و 15). أي أنه ظهر لهم فى المنزل كطيف وأوصاهم بالرسالة!
وبغض الطرف عن مثل هذا التناقض بين متّى ومرقس فى موضوع بمثل هذه الأهمية، فلا نملك إلا أن نندهش من مضمون الرسالة التي أملاها: " وقال لهم اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص. ومن لم يؤمن يُدَن ".
ونتجاوز هنا عن هذا "التسامح" لنرى علامات الذين يؤمنون وصفاتهم فهم: " يُخرجون الشياطين باسمى ويتكلمون بألسنة جديدة. يحملون حيّاتٍ وإن شربوا شيئًا مميتًا لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون " (مرقس 16 : 15ـ18)!
ووفقًا لهذا المعيار يبدو أن هناك قلّة قليلة جدًا من المؤمنين بين المسيحيين!
وتأتى أعمال الرسل بتناقض آخر يتعلق بالتعميد ففي آخر الإصحاح العاشر، عندما ذهب بطرس إلى قيصرية للقاء كورنليوس، " أمر بأن يعتمدوا باسم يسوع المسيح" (10 : 48) . أي أنه وفقًا لأعمال الرسل فإن بطرس الحواري كان يجهل أنه يتعيّن عليه التعميد " باسم الأب والابن والروح القدس"!
بل والأدهى من ذلك نرى فى الإصحاح الحادى عشر من أعمال الرسل أنه عندما " صعد بطرس إلى أورشليم خاصمه الذين من أهل الختان قائلين إنك دخلت إلى رجال ذوي غُلفة وأكلت معهم " (الآية 3) ( أي أنه دخل وأكل مع غير اليهود).
وبدأ بطرس يحكي لهم القصة كما وردت فى الإصحاح السابق كنوع من التبرير، ثم أضاف قائلاً: "فتذكرت كلام الرب كيف قال أن يوحنا عمّد بماء وأما أنتم فستعمدون بالروح القدس " (آية 16) . والقائل هنا فرضًا هو نفس يسوع.
ومما تقدم وهو جد قليل من كم الأمثلة الواردة، نرى أن نهاية كل من إنجيل متّى ومرقس عبارة عن إضافات تمت لاحقاً. فأيًا كانت وسيلة التعميد، فذلك يثبت أنه حتى كتابة أعمال الرسل وهى سابقة على كتابة الأناجيل الأربعة، لم تكن عبارة " الثالوث " موجودة أو قد تم اختلاقها بعد، وأن يسوع لم يطلب منهم تنصيركل الأمم!
وذلك لأننا نطالع فى نفس الإصحاح الحادى عشر أنهم تشتتوا " إلى فينيقية وقبرص وإنطاقية وهم لا يكلمون أحدًا بالكلمة إلا اليهود فقط " ( 11 : 19 )، وهو ما يخالف عبارة يسوع بأن يعمدوا "كل الأمم"، فكيف للحواريين ألا يتحدثوا مع الوثنيين المفترض تنصيرهم بأمر يسوع، ولا يتحدثون إلا إلى اليهود أمثالهم؟
ولا يسع المجال هنا لإضافة كل ما تضمه أعمال النقد الحديثة من عدم توافق، لكننا على الأقل نشير إلى أن أغلبية النقاد ومنهم كنسيين، يقرّون بأن نهاية كل من إنجيل متّى ومرقس عبارة عن إضافات متأخرة، قام بها القديس جيروم فى آخر القرن الرابع، لأن نفس الأصل المعروف باسم "كودكس سيناء" و"كودكس الفاتيكات"، ويرجعان إلى القرن الرابع لا يتضمنا تلك الإضافة!
ونوجز كل ما تقدم بأن يسوع طوال فترة تبشيره، سواء أكانت بضعة أشهر أو ثلاث سنوات، وفقًا لأي إنجيل نعتد، وسواء بعد صلبه وبعثه كما يقولون وظهوره يومًا أو اربعين يومًا، فهو لم يكف عن الإعلان بوضوح: أنه لم يرسل إلا من أجل خراف بيت إسرائيل الضالة، ومن أجل التبشير بملكوت الله.. ترى، أمن ضرورة لنضيف هنا أن عقيدة التثليث هذه، والتى قامت بمساواة الله بيسوع بالروح القدس، قد تم اختلاقها وفرضها فى مجمع القسطنطينية عام 381 : فكيف نراها موجودة فى نص مكتوب فيما بين أواخر القرن الأول وبداية القرن الثانى؟!
فبدلاً من ذلك الطريق الهيستيرى الضال والهادف إلى إقتلاع الإسلام والمسلمين، وبدلاً من هذه الهيستريا المضادة للإرهاب زعمًا والتي تخفي الأخطار الحقيقية السياسية المعاصرة، وأولها مسألة الفاقة الغذائية فى العالم، حيث أن هناك 854 مليونًا من البشر يعانون من الجوع، ـ وفقًا للمدير العام لمنظة الفاو.. ألا يُعد أول واجب هو العمل على إطعامهم؟
العمل على إنقاذهم كآدميين لهم كل الحق فى الحياة، بدلاً من أن تلوحون لهم بالطعام بيد وتفرضون عليهم الكتاب المقدس باليد الأخرى..
فمثل هذا النص "المقدس" المختلف عليه وحوله بهذا الشكل، والذى فرضه مجمع الفاتيكان الأول عام 1869 على أن " الله هو مؤلفه "، ثم فى مجمع الفاتيكان الثاني عام 1965 حكمت عليه أغلبية مكونة من 2344 كنسيا ضد 6 ، ورأوا: " أن هذه الكتب وإن كانت تتضمن الناقص والبالي، فهى رغم ذلك تُعد شهادات لعلم تربوي حقيقي "!
إن مثل هذا النص يتطلب شيء من " التواضع " من جانب من يمثلونه ومن جانب من يتّبعونه، وليس فرضه على العالم بأي وسيلة وبأي ثمن.
ويبقى سؤال يفرض نفسه فيما يتعلق بعملية التنصير ، وهو " الدور الأساسي للكنيسة " كما لا تكفون عن ترديده: ترى ما هو مصير اليهود الذين منحتوهم أرضًا ليست من حقهم يقينًا، بينما يعاني الشعب الفلسطيني من عملية قتل عرقي مكتومة الأصداء، على مرأى ومسمع من العالم أجمه: ترى هل ستقومون بتنصير اليهود أيضًا، أم أنهم معفون من الخلاص؟!
مع التعبير عن شكري للقراءة، أرجو أن تتقبل أيها الأب المبجل تحياتي وأمنياتي بأن تتمكن من إقامة العدل الحقيقي والسلام الحقيقي والفرحة الحقيقية بعدالة تليق بمقام يسوع النبي والرسول، وتليق بالمكانة التي تحتلونها.
أ.د./ زينب عبد العزيز
[email protected]
خطاب مفتوح إلى البابا بنديكت السادس عشر
بقلم الدكتورة زينب عبد العزيز
الأستاذ المتفرغ للحضارة الفرنسية
بمناسبة انتهاء شهر أكتوبر، شهر التنصير فى العُرف الكنسي، ويوم التبشير العالمي، الذى يتم الاحتفال به يوم 21 أكتوبر، وانتهاء مؤتمر التبشير المنعقد فى مدينة نابولي من 21 إلى23 أكتوبر، وكل ذلك فى إطار قرار "تنصير العالم " الذى فرضه مجمع الفاتيكان الثاني عام 1965، اسمح لى أيها الأب المبجل أن أتناول موضوع شديد الحساسية، لم يعد أحد يجهل عواقبه التى تتخذ أبعادًا هيستيرية إستحواذية..
فسواء أكانت مؤتمرات أو ندوات أو موائد مستديرة أو أيام عالمية للشباب أو تحت أية مسميات أخرى كالألعاب الأولمبية وبعثات التبشير الموجهة إلى أركان الدنيا الأربعة أو محشورة فى العتاد الحربي لجيوش الإحتلال، فلم يعد أحد لا يلحظ المبشرين وأعمالهم.
إن هوس الإصرار على تنصير العالم قد تعد أى منطق، خاصة وأنكم لا تكفون عن ترديده فى كل خطبكم تقريبًا، أن الكنيسة أولاً تبشيرية. تبشيرية استجابة للآية رقم 19، فى آخر إصحاح إنجيل متّى القائل: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس".
ولقد قام مجمع الفاتيكان الثاني بتجنيد كل المسيحيين فى وثيقة " إلى الأمم " لكى يساهموا فى عمليات تنصير العالم.
لقد تم تجنيد ترسانة بأكملها من المؤسسات والمنظمات الرسمية وغير الحكومية وجماعات تبشيرية من الشباب، بل ومن الأطفال ومن الخلايا الكنسية التبشيرية، وكل الوسائل فى كافة المجالات فى المجتمع قد تم وضعها كسلاح للتبشير.
وإن كان ذلك قد مر فى البداية بصورة غير ملحوظة، فقد أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني صراحة عام 1982 فى مدينة شانت يقب. ومنذ ذلك الوقت لم يحدث أن كان الهوس أكثر عُجالة وأكثر هيستيرية لشيطنة الإسلام والمسلمين فى العالم!
وهنا اسمح لى أيها الأب المبجل، أن أوضح لك أن نصوص العهد الجديد تناقض تلك الآية التى تعتمدون علي نصها، ومن هنا فهى تدين كل ما يترتب عليها وهو : السبب الحقيقي للإرهاب الذى يثيره هذا التبشير!
ووفقًا لنصوص العهد الجديد، فإن رسالة يسوع كما يقولها شخصيًا: "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (متّى 15 : 24) ! وهو نفس ما كان قد قاله فى الإصحاح العاشر من نفس إنجيل متّى: "هؤلاء الإثنى عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً: إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة " (آية 5 و 6 ).
وهو ما نطالع معناه أيضًا فى أعمال الرسل إذ تقول: " إليكم أولاً إذ أقام الله فتاه يسوع أرسله يبارككم بِرَد كل واحد منكم عن شروره " ( 3 : 26 ).
وذلك يعني أن يسوع لم يُبعث وفقًا للنص، إلا من أجل اليهود الغارقين فى الشرور لكى يبتعدوا عنها.
وليست هذه الآيات وحدها التي يحتوي عليها العهد الجديد (طبعة 1966 العربية). فما أكثر الآيات التي تكشف عن أن يسوع كان يبشر بملكوت الله وليس بتبشير الأمم!
فما أكثر المرات التي كان يؤكد فيها اقتراب موعد ذلك الملكوت ومنها: ما نطالعه فى إنجيل متّى: "وفيما أنتم ذاهبون أكرزوا قائلين أنه اقترب ملكوت السموات " (10 : 7) ؛ أو "فإني الحق أقول لكم لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان"(10 : 23). بل إن إنجيل متّى به أكثر من ثلاثين آية تشير إلى تبشير يسوع بملكوت الله بخلاف ما في الإصحاح الثالث عشر وحده، من الآية 1 إلى الآية 52 ، فكلها تتحدث عن ملكوت الله واقترابه الوشيك!
بل لقد كانت سرعة اقتراب حدوث ذلك الملكوت وشيكة إلى درجة أنه عندما ذهب الإثنى عشر حواريا فى أولى جولاتهم قال لهم يسوع بوضوح: "ومتى طردوكم فى هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى، فإني الحق أقول لكم لا تكملون مُدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان " ( متّى 10 : 23 ). وحتى أثناء مثول يسوع أمام الكاهن الأكبر أثناء المحاكمة نراه يقول لهم: " وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء " (متّى 26 : 64 )..
أما إنجيل مرقس فيورد فى الإصحاح الأول كيف أن يسوع يواصل الرسالة التى بدأها يوحنا المعمدان والتبشير بنفس المضمون، إذ تقول الآية: "وبعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل " ( 14 و15 ) وفى الإصحاح التاسع نطالع: "وقال لهم الحق أقول لكم إن من القيام هاهنا قومًا لا يذوقوا الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة ".
وتتكرر المقولة : "الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله. السماء والأرض تزولان لكن كلامي لا يزول " (مرقس 13 : 30و31).
ونطالع فى إنجيل لوقا أن يسوع " لما صار النهار خرج وذهب إلى موضع خلاء وكان الجموع يفتشون عليه فجاءوا إليه وأمسكوه لئلا يذهب عنهم. فقال لهم إنه ينبغي لى أن أبشر المدن الأخرى أيضًا بملكوت الله لأني لهذا قد اُرسلت "( 4 : 42 و 43)..
وهو ما يثبت إن رسالة يسوع كما تتضح من كل هذه الآيات تنحصرـ كما يقول هو فى إعادة خراف بيت إسرائيل الضالة إلى رسالة التوحيد بالله الواحد وليس بالثالوث، و فى التبشير باقتراب ملكوت الله الذى هو العدل والسلام والفرحة.
ونطالع فى نفس إنجيل لوقا، فى بداية الإصحاح التاسع أن يسوع قد "دعا تلاميذه الإثنى عشر وأعطاهم قوة وسلطانا على جميع الشياطين وشفاء أمراض وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى " ( آية 1 و 2 ) . وهو ما يكشف عن أنه أسند إليهم كل السلطات التي كان هو يمارسها .. وفى الإصحاح العاشر يواصل نفس الوصية قائلاً: " واشفوا المرضى الذين فيها وقولوا لهم قد اقترب منكم ملكوت الله، وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا حتى الغبار الذى لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم ولكن اعلموا هذا إنه قد اقترب منكم ملكوت الله " ( 9 ـ 11 ).
وهو ما يثبت أنه لم يكن يسوع وحده الذى كان ينادي باقتراب ملكوت الله وإنما قد أسند بهذه المهمة إلى الحواريين أيضاً. وهو ما يوضح أهمية هذا الملكوت الذى يمثل أساس رسالته، ملكوت العدل والسلام والفرحة، وليس تنصير العالم.
ويبدأ الإصحاح الثالث من إنجيل يوحنا بواقعة نيقوديموس الفاريسي الذى قال له: ".. لا أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التى أنت تعمل إن لم يكن معه الله. أجاب يسوع وقال الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله ".
وكما رأينا للتو فإن الأناجيل الأربعة تتحدث عن ملكوت الله على أنه الرسالة الأساس ليسوع، فما من إنجيل إلا وتناولها بنسب متفاوتة من الآيات.
وهو ما سوف نتابعه أيضًا فى أعمال الرسل والرسائل التي تبدأ فى الإصحاح الأول بالإشارة إلى ما فعله يسوع وعلمه إلى اليوم الذى ارتفع فيه عندما أمضى "أربعين" يومًا بعد بعثه ـ كما يقولون، يتحدث عن الأمور المختصة بملكوت الله "وهو يظهر لهم أربعين يومًا ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله " ( 1ـ3 ).
ونغض الطرف هنا عن الاختلاف أو تناقض مدة بقاء يسوع على الأرض بعد بعثه عن الأناجيل المعتمدة، التي تمتد من يوم واحد إلى أربعين يومًا، وهي واحدة من الآف المنتناقضات التي يزخر بها الكتاب المقدس، لكنا نكتفي بتوضيح نقطة جوهرية: أنه حتى بعد بعثه، وفقًا لأعمال الرسل وليس أثناء حياته فقط، ظل أربعين يومًا يحدث حوارييه فقط عن الأمور المختصة بملكوت الله!..
بل والأدهى من ذلك تنتهى أعمال الرسل بالآيتين التاليتين: " وأقام بولس سنتين كاملتين فى بيت استأجره لنفسه. وكان يقبل جميع الذين يدخلون إليه كارزا بملكوت الله ومعلمًا بأمر الرب يسوع المسيح بكل مجاهرة بلا مانع " ( 28 : 30 و 31 ).
وفى رسالته إلى أهل رومية يوضح بولس قائلاً: "لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشربًا. بل هو بِرٌ وسلامٌ وفرحٌ فى الروح القدس " ( 14 : 17 ).. وفى رسالته إلى أهل كورنثوس يضيف بولس قائلاً: " أم ألستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله " (6 : 9).. ويواصل السرد فى رسلاته إلى أهل غلاطية معددًا أعمال الجسد الظاهرة محذرًا إياهم: "فأقول لكم عنها كما سبقت فقلت أيضًا إن الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله " ( 5 : 19 )..
وفى رسالته إلى أهل أفسوس يقول: " فإنكم تعلمون هذا أن كل زان أو نجس أو طماع الذى هو عابد للأوثان ليس له ميراث فى ملكوت المسيح والله " ( 5 : 5 ) ، ونلاحظ هنا تغييرًا واضحًا: فبعد أن واصل بولس تصعيده لعملية تأليه يسوع و جعله "ربنا يسوع" فى أقواله السابقة، ها هو يسند إليه ملكوت الله ويشرك ملكية الملكوت للمسيح ولله معًا!..
وهو تغيير يزايد عليه بطرس فى رسالته الثانية إذ يقول فى الإصحاح الأول: " لأنه هكذا يقدم لكم بسعةٍ دخولٌ إلى ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدي" (الآية 11 ) ! فبعد أن كان يسوع يبشر بملكوت الله واصل الحوارييون تصعيد أهمية يسوع، و جعلوا الملكوت شركة بين الله ويسوع، ثم تحول إلى "ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدى "!!
وأيًا كان صاحب ذلك الملكوت، فإن هذا لا يغيّر شيئًا من أن الرسالة التي أتى من أجلها يسوع والتي أرسله الله ليحققها هي بكل وضوح: إعادة خراف بيت إسرائيل الضالة إلى رسالة التوحيد، والتبشير بملكوت الله الذي اقترب مجيئه.
بل والأدهى من ذلك يقول يسوع لمن عصوا كلام الرب: " لذلك أقول لكم إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لإمةٍ تعمل أثماره " (متّى 21 : 43 ).
وقبل أن ننهي هذه الجزئية لا بد لنا من لفت نظركم إلى بعض التناقضات المتعلقة بالنص وتطبيقكم له. فقد رأينا أن يسوع قد حدد قائلاً أنه لم يرسل إلا من أجل خراف بيت إسرائيل الضالة (متّى 15 : 24) ، وكذلك فى نفس الإنجيل حينما حدد قائلاً لحوارييه: " إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيس الضالة " (10 : 5 و 6)،
ألا يبدو من غير المنطقي، بعد كل هذه النصوص أن نراه يملي لحوارييه بعد "بعثه" ، سواء أكان طيفًا أو تجليا، و أن يأمرهم بالذهاب ليتلمذوا جميع الأمم ويعمدوهم باسم الثالوث ـ وهو القائل:" إلى طريق أمم لا تمضوا" ؟!
ألا يعني ذلك مخالفة لرغبة يسوع وإرادته والقيام بفرض المسيحية على العالم، خاصة وإن نص ذلك الكتاب مرتاب فى أمره بين العلماء؟!
وهناك تناقض آخر بين متّى ومرقس حول نفس هذه المقولة عن التبشير بالثالوث: إذ يقول متّى أن هذا الأمر قد أُعطى للحواريين الأحد عشر فى الجليل "إلى الجبل حيث أمرهم يسوع " (28 : 16).
بينما يورد مرقس أن هذا الأمر قد أُعطى للحواريين الأحد عشر فى المنزل، إذ يقول : " أخيرًا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام وقال لهم اذهبوا إلى العالم أجمع وأكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها " (16 : 14 و 15). أي أنه ظهر لهم فى المنزل كطيف وأوصاهم بالرسالة!
وبغض الطرف عن مثل هذا التناقض بين متّى ومرقس فى موضوع بمثل هذه الأهمية، فلا نملك إلا أن نندهش من مضمون الرسالة التي أملاها: " وقال لهم اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص. ومن لم يؤمن يُدَن ".
ونتجاوز هنا عن هذا "التسامح" لنرى علامات الذين يؤمنون وصفاتهم فهم: " يُخرجون الشياطين باسمى ويتكلمون بألسنة جديدة. يحملون حيّاتٍ وإن شربوا شيئًا مميتًا لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون " (مرقس 16 : 15ـ18)!
ووفقًا لهذا المعيار يبدو أن هناك قلّة قليلة جدًا من المؤمنين بين المسيحيين!
وتأتى أعمال الرسل بتناقض آخر يتعلق بالتعميد ففي آخر الإصحاح العاشر، عندما ذهب بطرس إلى قيصرية للقاء كورنليوس، " أمر بأن يعتمدوا باسم يسوع المسيح" (10 : 48) . أي أنه وفقًا لأعمال الرسل فإن بطرس الحواري كان يجهل أنه يتعيّن عليه التعميد " باسم الأب والابن والروح القدس"!
بل والأدهى من ذلك نرى فى الإصحاح الحادى عشر من أعمال الرسل أنه عندما " صعد بطرس إلى أورشليم خاصمه الذين من أهل الختان قائلين إنك دخلت إلى رجال ذوي غُلفة وأكلت معهم " (الآية 3) ( أي أنه دخل وأكل مع غير اليهود).
وبدأ بطرس يحكي لهم القصة كما وردت فى الإصحاح السابق كنوع من التبرير، ثم أضاف قائلاً: "فتذكرت كلام الرب كيف قال أن يوحنا عمّد بماء وأما أنتم فستعمدون بالروح القدس " (آية 16) . والقائل هنا فرضًا هو نفس يسوع.
ومما تقدم وهو جد قليل من كم الأمثلة الواردة، نرى أن نهاية كل من إنجيل متّى ومرقس عبارة عن إضافات تمت لاحقاً. فأيًا كانت وسيلة التعميد، فذلك يثبت أنه حتى كتابة أعمال الرسل وهى سابقة على كتابة الأناجيل الأربعة، لم تكن عبارة " الثالوث " موجودة أو قد تم اختلاقها بعد، وأن يسوع لم يطلب منهم تنصيركل الأمم!
وذلك لأننا نطالع فى نفس الإصحاح الحادى عشر أنهم تشتتوا " إلى فينيقية وقبرص وإنطاقية وهم لا يكلمون أحدًا بالكلمة إلا اليهود فقط " ( 11 : 19 )، وهو ما يخالف عبارة يسوع بأن يعمدوا "كل الأمم"، فكيف للحواريين ألا يتحدثوا مع الوثنيين المفترض تنصيرهم بأمر يسوع، ولا يتحدثون إلا إلى اليهود أمثالهم؟
ولا يسع المجال هنا لإضافة كل ما تضمه أعمال النقد الحديثة من عدم توافق، لكننا على الأقل نشير إلى أن أغلبية النقاد ومنهم كنسيين، يقرّون بأن نهاية كل من إنجيل متّى ومرقس عبارة عن إضافات متأخرة، قام بها القديس جيروم فى آخر القرن الرابع، لأن نفس الأصل المعروف باسم "كودكس سيناء" و"كودكس الفاتيكات"، ويرجعان إلى القرن الرابع لا يتضمنا تلك الإضافة!
ونوجز كل ما تقدم بأن يسوع طوال فترة تبشيره، سواء أكانت بضعة أشهر أو ثلاث سنوات، وفقًا لأي إنجيل نعتد، وسواء بعد صلبه وبعثه كما يقولون وظهوره يومًا أو اربعين يومًا، فهو لم يكف عن الإعلان بوضوح: أنه لم يرسل إلا من أجل خراف بيت إسرائيل الضالة، ومن أجل التبشير بملكوت الله.. ترى، أمن ضرورة لنضيف هنا أن عقيدة التثليث هذه، والتى قامت بمساواة الله بيسوع بالروح القدس، قد تم اختلاقها وفرضها فى مجمع القسطنطينية عام 381 : فكيف نراها موجودة فى نص مكتوب فيما بين أواخر القرن الأول وبداية القرن الثانى؟!
فبدلاً من ذلك الطريق الهيستيرى الضال والهادف إلى إقتلاع الإسلام والمسلمين، وبدلاً من هذه الهيستريا المضادة للإرهاب زعمًا والتي تخفي الأخطار الحقيقية السياسية المعاصرة، وأولها مسألة الفاقة الغذائية فى العالم، حيث أن هناك 854 مليونًا من البشر يعانون من الجوع، ـ وفقًا للمدير العام لمنظة الفاو.. ألا يُعد أول واجب هو العمل على إطعامهم؟
العمل على إنقاذهم كآدميين لهم كل الحق فى الحياة، بدلاً من أن تلوحون لهم بالطعام بيد وتفرضون عليهم الكتاب المقدس باليد الأخرى..
فمثل هذا النص "المقدس" المختلف عليه وحوله بهذا الشكل، والذى فرضه مجمع الفاتيكان الأول عام 1869 على أن " الله هو مؤلفه "، ثم فى مجمع الفاتيكان الثاني عام 1965 حكمت عليه أغلبية مكونة من 2344 كنسيا ضد 6 ، ورأوا: " أن هذه الكتب وإن كانت تتضمن الناقص والبالي، فهى رغم ذلك تُعد شهادات لعلم تربوي حقيقي "!
إن مثل هذا النص يتطلب شيء من " التواضع " من جانب من يمثلونه ومن جانب من يتّبعونه، وليس فرضه على العالم بأي وسيلة وبأي ثمن.
ويبقى سؤال يفرض نفسه فيما يتعلق بعملية التنصير ، وهو " الدور الأساسي للكنيسة " كما لا تكفون عن ترديده: ترى ما هو مصير اليهود الذين منحتوهم أرضًا ليست من حقهم يقينًا، بينما يعاني الشعب الفلسطيني من عملية قتل عرقي مكتومة الأصداء، على مرأى ومسمع من العالم أجمه: ترى هل ستقومون بتنصير اليهود أيضًا، أم أنهم معفون من الخلاص؟!
مع التعبير عن شكري للقراءة، أرجو أن تتقبل أيها الأب المبجل تحياتي وأمنياتي بأن تتمكن من إقامة العدل الحقيقي والسلام الحقيقي والفرحة الحقيقية بعدالة تليق بمقام يسوع النبي والرسول، وتليق بالمكانة التي تحتلونها.
أ.د./ زينب عبد العزيز
[email protected]
المصدر: طريق الإسلام