صراع الدين بانتخابات تركيا.. حينما يلتقي مستقبلها بماضيها

منذ 2014-04-09

بالأمس قال السلطان عبد الحميد عندما تليت الفتوى المشينة أمامه من قبل وفد ماسوني: "أي الكتب الشرعية أحرقتها؟ حسبي الله ونعم الوكيل"..

ساباتاي زيفي، اليهودي مدعي الألوهية، الذي أظهر إسلامه وأبطن اليهودية ـحينما أوشك السلطان العثماني محمد الرابع أن يقتله- وأمر أتباعه اليهود بأن يبقوا على يهوديتهم ويظهروا الإسلام ويشكلوا طائفة عرفت لدى المسلمين العثمانيين قبل أربعة قرون بيهود الدونمة أي المرتدين أو العائدين لدينهم، هذا الرجل الذي غير أتباعه وجه تركيا والعالم ولد في إزمير، المدينة التي تعد معقلًا حتى الآن للعلمانية التركية، والتي شهدت تفوقًا كبيرًا لحزب الشعب الأتاتوركي العلماني على حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية.

هذه المدينة تبقى شاهدة على الأثر الأيديولوجي الذي لم يزل حاضرًا في تركيا، حتى في انتخابات محلية يفترض أن التنافس يجري فيها بعيدًا عن التأثير الأيديولوجي أو يتأخر فيها عن الجانب الخدمي الذي تنفذه الأحزاب المتنافسة أو تتعهد بالقيام به؛ فما أحدثته طائفة الدونمة في المدينة لا يسهل القفز عليه بسهولة، من تغيير عقدي وانحيازًا باتجاه العلمانية، رغم تضاؤل حجم الطائفة عدديًا اليوم.. وما يقال عن إزمير يتكرر في هاتاي، حيث اصطف العلويون خلف حزب الشعب فيما تشتت السنة في المحافظة بين أكثر من حزب فتفوق حزب العلويين الأثير، فحيث تذكر كلمة العلمانية تجد الطائفة العلوية الكارهة بشدة للحضور الإسلامي في تركيا.

على أن الأمر ليس مضطردًا في كل محافظة، فهاتاي التي تشهد تمردًا مكتومًا من الأقلية العلوية فيها ضد حكومة أردوغان، طفا على السطح في عدة أحداث تجسدت في رفض الحضور السوري السني، والتباطؤ بتقديم العلاج للاجئين في مستشفيات يشرف عليها علويون، وتفجيرات الريحانية وغيرها، وتورط جنود أتراك علويين في تسليم مؤسس الجيش الحر المقدم حسين الهرموش لنظام بشار الأسد قبل أعوام.. الخ، هاتاي لم يزل علويوها يرفضون انحياز أنقرة للثوار السوريين، ويوالون نظام بشار على أساس طائفي برغم الخدمات الهائلة التي أفاد بها العلويون منذ عقد من الزمان، ظهر خلالها أثر إدارة العدالة والتنمية لمحليات المحافظة..


الخدمات هذه لم تشفع للعدالة والتنمية فمني بهزيمة في المحافظة برغم أن علويي أنطاليا لم يتمكنوا أو لم يكونوا بحماسة الأنطاكيين (هاتاي) في إسقاط الحزب ذي الجذور الإسلامية في محافظتهم، وإذا كانت أنطاليا قد عكست النظرية؛ فإن بقاء الأيديولوجيا مؤثرة في الانتخابات المحلية هو الأصل الذي يعززه الشذوذ عن القاعدة ولا ينفيه؛ إذ إن جل ما يلاحظ من تغيير في هذا الصدد هو تجسده استثناءات قليلة صنعها تفوق الحزب الحاكم في المجال الخدمي، وتعزيز مشاعر الكرامة والتفوق والتطور التركية..


من زاوية أخرى؛ فإن إحدى كواشف الانتخابات المحلية التركية الفريدة هذه المرة، هو محاولة الأحزاب العلمانية التدثر بالدين، من زاويتين، الأولى بدخول جماعة الخدمة على خط دعم العلمانية في تركيا، وهي من المفترض أنها جماعة دعوية صوفية اجتماعية (إصلاحية)، وإلقائها بكل ثقلها وسمعتها في هذا السبيل، والثانية، هو إطلاق بعض مرشحي الأحزاب العلمانية لمناصب المحافظين ورؤساء البلديات والأحياء لمزاعم بدت طريفة عن تدينهم وحرصهم على سماع التواشيح وغيرها، على نحو شابه ما حصل من بعض العلمانيين المصريين من قبل على أنحاء أثارت ضحك المصريين مثل بكاء أحدهم من سماع (سورة طلع البدر علينا!) وما شابه!


ما يلحظ هنا أن مثل هذه الإدعاءات هي صنو الإحساس العلماني بالخطر في كل مرة؛ فالعلماني في الدول الإسلامية يبدو محتقرًا للدين إلى أبعد الحدود إلا حينما يشعر أن الشعوب آخذة زمامها باتجاه القوى الإسلامية، ليس في حد الشعبية وحدها، وإنما في القوة التي تعطي لهذه الشعبية ثقلها، سواء أكانت قوة ناعمة (سياسية ـ دستورية.. إلخ) أو صلبة (كالعسكرية ونحوها).


وما يقرب تلك الصورة لسنا فيه بحاجة لأخذ الأمثلة من خارج تركيا؛ ففيها تجسد هذا المعنى منذ أن بدأ حزب الاتحاد والترقي في عملية إزاحة الخلافة العثمانية؛ فقد يتفاجأ بعض القراء بأن أحد أسباب قيام (التمرد) في عاصمة الخلافة، اسطنبول قبل أكثر من قرن، كانت مزاعم بأن السلطان عبد الحميد قد أمر بحرق المصاحف!، وهو ما لم يكن قد حصل بالطبع، وإنما أحرق بعض كتب المبتدعة..

 

والمفارقة المؤلمة أن العلمانيين حينما أرادوا هدم الخلافة الإسلامية في العالم كله؛ فإنهم غلفوا جريمتهم بدعوى أنهم قاموا حفاظًا على الدين ذاته، إلى الحد الذي جعلهم يحرصون على استصدار فتوى ممن يسمى شيخ الإسلام حينها محمد ضياء الدين أفندي، توجب خلع السلطان وفقًا لادعاءات تقول نصًا: "سؤال: إذا قام إمام المسلمين زيد فجعل ديدنه طي وإخراج المسائل الشرعية المهمة من الكتب الشرعية، وجمع الكتب المذكورة، والتبذير والإسراف من بيت المال، واتفاقية خلاف المسوغات الشرعية، وقتل وحبس وتغريب الرعية بلا سبب شرعي، وسائر المظالم الأخرى، ثم أقسم على الرجوع عن غيه، ثم عاد فحنث وأصر على إحداث فتنة ليخل بها وضع المسلمين كافة، فورد من المسلمين من كافة الأقطار الإسلامية بالتكرار ما يشعر باعتبار زيد هذا مخلوعًا، فلوحظ أن في بقائه ضررًا محققًا وفي زواله صلاحًا، فهل يجب على أهل الحل والعقد وأولياء الأمور أن يعرضوا على زيد المذكور التنازل عن الخلافة والسلطنة أو خلعه من قبلهم"؟!

الجواب: "نعم، يجب!" فبدعوى الحفاظ على الدين نفسه قام وفد من مجلس المبعوثان يضم اليهودي الماسوني (قاراصوه) لهدم الخلافة كلها!


فحيث كان الدين هو العامل الأبرز في التكوين الداخلي للمجتمع، وكانت تكتسى به الشرعية وتكتسب؛ فإن الماسونيين واليهود والعلمانيين يظهرون تمسكهم به أو يظهرون احترامه (مثلما فعل نابليون في مصر أو حيث تضم بيانات الانقلابات وجوهًا دينية كشيخ بارز أو رأس كنيسة).


أما حينما يكون الدين غائبًا؛ فلا بأس من إظهار الوجه الحقيقي للعلمانية، ومن هنا؛ فإن ما كشفته الانتخابات المحلية التركية مؤخرًا كان محاولة القادة العلمانيين التلون لكسب الشارع مجددًا تمهيدًا لإطاحة نظام يسعى لتحقيق تقدمٍ على أصعدة القيم والتطور والحريات.


ما يسترعي النظر في الحالة العلمانية التركية اليوم، وبالترافق مع الانتخابات، أنه على رغم عدم تشابه نظامي السلطان عبد الحميد المتراجع، وأردوغان الصاعد من حيث الاقتصاد ونحوه؛ فإن الخصم العلماني ينحو باتجاه تقليد طريقة قادة الاتحاد والترقي بحذافيرها، الخلاف فقط في أن ما يشجع علمانيي تركيا على التطلع لإطاحة نظام يسعى لإعادة تركيا لهويتها ليس اضطرابات الداخل مثلما كان الحال إبان عهد السلطان عبد الحميد، وإنما تغيرات الإقليم، والمساندة الغربية الهائلة إعلاميًا على الأقل..

وما كانت طريقة الاتحاد والترقي إلا بث شائعات وارتكاب مجازر مفتعلة للصقها بالسلطة، وإطلاق حركة (تمرد) في ربوع السلطنة، والقيام بمظاهرات يجري تضخيمها، والإفادة من آلة إعلامية عملاقة تبث الدعاية السوداء التي لا يستطيع مصلح النجاة من سهامها.. وكذلك اليوم يفعلون..


بإعتقادي، أن قرار الإطاحة بأردوغان وحزبه قد اتخذ بشكل نهائي في عواصم غربية، تمامًا، مثلما اتخذ قرار إنهاء خلافة السلطان عبد الحميد في بريطانيا وفرنسا اللتين جندت الأولى،الصدر الأعظم مدحت باشا، واحتضنت الثانية جمعية الاتحاد والترقي وصحفها قبل أن تنقلها لقلب تركيا، وأن تلك العواصم تتقافز خياراتها بين السيناريوهات المطروحة، والتي تخفق لحد الآن في تنفيذها لوعي قادة العدالة والتنمية، لكن ليس من عادة القوم أن ييأسوا، ولا من عادة الأتراك الحكماء ألا يصمدوا..


ستدور حلقات أخرى من صراع خلف الستائر الغليظة، ولحد الآن لم يزل يحصل في طور تقليدي تمت تجربته بنجاح في بلدان إسلامية عديدة، ولعل الغرب يتحول إلى نمط غير تقليدي إن تعقدت الوسائل وأغلقت السبل بوجهه..


إنها المنازلة المهمة في مستقبل الأمة..

بالأمس قال السلطان عبد الحميد عندما تليت الفتوى المشينة أمامه من قبل وفد ماسوني: "أي الكتب الشرعية أحرقتها؟ حسبي الله ونعم الوكيل"..

"وما الحيلة فقد أراد أعدائي أن يغطوا كل خدماتي بغطاء أسود وقد نجحوا في ذلك"..

 

فهل سيفلت أردوغان من الخضوع لتكرارها؟

 

8/6/1435 هـ

  • 1
  • 0
  • 3,205

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً