رحمة النبي بأصحاب الأزمات

منذ 2014-04-09

مريض؟... مديون؟... مهموم؟... مات لك قريب حبيب؟.. هنا بعض من رحمة نبينا لكل صاحب أزمة.. صلى الله عليه وسلم

"محمد القدوة الطيبة التي أرسلها الله رحمة لنا وحبًّا بنا حتى نقتفي أثره"[1].

"جاء في تقارير منظمة اليونيسيف الدولية أنه من كل عشرة أطفال دون سن الخامسة كان يموت طفل عراقي بسبب نقص العلاج، وفي كل يوم من أيام الحصار الأمريكي كان يموت 250 إنسان عراقي بسبب العقوبات التي كانت مفروضة عليها"[2].

وهذا نوع من الضعف يقع فيه عامة الخلق، كبيرهم وصغيرهم، غنيُّهم وفقيرهم، حاكمهم ومحكومهم...

فليس هناك إنسان إلا ويقع في أزمة، كمرضٍ له أو لحبيب، وكموتٍ لقريب، وكدَيْنٍ وقع فيه المرء، وهكذا...

ولما كانت هذه الأزمة صورة من صور الضعف، وكثيرًا ما تأتي مفاجئة للإنسان، فإن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سريعًا ما تتحرك تجاه هؤلاء...

يلخص ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه بقوله: "إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير"[3].

فهو -كما وصف عثمان رضي الله عنه- مع أصحابه في كل أزماتهم...

ومن أهم الأزمات التي لا بد لكل بشر أن يقع فيها أزمة المرض...

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع بمريض أسرع لعيادته في بيته، مع كثرة همومه ومشاغله، ولم تكن زيارته هذه مُتكلَّفة أو اضطرارية، إنما كان يشعر بواجبه ناحية هذا المريض... كيف لا، وهو الذي جعل زيارة المريض حقًّا من حقوقه؟!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِس»[4].

وكان يهدف من وراء زيارته لأمور شتى، فهو يُظهِر له -دون تَكَلُّف- مُوَاساتِه له، وحرصه عليه، وحبه له، فيُسعد ذلك المريضَ وأهلَه، ويهوِّن أزمته ومرضه...

يروي عبد الله بن عمر فيقول: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النبي صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ[5] فَقَالَ: «قَدْ قَضَى»، قَالُوا: لا يَا رسول الله صلى الله عليه وسلم  فَبَكَى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النبي صلى الله عليه وسلم بَكَوْا فَقَالَ: «أَلا تَسْمَعُونَ؟! إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ؛ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ»[6]"[7].

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم -من رحمته- كان يُبشِّر المريض بالأجر والمثوبة التي تلحق به نتيجة المرض، فيهوِّن بذلك عليه الأمر، ويرضيه به...

تروى أم العلاء[8] فتقول: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضة، فقال: «أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلاءِ، فَإِنَّ مَرَضَ الْمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ»[9].

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارته للمريض يرقيه ويدعو له بالشفاء، وأدعيته في هذا المجال كثيرة ومشهورة، ومنها ما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أتى مريضًا: «أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا»[10].

وكان حريصًا على التخفيف على المريض، وعدم تعريضه لخطر أو أزمة أكبر، وكان يُبدي الكثير من الغضب إذا رأى من يتشدد في حكم من الأحكام مع مريض، ومن ذلك ما يرويه جابر بن عبد الله رضي الله عنه فيقول: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجرٌ؛ فشجَّه في رأسه، ثم احتلم؛ فسأل أصحابه؛ فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات؛ فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبِرَ بذلك فقال: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ -شَكَّ مُوسَى- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ»[11].

وكان يطلب الطب لأصحابه، ويتجاوز عن أمور كثيرة يتشدد فيها الآن كثيرٌ ممن لا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رحمته!

ومن ذلك أنه كَلَّف رُفَيْدة[12] رضي الله عنها بعلاج سعد بن معاذ رضي الله عنه عندما أصيب في الأحزاب[13]، لأنها كانت أقدر أهل المدينة على علاجه، ولم يتحرَّج أن تعالج امرأةٌ رجلًا من الرجال...

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يرفق بالمرضى إلى أكبر درجات الرفق، ويقف معهم في أزمتهم بصورة لعلها أكبر من وقفة ذويهم إلى جوارهم...

ومن الأزمات أيضًا التي كان يهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أزمة وفاة إنسان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم -من رحمته- يرحم أقارب الميت في أمور قد يظنُّها الناس بسيطة، ولكنها تترك أثرًا طيبًا في النفوس، ومن ذلك إعداد الطعام لهم.

روى عبد الله بن جعفر رضي الله عنه فقال: لما جاء نعي جعفر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ»[14].

وهذا عكس ما اشتهر بين الناس من أنَّ أهل الميت هم الذين يصنعون طعامًا لزوَّارهم، بل إن صناعة أهل الميت للطعام للضيوف خلاف واضح للسنة، فقد قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: "كنا نَعُدُّ الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام من النياحة[15]"[16].

ويقول الإمام السندي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "أن كلمة (كُنَّا نرى) بمنزلة إجماع الصحابة أو تقرير النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى التقديرين فهو حُجَّة"[17].

لكن الأهم حقيقةً من المساعدة المادية هو تشجيع أهل الميت على الصبر وعدم الجزع، وهذا ما كان يحرص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جدًا، وقَلَّما حدثت وفاة في عصره صلى الله عليه وسلم إلا وكان حاضرًا مع أهل الميت يُذكِّرهم بالله، ويحاول أن يخرجهم من أزمتهم بتعظيم أجرهم إذا صبروا... فكان يُعَلِّمُهم أن يقولوا عند المصيبة ما يصبِّرهم -بل يعوضهم خيرًا- في الدنيا قبل الآخرة...

تروي أم سلمة[18] رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا»[19].

وكان يعلم أن النساء يصيبهن الجزع أكثر من الرجال، فكان يحرص صلى الله عليه وسلم على تذكيرهنَّ بالصبر عند المصائب...

يروي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النساء قُلْنَ للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يومًا من نفسك؛ فوعدهنَّ يومًا لَقِيَهُنَّ فيه؛ فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ، فَقَالَ: وَاثْنَتَيْنِ»[20].

وانظر إلى رحمته صلى الله عليه وسلم وهو يهوِّن على امرأة مسكينة مصابها الفادح... فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها؛ فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه يشتكي. وإني أخاف عليه؛ قد دفنت ثلاثة، قال: «لَقَدْ احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنْ النَّارِ»[21]. وتخيل مدى فرحتها -مع أنها في مصاب شديد- عندما علمت أن مصابها هذا قد وقاها وقاية شديدة من النار...

إنها كلمات بسيطة، لكنها ذات أثر عظيم...

ومع كونه صلى الله عليه وسلم يمنع الناس من الجزع وفقد الصبر إلا أنه كان واقعيًّا يُقدِّر ألم الناس ويعذرهم، ومن ثَمَّ يقبل ببكائهم وحزنهم دون إفراط...

يروي جابر بن عبد الله رضي الله عنه فيقول: لما قُتِلَ أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وينهونني عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني فجعلت عمتي فاطمة تبكي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَبْكِينَ أَوْ لا تَبْكِينَ، مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ»[22].

وروى جابر بن عتيك[23] رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت[24] فوجده قد غُلِب، فصاح به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ فَاسْتَرْجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «قَدْ غُلِبْنَا عَلَيْكَ أَبَا الرَّبِيعِ»، فَصِحْنَ النِّسَاءُ وَبَكَيْنَ فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسَكِّتُهُنَّ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ فَلا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ»، قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... قَالَ: «الْمَوْتُ». قَالَتْ ابْنَتُهُ: إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا قَدْ كُنْتَ قَضَيْتَ جِهَازَكَ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟»، قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْهَدَمِ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرَقِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدَةٌ»[25].

والرسول صلى الله عليه وسلم في المثالَين السابقَين يسمح ببكاء وحزن أقارب الميت، لكن في نفس الوقت يُبشِّرهم بأجر المتوفى ليصبِّرهم على مصابهم...

ولم تكن وقفات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة عند المرض أو الوفاة فقط، بل كانت في أي أزمة ولو كانت عابرة...

نجده مثلًا يدخل المسجد فإذا برجل من الأنصار يُقالُ له أبو أمامة؛ فقال: «يَا أَبَا أُمَامَةَ، مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ»، قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ»، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ"، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي»[26].

وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ»، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلا ذَلِكَ»[27].

فالرسول صلى الله عليه وسلم حرص على أن يساعد الرجل على سداد دينه، ثم طلب من غرمائه أن يقبلوا بالمبلغ الذي جُمِعَ، ويقول المباركفوري[28] في شرح سنن الترمذي: "والمعنى: ليس للغرماء أن يأخذوا إلا ما وجدوا، والإمهال بمطالبة الباقي إلى الميسرة"[29].

فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يُسقط الدين عن الرجل، إنما توسَّط له عند الغرماء ليأخذوا قسطًا، ويؤخروا الباقي، وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بالمدين...

ومن أروع مظاهر رحمتهما فعله مع المسلمين عند هجرتهم من مكة إلى المدينة... فقد كانت أزمة كبيرة ترك فيها المسلمون ديارهم وتجارتهم وأموالهم وذكرياتهم... تركوا كل ذلك، وفرُّوا إلى الله ورسوله، فكان لا بد من الوقوف إلى جوارهم في أزمتهم هذه...

فأول ما فعل أنه رفع من شأنهم وقدرهم، وأخبرهم أن هجرتهم هذه هجرة كريمة لا ينظر إليها بانتقاص، فهم ليسوا مجرد لاجئين إلى بلد آخر، بل هم مجاهدون عظماء، وذكر ذلك في أحاديث شتى، لعل من أعظمها أنه بَشَّرهم أنهم أول من يجوز الصراط يوم القيامة، وذلك عندما سُئِلَ عن أول الناس إجازة فقال: «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ»[30].

وفي موقف آخر قال: «إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا»[31].
وهكذا شعر المهاجرون بقيمتهم وفضلهم، وبالتالي رُفِعَت معنوياتهم...

وكان صلى الله عليه وسلم يواسي المهاجرين ويهوِّن عليهم مصابهم، والذي أحيانًا يكون كبيرًا جدًا... وما أروع استقباله لصهيب الرومي رضي الله عنه عندما هاجر إلى المدينة تاركًا ثروته كلها وراءه في مكة، فقال له صلى الله عليه وسلم مبشرًا: «رَبِحَ البَيْعُ أبَا يَحْيَى»[32].

ولمَّا جاء عبد الله بن جحش رضي الله عنه يشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان قد أخذ دَارَهُم في مكة بعد الهجرة وباعها، واساه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقَّة وقال له: «أَلا تَرضَى يَا عَبْدَ اللهِ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ بِهَا دَارًا خَيرًا مِنْهَا فِي الجنَّة؟». قال: بلى، قال: «فَذَلِكَ لَكَ»[33].

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائم الاطمئنان على المهاجرين في المدينة، والزيارة لهم، خاصة أنهم قدموا على مناخ جديد في المدينة فأصابتهم بعض الأمراض...

تقول عائشة رضي الله عنها قدمنا المدينة وهي وبيئة، فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلال، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى أصحابه قال: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَحَوِّلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ»[34] [35].

ثم قام صلى الله عليه وسلم بعمل فريد ليس له مثيل في التاريخ وهو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فتحمَّل الأنصار عبء المهاجرين وكفلوهم في ديارهم، ووصل الأمر إلى التوارث بين الطائفتين إلى أن نُسِخَ حُكْمُ التوارث بعد ذلك[36]...

ومع أن وضع الأنصار كان أفضل، وأزمة المهاجرين كانت أشد إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان رحيمًا بالأنصار كذلك، فلم يشأ أن يُثقل عليهم حتى مع رغبتهم في التضحية...

قَالَتْ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: «لا»  فَقَال: «تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ، وَنُشْرِكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ»، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا"[37].

وهذه رحمة منه صلى الله عليه وسلم وحكمة، فقد تتغير الأحوال، وتتحسن أحوال المهاجرين، ويشعر الأنصار بشيء من الغبن، ولذلك كان هذا التصرف الراقي منه...

بهذه الخطوات وبأمثالها خرج المهاجرون من أزمتهم، وخُفِّفت كذلك أزمة الأنصار، واجتازت المدينة عقبة كان من الممكن أن تودي باستقرارها وراحتها...

لقد كان منهجه فريدًا حقًا...

وما كان ذلك أن يتم لولا رحمة هائلة وسعها في قلبه.

وصدق الذي قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

وأخيرًا...

إن ما ذكرناه من صور لرحمته صلى الله عليه وسلم للضعفاء من أبناء أمته ما هو إلا غيض من فيض، وقطرة في يَمٍّ، حاولنا فيها أن نذكر أمثلة مختلفة من صور شتى، وإن كنا -لا شك- بعيدين تمامًا عن الصورة الكاملة للحقيقة، ولعل ما ذكرناه يكون حافزًا لنا أن نتوسع في دراسة سيرته، وفي متابعة أحواله ففي ذلك الخير لنا ولمجتمعاتنا، بل وللعالم أجمع...

وصَلِّ اللهُمَّ وبارك على رسول الله صلى الله عليه وسلم  وعلى آله وصحبه وسلم...

__________________

[1] م. ج. دُرّاني، مرجع سابق: صـ[28].
[2] تقرير بعنوان اغتيال الإنسان العراقي، منشور على موقع إسلام أون لاين، الشبكة العنكبوتية، الرابط الإلكتروني: http://www.islamonli....article06.shtml
[3] أحمد [504]، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن.
[4] البخاري: كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز [1183]، ومسلم في السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام [2162]، وأبو داود [5030]، وابن ماجة [1435]، وأحمد [8378] من حديث أبي هريرة.
[5] غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها. انظر فتح الباري لابن حجر [3/ 175].
[6] (يعذب بهذا): أي إن قال سوءًا. (أو يرحم): أي إن قال خيرًا. انظر المصدر السابق
[7] البخاري: كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض [1242] ومسلم في الجنائز، باب البكاء على الميت [924].
[8] أم العلاء: أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أم خارجة بنت زيد بن ثابت. أسد الغابة [6/ 382]، الإصابة الترجمة [12168].
[9] أبو داود [3092]، وقال الألباني: "صحيح". انظر حديث [7851] في صحيح الجامع.
[10] البخاري: كتاب المرضى، باب دعاء العائد للمريض [5351]، وأحمد [25003].
[11] أبو داود [336]، الدارقطني [3]، والبيهقي في سننه الكبرى [1016]، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح أبي داود [325].
[12] رفيدة: امرأة من أسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصاب سعد بن معاذ السهمُ بالخندق؛ قال لقومه: اجعلوه في خيمةِ رُفيدة حتى أعوده من قريب، فكانت تداوي الجرحى، وتخدم من كانت به ضيعة من المسلمين. أسد الغابة [6/ 114]، الإصابة الترجمة [11169].
[13] تاريخ الطبري [2/ 100]، عيون الأثر [2/ 103]، سيرة ابن هشام [4/ 198].
[14] أبو داود [3132]، وابن ماجة [1610]، وأحمد [1751]، والترمذي [998] وقال: حسن صحيح.
[15] النياحة: البكاء بصوت مع ترديد عبارات السخط.
[16] ابن ماجة [1612]، وقال الألباني: صحيح، وأحمد [6905].
[17] السندي: حاشية السندي على سنن ابن ماجه [3/ 385].
[18] هي هند بنت أبي أمية المعروف بزاد الراكب، المخزومية، كانت عند أبي سلمة بن عبد الأسد، فتوفي عنها؛ فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفيت أم سلمة سنة ستين وقيل سنة تسع وخمسين وصلى عليها أبو هريرة. الإصابة الترجمة [12054]، أسد الغابة [6/ 351].
[19] مسلم: كتاب الجنائز باب ما يقال عند المصيبة [918]، أبو داود [3119]، ابن ماجة [1598]، وأحمد [16388]، والبيهقي في سننه الكبرى [6917]، ومالك في الموطأ برواية يحيى الليثي [560].
[20] البخاري: كتاب العلم، باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم؟ [101]، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه [2633]، أحمد [11314]، وابن حبان [2944].
[21] مسلم: كتاب البر والصلة والأدب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه [2636]، والنسائي [1877]، وأحمد [9427]، والبخاري في الأدب المفرد [144].
[22] البخاري: كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه [1187]، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام [2471]، وأحمد [14223].
[23] جابر بن عتيك بن قيس بن الحارث الأنصاري، شهد بدرًا والمشاهد. توفي جابر سنة إحدى وستين، وعمره إحدى وتسعون سنة. الإصابة الترجمة [1028].
[24] عبد الله بن ثابت الأنصاري أبو الربيع توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حياته، ودفنه النبي صلى الله عليه وسلم في قميصه وكان قد شهد أحدًا. الإصابة الترجمة [4570].
[25] النسائي [1846]، أحمد [23804]، وقال الألباني: صحيح.
[26] أبو داود [1555].
[27] مسلم كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين [1556]، والترمذي [655]، والنسائي [4530]، وأبو داود [3469]، وابن ماجة [2356]، وأحمد [11335].
[28] هو: أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، من مشاهير دعاة السلفية في الهند، كان له إسهام في تأسيس جمعية أهل الحديث، وعرف بحملاته على المذهبية، واشتهر كتابه (تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي) وتوفي سنة 1353هـ انظر: المسح في وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم [1/ 152].
[29] المباركفوري: تحفة الأحوذي في شرح سنن الترمذي [4/ 397].
[30] مسلم: كتاب الحيض، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة، وأن الولد مخلوق من مائهما [315].
[31] مسلم: كتاب الزهد والرقاق [2979]، والترمذي [2355] وأحمد [6578].
[32] أبو نعيم: حلية الأولياء [1/ 151]، الطبراني في الكبير [7308]، أسد الغابة [1/ 526].
[33] ابن هشام: السيرة النبوية [3/ 28].
[34] الجحفة: قرية كبيرة على طريق المدينة، وهي على بعد ثلاثة أميال من مكة، وهي ميقات أهل مصر والشام، وسميت جُحْفة لأن السيل اجتحف أهلها أي نزحهم من أماكنهم. الجبال والأمكنة والمياه [1/ 5]، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم [1/ 27]، معجم البلدان [1/ 475].
[35] مسلم: كتاب الحج، باب الترغيب في سكنى المدينة والصبر على لأوائها، أحمد [26283].
[36] انظر: البخاري: كتاب التفسير، سورة النساء [4304]، وأبو داود [2922].
[37] البخاري: كتاب المزارعة، باب إذا قال: اكفني مؤونة النخل أو غيره وتشركني في الثمر [2200].

 

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

  • 6
  • 0
  • 16,977

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً