هل ارتد أحد من الصحابة؟
ما صحة حديث ارتداد بعض الصحابة عقب حادثة الإسراء والمعراج، بعد إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم بها؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وبعد:
فإنه لا يصح أنَّ أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ارتدَّ بعد حادثة الإسراء، ولم يَرِد ذلك صراحة إلا في حديث منكر، أخرجه الحاكم [3/ 62-63] وغيره، من طريق: محمد بن كثير الصنعاني، عن معمر بن راشد، عن ابن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "لمّا أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتدّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به وصدّقوه..." الحديث؛ قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه؛ فإن محمد بن كثير صدوق"، والحاكم -كما هو معلوم- انتُقِدَ كثيرًا على أحكامه على الأحاديث في "المستدرك"، ويظهر انتقاده هنا بوضوح؛ فإن محمد بن كثير هذا لم يخرِّج له أحدُ الشيخين شيئًا، ومع هذا فهو مضَعَّف من قِبَل حفظه، ويشتد ضعفه إذا روى عن معمر، وهذا من روايته عنه.
قال عبدالله ابن الإمام أحمد: "ذكر أبي محمدَ بن كثير فضعّفه جدًّا، وضعّف حديثه عن معمر جدًّا، وقال: هو منكر الحديث، وقال: يروي أشياءَ منكرة". اهـ (من"تهذيب الكمال" [26/ 331]).
والصواب في هذا الحديث: رواية ابن جرير له في "تفسيره" [17/ 335] عن ابن شهاب الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة ابن عبد الرحمن مرسلًا، والمرسل من أنواع الضعيف، ومع ذلك فذِكْرُ الارتداد لم يَرِدْ من قولهما، وإنما ذكره عبد الله بن وهب من قوله، وابن وهب هو الراوي للحديث عن يونس بن يزيد، عن الزهري.
فإن قيل: ورد خبر الارتداد أيضًا في حديث ابن عباس عند الإمام أحمد ([1/ 374] رقم [3546])، والنسائي في "الكبرى" [11383]، وغيرهما، وصححه ابن جرير الطبري في "تهذيب الآثار" [17]، وابن كثير في "التفسير" [5/ 26].
فالجواب: أن هذا الحديث ليس فيه دلالة على أنهم كانوا مؤمنين، ولفظه عند هؤلاء: "فقال ناسٌ: نحن لا نصدّق محمدًا بما يقول، فارتدّوا كفارًا، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل..." الحديث.
فقوله: "فارتدوا كفارًا"؛ لا يدل على أنهم كانوا مؤمنين، وإنما يدل على أنهم بعد أن رأوا هذه الآية العجيبة؛ وهي أنهم تحدَّوُا النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يُثْبِت صدقه في أنه أُسري به إلى بيت المقدس، ثم رجع في ليلةٍ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يصف لهم بيت المقدس وصفًا دقيقًا، وهم يعلمون أنه لم يره، وأخبرهم بِعِيرِهم التي في الطريق، وهذه آية عظيمة تستوجب من كفار مكة الإيمانَ بصدق نبوّته صلى الله عليه وسلم، ولكنهم مع هذا كله قالوا: نحن لا نصدق محمدًا بما يقول، فبدلًا من الإيمان ارتدّوا إلى كفرهم، وباقي الروايات التي ذُكرت في هذه الحادثة من غير هذا الطريق تدل على ما ذكرتُه، فليس فيها ذِكْر الارتداد، فضلًا عن التصريح بردّة بعض مَنْ كان آمن، على أنَّ سند الحديث يحتاج إلى تأمُّل، يُشعر به قولُ ابنِ جريرٍ الطبري في الموضع السابق من "تهذيب الآثار": "وهذا خبر عندنا صحيح سنده".
وقد يجب أنْ يكون على مذهب الآخرين سقيمًا غير صحيح؛ لعلل:
إحداها: أنه خبر لا يُعرَف له مخرج يصح عن ابن عباس -على ما روي عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عنه- إلا مِنْ هذا الوجه، وإنْ كان قد روي بعض ذلك عن عكرمة، من غير حديث هلال بن خباب...إلخ ما قال، والمهم منه ذِكْر العلة الأولى هذه، فالحديث يرويه هلال بن خبّاب، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأحاديث الإسراء وردت عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم استوعب ذِكْرَهم الحافظ ابن كثير في أول سورة الإسراء، ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يَرِدْ في حديثِ أيٍّ منهم ذِكْر الردّة إلا في طريق عائشة، الذي تقدم الكلام عنه، أو في هذه الرواية.
وقد رُوِيَ الحديثُ عن ابن عباس من خمس طرق -على ما ذكر ابن كثير-، وبعضها في الصحيح، وليس في شيء من هذه الطرق ذِكْرُ الردّة؛ إلا في رواية عكرمة، ولم نجد هذه الرواية مروية عن عكرمة إلا من طريق هلال بن خبّاب، وتلاميذ عكرمة الذين رووا عنه السنّة كُثُرٌ، ولم يروِ أحد منهم هذا الذي رواه هلال بن خبّاب، وهم أكثر ملازمة لعكرمة من هلال، وأحاديثهم مخرّجة في الصحيح عنه، وأما هلال بن خبّاب فأعرض صاحبا الصحيح عن إخراج حديثه بالمرة؛ لأنه تغيّر قبل موته بسبب كِبَرِ سِنِّه، ومثله لا يحتمل منه التفرُّد بهذه الرواية، وفيها ما تقدم ذِكْره مما ينكر عليه من لفظها.
فهذا ما يتعلق بالرواية من حيث السندُ، أما نقدها من حيث المتنُ، فهي منكرة؛ للأسباب التالية:
(1) حديث أبي سفيان مع هرقل، وفيه سؤال هرقل لأبي سفيان -وكان حين ذلك مشركًا-: "هل يرتد أحدٌ منهم -يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- سُخطةً لدينه بعد أنْ يدخله؟" قال أبو سفيان: "لا". فلو كانت حادثة الارتداد عن الإيمان صحيحة؛ لما أقرّ أبو سفيان بذلك؛ بل كان يقول له: نعم، هناك من ارتدّ عن الإيمان به لمّا حصل كذا وكذا.
(2) في متن هذا الحديث من هذا الطريق ألفاظ أخرى منكرة؛ تدل على عدم ثبوته؛ كقوله: "ورأى الدجال في صورته رؤيا عين، ليس رؤيا منام..."، وذكر صفته، فلو كان صلى الله عليه وسلم رآه في تلك الليلة؛ لما التبس الأمر عليه بابن صيّاد بعد أنْ هاجر إلى المدينة، بل كان يعرفه بعد أنْ رآه رأيَ العين، وبالأخص ما ذكر في الحديث من علاماته التي لا تخفى، ومنها قوله: « » (رواه أحمد [1/ 373]، وانظر السلسلة الضعيفة للألباني [1968])، وبعض هذه الأوصاف من أنها لم تكن في ابن صياد، كذِكْر العين؛ فإن عينه كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سليمة، وإنما نَفَرت بعد ذلك كما يدلّ عليه حديث ابن عمر عند مسلم في "صحيحه" [2932].
(3) أن الصحابة كانوا وقت حادثة الإسراء قلة قليلة، معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم، وحُفِظت لنا كل الحوادث التي مرت بهم في تلك الفترة، فنُقِلَ إلينا خبر إسلامهم وتعذيبهم، وهجرتهم الأولى والثانية إلى الحبشة، ومَن مات منهم، ومَن وُلِد له، كلُّ ذلك باسم كلٍّ منهم، فلا يعقل أن يحدث لأحد منهم هذا الحدث -وهو الردة عن الإسلام-، ثم لا ينقل لنا اسم أحد من هؤلاء المرتدين، فلم يُسمَّ لنا -من طريق صحيح أو ضعيف- اسم شخص على أنه ممن ارتد بعد حادثة الإسراء، ومعلوم أنه لا يمكن أنْ تُنْقَل لنا أحداثٌ أقل من هذا شأنًا، ويُتْرَك ذِكْر ذلك.
(4) أنَّ كل مؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يؤمن بأن جبرائيل ينزل من السماء على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في لحظةٍ، فكيف يستبعد أنْ يُسرَى بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس في ليلة؟! ولذلك نُقل هذا المعنى عن أبي بكر رضي الله عنه في محاجّته للمشركين، وأنه قال لهم: "أنا أصدّقه فيما هو أعظم من ذلك بخبر السماء يأتيه في لحظة".
فعُلِمَ من ذلك كله عدم صحة هذه الحادثة، ولشهرتها أَطَلْنا القول فيها؛ تصحيحًا لأحداث السيرة، وبيانًا للحق، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: