اللحظات القاتلة
موسى بن محمد هجاد الزهراني
- التصنيفات: الموت وما بعده -
قال محدثي.. بلهجة هادئة عذبة ..مرتبة ... دون تكلف وبكل بساطة (1):
في ليلة باردة شديدة البرد .. أرى الصحراء الواسعة الشاسعة .. تمتد كاشفة عن صدرها العريض تحتضن كل شيء .. و تضمه إلى صدرها ..
أطلقت ناظريّ في ملكوت الله .. و هل أجمل من منظر السماء في الليل؟! بزرقتها الداكنة المزينة بنجوم كأنها ..عقود در منضود أو حبات ألماس ؛ على نحر غانية حسناء؟!
ترى تلك النجوم البعيدة المنال .. و كأن كل نجم منها يضمر حديثا عذبا
؛ و أشجانا عذبة فيّاضة.. تلمع تلك الأنجم ؛ بعيني كاللآليء التي
تكللت بها العروس في أجمل ليالي العمر!! تباهي بها كل من ينظر إليها
.. تذكرت قول الشاعر (2) :
يقدح النجم بعيني شررا و لزند الشوق في الأحشاء قدح !
جلت بطرفي في أرجاء السماء لعلي أرى قمرها ؛ فلم أره فتذكرت قول أبي
تمام(..في مرثيته):
.......... نجوم سماء خرّ من بينها البدر !
سبحان الله .. جو شاعري يأخذ بالألباب .. فيحلّق بها في عالم الروح
الذي لايعرف سوى الطهر و النقاء .. و الرقة و الصفاء .. بعيدا عن هموم
الأرض و مشاكلها .. و تعقيداتها !
تفرّق الرفاق .. كل يريد أن يضع جنبه على الأرض ويطبق أجفانه .. بعد
عناء يوم كامل من العمل المضني ..
دخلت خيمتي .. و أبقيت على جسمي ما أحتاج إليه من ملابس في نومي ! كي
أتقي بها برد ليل الصحراء (3) .. في عجل .. ألقيت نظرة تفقد على
فراشي .. وأنا بشوق أن أُلقي بنفسي بين طياته لأتمتع بالدفء !
دخلت في فراشي .. ( و كان على هيئة فراش جاهز للنوم صنع بطريقة تمكن الإنسان من إدخال جسمه فيه من جهة أقدامه ؛ وبه "سحَّاب" يسحب إلى العنق بعد دخول النائم في الفراش)..
عاودني حديث النفس مرة ثانية .. فغبت عن نفسي في نفسي .. وسرحت مع
الذكريات الماضية !! و تنقلت بين الأزمنة . فكرت فيما يخبئه الزمان لي
!! تلك أحاديث النفس !!
أيقظني من شرودي ..شيء غريب ..
أحسست به يمشي على جسدي و كأنه الماء المُنصبّ على ساقيّ!! كدت أن أتحرك .. فآثرت البقاء على هيئتي حتى أتأكد من أوهامي !
و إذا أنا ..
أشعر بحواسي الخمس!!
و كل خلية في جسمي ! تكاد تشتعل نارا - في شدة البرد- من هول الأمر !!
أتعلمون ماذا كان ؟!!
إنه ..(ثعبان )...نعم ..
ثعبان ضخم .. بشحمه و لحمه ..إن كان له شحم ! ضاقت به الصحراء
المترامية الأطراف .. فلم يجد أهنأ مناما .. و لا أريح مضجعا ..و لا
أدفأ حضنا ..إلا بين قدميّ !
فتحولت فجأة من آدمي ..مخلوق من لحم و دم .. إلى قالب من الثلج في هيئة آدمي!جمد البرد و الخوف أطرافي ..
تراءى لي الموت ..أراه يلوح لي في أدنى حركة ..بل ..أظن أن كل همسة
تخرج مني ..ستنقلني مباشرة إلى الدار الآخرة .! بلا نقاش!
حاولت أن أقلب (رموشي (4) )!كي أرى أحدا من رفاقي الذين
دخلوا في عالم الأحلام !
و دخلت أنا في معركة نفسية لم تعرفها الدول العظمى زمن (الحرب
الباردة)!
و لا أعلم هل أخرج منها على قدميّ !! أمشي عليهما كما كنت أمشي من قبل .. أم أخرج منها محمولا علىأعناق الرجال إلى حيث لا ..رجعة!!
حتى حركة أجفاني ..أصبحت أضرب لها ألف حساب ؛ بل كل حساب درسته في كتب الرياضيات و كل حساب لم يخطر لعلماء الرياضيات على بال ! مصيبة يعجز اللسان عن وصفها.
فجأة .. و إذ بي أسمع حس أحد الرفاق.. و كان طبيباً.. فتحاملت على نفسي .. و فتحت فمي الذي كان قبل ثوان قليلة ..ملتصقا فكه الأعلى بالأسفل .. حتى كأنني أسمع ..قعقعة أسناني من شدة الضغط ..
استطعت أن أهمس لصاحبي بكلمات لا أعلم كيف صغتها .. و بأي عبارة قلتها
.. و بأي لسان نطقت بها :
- أنا في أزمة عظيمة.. أغلب ظني أن معي ثعبان داخل فراشي !
هب صاحبي مذعورا .. يخرج و يدخل .. و يذهب و يأتي .. كأنه أصابه
هوس..
ثم اتجه فجأة إلى زاوية في الخيمة !! فتح حقيبته ..أخرج منها " المصل الطبي" المكافح للسم ..في حالة ما إذا خانني ضيفي الثقيل الملقى بين أقدامي ! و قدم لي كمية من سمه ثمن احتضاني له تلك الليلة !
أيقظ صاحبي الطبيب .. بقية الرفاق .. استمعت ـ و أنا شبه مسمَّرـ !
إلى كل منهم و هو يحاول جاهدا أن يقدم اقتراحا ..يخرجني به من هذه
الورطة العظيمة التي نزلت علي نزول الصاعقة !!
تطوع أحدهم .. و فتح فمه بعد تفكير عميق .. و أخرج منه جوهرة هائلة
..!قال:
- دَعونا نهجم على الثعبان هجمة قوية ونمسكه مسكة لا يستطيع الفكاك
منها ..!!
.. أما أنا فبعد أن سمعت ذلك الإقتراح العظيم ..فقد تخيلت أكفاني
تُنسج أمامي ! و تصورت نفسي و كأني بين يدي المغسل ..و وفود المعزّين
تتوافد على منـزلنا لتقديم العزاء لأهلي !!
فما كرهت شيئا في حياتي كُرهي لذلك الرجل و اقتراحه الذي قدمه .. و لكن ماذا أفعل .. فالعين بصيرة و اليد قصيرة ..!!
أنظر إلى رفاقي الذين جمدهم رعب الموقف .. بعد أن جمد البرد أعضاءهم
..و جمدني أنا داخل فراشي ما أشعر به بين ضلوعي من خوف مهلك !
أحسست ـ فعلاـ أن قلبي يخفق خفقانا شديدا ؛ يخيل إليّ أنه سيقفز من بين ضلوعي ..
و تمنيت لو قدرت على أن أضع يدي عليه فأمسكه قبل أن يقفز من قواعده و يخترق حاجز الصدر..
لحظة سكينة مرت بي .. حملت إليّ كل أمل في الحياة .. تلك التي سمعت
كلماتها من أحد الرفاق .. و قد ألهمه الله أن يقولها :
- ما رأيكم أن أقوم بفتح ( السحَّاب) ! قليلا .. قليلا .. حتى نستطيع
إما إخراج الثعبان أو صاحبنا ..!
رحّب الجميع بالفكرة ..
و بدأت لحظة التنفيذ .. و دخلت أنا مرة أخرى في طور جديد ..
أشد من ذي قبل !! أنظر إلى الواقفين على رأسي .. نظرة الوداع ..
أحدهم بيده حذاءه العسكري الضخم (بسطار)!! تحسبا لأي حركة من النائم بين رجليّ كي يفضخ بها رأسه ..
و الآخر .. يحمل بيده إبرة (المصل الطبي)! التي لو ضرب بها فيلاً
هندياً أو إفريقياً .. لأسلم روحه إلى بارئها!
و واحد .. يقوم بأشق مهمة .. عملت من أجلي في التاريخ ..أخذ يفتح بكل
هدوء ..سحاب الفراش..
شيئا فشيئا .. قليلا قليلا ..حتى أحسست أنه قد فتحه كله ..
أما أنا ..ففي تلك اللحظة
لم أشعر بنفسي إلا و أنا خارج الخيمة !بسرعة البرق .. انطلقت
كالقذيفة .. تاركا أصحابي حول فراشي يقومون بالاعتداء الأثيم ..على
ذلك الضيف الثقيل الذي أطار لا أقول النوم من عيني فقط بل فوَّر الدم
في عروقي وعروق أصحابي !
سمعت صيحة مدوية ! أطلقها أحدهم ..
علمت بعدها أنه قد نزل بثقل قدمه وبذلك الحذاء العسكري الغليظ ( البسطار ) و هشم به رأس الثعبان .. حتى نقله مباشرة إلى عالم الأموات !
تذكرت ..! أنني محتاج إلى أكبر كمية من الهواء كي أملأ بها صدري
ورئتيّ اللتين أصبحتا خاليتين من الهواء تماما في تلك اللحظات
المريرة!
جاء أصحابي إليّ .. يتلمسون جسمي .. بين مصدق و مكذب بنجاتي .. لا
تسمع إلا عبارات الثناء و التمجيد لرب العالمين ..!
قيل لي أن ذلك الثعبان من أقوى أنواع الثعابين ..له قرنان ..في رأسه كأنهما ( فوهتا ) مدفع ألماني من عهد (هتلر) أيام (النازية) ..!
و أن سمه أقوى أنواع السموم .
عُدت إلى منظر السماء ..مرة أخرى .. لا لكي أتغزل في النجوم اللامعة
هذه المرة ؛ و أتخيلها كعقد جوهر على حسناء فاتنة !
بل لكي أتذكر عظمة الخالق العظيم الذي أحياني بعدما أماتني .. وعرفت
لأول مرة قيمة الحياة ..
هل تعلمون .. كم كانت مدة تلك اللحظات القاتلة التي عشتها في ذلك
الحدث الرهيب ؟!!
إنها لاتتجاوز (15) دقيقة ؛ ربع ساعة فقط...
أقسم بالله لكأنها سنوات طويلة .!
أنهى محدثي حديثه الشيق.. ونظرت إلى الجالسين و إلى نفسي معهم فإذا
رقابنا مشرأبة .. و أبصارنا شاخصة .. و أرياقنا جفَّت من حلوقنا .. و
بلغت القلوب الحناجر ! كل منا يتخيل نفسه في ذلك الموقف ..
كم هي غالية هذه الحياة .. و كم هي نعمة عظيمة لا تعدلها إلا نعمة
الإيمان والعيش في ظلال القرآن.
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
1 - البساطة
في اللغة : بسط الشيء نشره؛ من التوسع ؛ و السائد لدينا : أي عدم
التكلف.
2 - ابن النحاس ؛ لا يوجد له سوى هذه
القصيدة التي منها هذا البيت .
3 - في منطقة حفر الباطن.
4 - أهداب العين .
كتبه/
موسى محمد هجاد الزهراني
المنطقة الشرقية / الظهران
الاثنين، 27 ربيع ثاني ، 1420هـ