ولا يزالون يقاتلونكم
لما انفرط عقد السوفييت في أواخر القرن الماضي، وخلا الجو أمام الغرب الصليبي؛ تسارعت خطواته ليقضي على كل ما يخالف ملته؛ وطرح ما يريد بشكل مكشوف، عاملًا على تنفيذ ما طرح، واستخدام وسائل الضغط على الدول لإرغامها على تنفيذ ما تريده.
سعى الغرب الصليبي في النصف الأول من القرن الميلادي العشرين لفرض حضارته على ما يراه عالَـمًا متخلِّفًا عن طريق الغزو العسكري والاحتلال المباشر، ومن ثَمَّ سنّ القوانين، وأنشأ النظم التعليمية، وحشاهما بمفردات ثقافته؛ لتُطمَس من خلالهما هوية المجتمع شيئًا فشيئًا، إلا أنَّ هذا النوع من محاولات مسخ الشعوب لم يكُ مُجْديًا على المدى الطويل؛ لارتفاع كلفته المادية والبشرية من ناحية، ولاستفزازه الشعوب، ووصمه مَنْ يسير في ركاب المحتل ويتبنى ثقافته بالعمالة والانحراف من ناحية أخرى.
وبعد نصف قرن من المدافعة كانت جل الشعوب الإسلامية قد تحررت من سطوة المحتلين المباشرة، لكن الخطير أنَّ الأجيال التي عاصرت الاستقلال كانت قد صُنعت على عين المحتل، ونُشّئت على يديه، فلم يكُ مستغربًا أن يكون غاية التحرر عند أولئك خروج جيوش الاحتلال، واتخاذ علم ونشيد وطني، لكن لما كانت سُنَّة الله تعالى تقضي بأن شمس الإسلام قد تكسف لكنها لا تغيب، وأنها كلما غربت في قُطْرٍ أسفرت في مِصْرٍ؛ فقد دارت الأيام، وبدأت ذات الأجيال تفيق مع بزوغ فجر الصحوة الإسلامية، بل تسعى في بعض البلدان لإقامة شرع الله ومحو كل أثر للمحتلين.
ثبت للغرب الصليبي أن وسائل الضغط الاقتصادي، والعسكري، والسياسي؛ قد تضعف المسلمين، لكنها لا تكفي لنزع الإسلام من قلوبهم، فكان لابد من نقض عُرَى الإسلام واحدة واحدة، وتزيين ذلك لأبناء المسلمين باسم حقوق الإنسان كرةً، ودعوات الإخاء والمساواة واحترام وقبول الآخر كرةً أخرى؛ ليحلوا رباط عقيدتهم بأيديهم، ويخرجوا عن أحكام شريعتهم باختيارهم، وهم يرون أنهم يحسنون صنعًا، فاستحدثوا من الوسائل السياسية، والقانونية، والإعلامية؛ ما يخفي وجه حقيقتهم عن الأعين، ويصل بهم لغاياتهم ومراميهم.
ولما انفرط عقد السوفييت في أواخر القرن الماضي، وخلا الجو أمام الغرب الصليبي؛ تسارعت خطواته نحو الهدف، فبدأ يكشف عن تفاصيل ما يريد فرضه على العالم بأسره، ليقضي على كل ما يخالف ملته؛ فكان مؤتمر القاهرة، ثم بكين، اللذان دُعِي فيهما صراحةً لإباحة الإجهاض، وتحديد النسل، وتأخير سن الزواج، مع توفير البدائل التي تغني عنه! كما ورد في نص وثيقة القاهرة، وإتاحة الحرية الجنسية، والاعتراف بالأشكال المختلفة للأسرة، ومحاربة التمييز ضد الشواذ، والقضاء على الأدوار النمطية للجنسين في المجتمع، والدعوة للمساواة التامة بين الجنسين في كل مجالات الحياة، وغير ذلك مما تأباه كثير من المجتمعات، مع التأكيد على عدم جواز التذرُّع بالدين، أو مراعاة الأعراف والقوانين الداخلية؛ للتقصير في تطبيق الالتزامات الدولية!
ولئن كانت مؤسسات الغرب الصليبي فيما مضى تطرح اتفاقياتها، ثم تصبر على الدول ليوقِّع مَن شاء ويتحفظ على ما يشاء؛ فإنها في العقدين الأخيرين صارت تعمد لطرح ما تريد بشكل مكشوف، وتحدد موعدًا أقصى لتنفيذ ما طُرح، ثم تستنفذ الوسائل للضغط على الدول وإرغامها على التنفيذ.
ولئن كان خطابها في الماضي يتركز على الدعوة لرعاية حقوق الإنسان، فقد تحوَّل الأمر الآن لخطابٍ يجرّم المخالفين، ويسعى لأَطْرِهم على الاتباع والانصياع عن طريق المؤسسات العدلية الدولية!
وصدق الحق تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]؛ يقاتلونكم بكل سبيلٍ ما استطاعوا، فاسْتَمْسِكوا بدينكم بكل قوة ما حييتم.
أسماء عبد الرازق
- التصنيف: