المرأة المجددة (3)

منذ 2014-04-14

كيف اهتم الإسلام بعاطفة المرأة ونفسيتها؟!

المرأة في الإسلام تجربة تاريخية جديدة 

(ب) اهتمام الإسلام بعاطِفة المرأة، ونفسيتها:

فقدِ اهتمَّ الإسلام بمعنويات المرأة وعواطفها اهتمامَه بعقلها، ويتضح اعتناءُ القرآن بعواطِفِ المرأة في قصَّة أمِّ موسى عليه السلام، تلك الأُم التي ابتُلِيتْ بإلْقاء ابنها بيدها في اليمِّ إنْ خافت عليه! وقد أُمِرَتْ بذلك.

فيا لها من مشاعرَ أليمة عند كلِّ أمٍّ لا تُضاهيها مشاعِر! وقد لا يحسُّ بها إلاَّ مَن فقَدتْ رضيعَها في هذا العُمر.

وفي هذه المِحنة يُصوِّر القرآن الكريم، ويُفصِّل مشاعرَ الأمومة بشفافية واعتناء؛ ليتابعَ هذه المشاعر اللحظةَ بعدَ اللحظةِ، وينقل لنا تطورَها بدقَّة طَورًا بعْد طور، فمِن خوف وحزن على المفقود حين تُلْقي الأمُّ رضيعَها في النهر؛ {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص: من الآية 7].
ثم ليعوِّضها اللهُ عزَّ وجلَّ ويقذف في قلْبها الأمن والسَّلْوى؛ {وَلاَ تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:  من الآية7].
ثم يتابع نقْلَ مشاعرها بعدَ وضْعها لرضيعها في اليمِّ، تلك المشاعر الجِبلية التي خرجَتْ عن طوْعها، فأصبحتْ والهةً بابنها، ذاهلة عما سواه؛ يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10].
لقَدْ "أصبح فؤادُ أمِّ موسى فارغًا من ذِكْر كل شيء، إلا مِن ذكْر موسى"؛ ابن كثير.
فرَبَط الله عزَّ وجلَّ على قلْبها؛ تخفيفًا عليها من هول الفراق، وتهدئةً لرَوْعها ولهفها على ابْنها، ثم نتابع تطوُّرَ المشاعر بتطوُّر الأحداث؛ {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه: 40].
ثُم ردّه إليها؛ "كي تقرَّ عينُها ولا تحزن، فبلَغ لُطف الله لها وله، أن ردَّ عليها ولدَها، وعطَف عليها نفْعَ فرِعون وأهْل بيته، مَعَ الأَمَنةِ مِن القتْل الذي يتخوَّف على غيره، فكأنَّهم كانوا مِن أهل بيت فرعون في الأمان والسَّعة، فكان على فرش فرعون وسُرره"؛ [تفسير الطبري].

إنَّ كلَّ هذا الاهتمامِ بنقْل الأحاسيس بتلك الدِّقَّة، والتتابع لكلِّ حال من أحوال تلك المؤمِنة المبتلاة، يجعلنا نُدرك مدى احتفاء القرآن الكريم بالمرأة، بل بخلجات صدرِها، وخفقات فؤادها الرقراق، وعواطفها الجَيَّاشة، وتقويمه لها كيف أمسَتْ وكيف تغدو، ثم تصبح، يُكافئها الرحمنُ بفضْله ورحمته.

وتبليغنا بكلِّ هذا هو بمثابة إعلانٍ للبشرية لهذا الاهتمامِ الذي لا يُضاهيه نظيرٌ في الحياة الدنيا، وإنَّه لحرِيٌّ بكلِّ مؤمنة أن تطمئنَّ، فتقرَّ عينها ولا تحزن بعدَ سماع مِثْل هذه الآيات البيِّنات، ولتوقن بحقٍّ أنَّ لها ربًّا يعلم دقائق وتفاصيل الأمور، يستجيب لها إنْ دعتْه، ويحفظها إنْ هي حَفِظته.

وهو أيضًا دلالةٌ ظاهِرة على أنَّ العاطفة حينما تُوظَّف، فتتوجَّه لأوامِر الله عزَّ وجلَّ وأنَّ الهوى حينما يسير على مرادِ الله ينتج عنه بطولاتٌ فريدة.


ولو أسهبْنا الحديث عن نماذجَ أخرى لَمَا اكتفَيْنا، فتصوير القرآن الكريم لمشاعِر مريم عليها السلام حين قالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: من الآية 23]، ثم إنْطاق الله عزَّ وجلَّ لعيسي عليه السلام تطمينًا لها بقوله: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24]، إلى آخِر الآيات.

ومشاعِر التعجُّب والمفاجأة بالبُشرى في قول سارة زَوْج إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: من الآية 29]، ثم مشاعِر النَّدم والذنب التي وجدْناها على وجهِ امرأة العزيز في قولها: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 51 - 52].

يقول ابن كثير: "تقول: إنَّما اعترفْتُ بهذا على نفسي؛ ذلك ليعلمَ زوْجي أنِّي لَم أخُنْه في نفس الأمر، ولا وقَع المحذور الأكبر، وإنَّما راودتُ هذا الشابَّ مراودة، فامتنع؛ فلهذا اعترفتُ ليعلمَ أني بريئة".

النقطة الثانية: توكيل أمْر المرأة بمَن يرْعاها، ويحمي شؤونها؛ حِرصًا عليها، هو حظٌّ اختُصَّتْ به المسلِمات:
فإسْناد القِوامة للرجل، وتكليفه بمهمَّة تُضاف لمهامِّه، وهي (رِعاية المرأة) ماديًّا ومعنويًّا، يُعدُّ تفضيلاً للمرأة، وتدليلاً لها ومنحها حقًّا خاصًّا، تفرَّد به الإسلام على مدَى التاريخ، فالتكليف في حدِّ ذاته هو مسؤولية عظيمة، نِيط بها الإنسان، وأمانة نأَى عن حمْلها السموات والأرض والجِبال، وأشفقْنَ منها؛ لذا فلا ضَيرَ مع عِظَم هذه الأمانة أن يُحاط حاملُها بجانب من الاحترام والتوقير؛ تخفيفًا عنه مشقَّة الحمْل، واعترافًا له بفضْله في حمْلها، وقد تفرَّد عن جميع مخلوقات الله عزَّ وجلَّ في ذلك، والتفاضُل بيْن الرجل والمرأة هو مِن تمام عدْله عزَّ وجلَّ؛ يقول تعالى : {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32].

بل إنَّ التمنِّي من الجِنسين بما فضَّل الله به بعضَهم على بعضٍ يُورث البغي.

يقول الإمامُ الطبريُّ في تفسير الآية: "وذَكَر أنَّ ذلك نزل في نساءٍ تمنيْنَ منازلَ الرِّجال، وأن يكون لهن ما لهم، فنهَى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرَهم أن يسألوه مِن فضْله؛ إذ كانت الأمانيُّ تُورِث أهلَها الحسدَ والبغي بغير الحقِّ، وفي قوله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}، فإنَّ الرِّجال قالوا: "نريد أن يكونَ لنا من الأجْر الضِّعْفُ على أجْر النساء، كما لنا في السِّهام سهمان، فنُريد أن يكون لنا في الأجْر أجران، وقالت النساء: "نريد أن يكون لنا أجْرٌ مثْل أجر الرِّجال، فإنَّا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كُتِب علينا القِتالُ لقاتلْنا! فأنزل الله تعالى الآية، وقال لهم: سَلُوا اللهَ من فضْله، يرزقكم الأعمال، وهو خيرٌ لكم"؛ ا.هـ  [تفسير الطبري].

فرغم أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد منَح القِوامة للرجل، وأعْطاه قدراتٍ وميزاتٍ تُناسِب تكوينَه، إلا أنَّ هذه القُدراتِ قد جعلتْه في مناط التكليف، ممَّا حدَا به أن يُسأل ويُؤمر عمَّا أُسنِد إليه.

والألْفاظ التي أتَتْ تأمر الرجل تارةً، وتنذره تارةً في القرآن الكريم في تعامُله مع المرأة، تُفْصِح لنا عن مدَى حرْص الإسلام على المرأة، وعنايته بحقوقها، فقد عَرَضت السُّور (النساء والبقرة، والمائدة والنور، والأحزاب والمجادلة، والممتحنة والتحريم) آياتٍ تَصِف أحوالَ المرأة وشؤونها، ولكلِّ سورة من هذه السُّور جانبٌ أو جوانب عالجتْها، وهذه بلا شك عنايةٌ خاصَّة بالمرأة.

يقول د. محمد المدني: "وتلك عنايةٌ واضِحة من القرآن الكريم بشأن المرأة، واهتمام واستقصاء أحوالها في مختلف أطوارها، وفي جوانبِ حياتها، وحرْص على حمايتها، وبيان حقوقها على الرَّجُل، وحقوق الرجل عليها، ويَزيد في أمْرِ هذه العناية وهذا الاهتمام أنَّ حِكمةَ الله قضَتْ بأن تُسجَّل هذه الأحكامُ على وجهٍ فيه كثيرٌ من التفصيل والبيان في القرآن الكريم، وألاَّ يُكتفَى بتقريرها وتفصيلها في السُّنة، فإنَّ القرآن عادةً هو الذي يتكفَّل بما هو مِن قبيل الأصول الكُليَّة، وما يلتحق بها من الشؤون التي يَجِب أن تكونَ حاضرةً في الناس، متلوةً يذكرونها دائمًا ولا ينسونها، ولا يتفاوتون في درجةِ ثُبوتها، فتَبقى لديهم جميعًا متواترةً قاطعة"؛ ا.هـ؛ [انظر: المجتمع المثالي كما تُنظِّمه سورةُ النساء ص: 22؛ د. محمَّد محمد المدني].

نظْرة تحليليَّة لغوية:
وبملاحظة بعضِ الآيات الكريمات التي تَعرِض قضايا المرأة، نستعرض لمحةً تحليليَّة سريعة لبعضها، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231].
وقوله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}  [البقرة: 232].
وقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف}[البقرة: 233].
وقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236].
وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241].
وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228].
وقوله - عزَّ وجلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20 - 21].
وقوله عزَّ وجلَّ: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6].

حيث نجد أنَّ الآياتِ تتفاوت في سِياقها اللُّغوي ما بيْن الوعْظ والإرشاد إلى حدٍّ يصل إلى الإنذار، كما أنَّ معظم الآيات تبدأُ بأفْعال أمْرٍ أو نهي مِن الله تعالى إلى معاشِر الرِّجال، وهم محلُّ التكليف، القائمون على النِّساء، فنجد فِعْلَ الأمر في مثل {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، {سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ، {عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، {أَسْكِنُوهُنَّ} ،{وَمَتِّعُوهُنّ}، {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} ، هذا في حقِّ المطلَّقات، ناهيكم عن حقِّ الزوجة.

{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، وتلاحظون في الآية السابقة وما بها مِن تحميل عِبْء نفقة الولَد منذ كان جنينًا، ثم رضيعًا على الأب، وفيه أيضًا مِن نسبة المسؤولية إلى الأب وإلْصاقها به.

والنهي في قوله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}، {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}، {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}، {فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}؛ أي: المهر، {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ}.

والآيات أحيانًا تأتي وَعْظية إرْشادية؛ كقوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}.

إلى أن تصِل اللهجةُ القرآنية أحيانًا إلى حدِّ الإنذار في قولِ الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}، وفي قوله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} ، وقوله عزَّ وجلَّ: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، وقوله تبارك وتعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}.

وخِتام الآيات الكريمات في الغالِب تنتهي بالتذكير بعِلم الله عزَّ وجلَّ واطِّلاعه على ظواهر الأمور وبواطنها، أو أنَّ الله عزيزٌ حكيم، وأنَّه عليٌّ كبيرٌ فهو أعْلى مِن كل مخلوق وأكْبر، وأعزُّ وأحْكَم؛ {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وقوله تبارك وتعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}.

ثانيًا: مكانة المرأة في السُّنة المطهَّرة نظريًّا:
ومِن الجانبِ النظري تظهر وصايا الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم للصحابة رضي الله عنهم بالنِّساء، حتى في أواخِر الوصايا التي وصَّى بها، وذلك في خُطبة الوداع.

والوصايا الأخيرة للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كانت تحمِل بلا شك القضايا الكُبرى والأحكام الكليَّة، وتركِّز على أُسُس ومختصر الرِّسالة النبويَّة، فنجده صلَّى الله عليه وسلَّم يقول في خُطبة الوداع: «استَوْصوا بالنِّساء خيرًا؛ فإنَّهن عندكم عوانٍ، ليس تملكون منهنَّ شيئًا غير ذلك»؛ [صحيح سنن ابن ماجه للألباني، حسن].

فالنِّساء أسيراتٌ عندهم، والكريم مَن أكرم الأسير، وعمِل على شأنِه، فأصلحَه إن اعوَّج حتى يستسلمَ لله، واللئيم مَن أهان أسيرَه وهو ضعيفٌ تحت يدِه، لا حولَ له ولا قوَّة؛ «ما أكرمَهُنَّ إلا كريم...».

والأحاديث النبويَّة المنصِفة للمرأة المسلِمة أكثرُ مِن أن تُحصَى:
• فقدِ اعتبرَها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ثاني الضعيفَيْن، فقال: «اتَّقوا الله في الضعيفَيْن؛ اليتيم والمرأة»[الجامع الصغير، حديث صحيح،برقم: 127]، ونرى الكثيرين يبحثون عن حقوقِ اليتيم، ويبنون له الدُّورَ والمؤسَّسات، ويقطعون له الأوقاف، ولكن أين مَن بحَث عن حقوق الضَّعيف الثاني، وهي المرأة؟!

• وبيَّن للرجل إمكانياتِها المتواضِعة، لا تدليلاً على عجْزِها ولا احتقارها، ولكن رِفقًا بحالها، وتِبيانًا لما تحتاجه معاملتها من كثيرِ العناية والخصوصية والحُنو: «ما رأيتُ من ناقصاتِ عقْل ودِين أغلب لذِي لُبٍّ منكنَّ»؛[أخرَجه البخاريُّ ومسلم].

ثم إنَّ هذه إشارةٌ لطيفة أيضًا لكلِّ امرأةٍ كيف تُذهِب قلْبَ الشديدِ الحازم مِن الرجال، وذلك في طاعة الله - عزَّ وجلَّ - فطريقها ليس بالمناظَرة، ولكن بالاستعطاف واللِّين.

• ثم قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ المرأة كالضِّلع، إنْ ذهبتَ تُقيمها كسرْتَها، وإن تركتَها استمتعتَ بها على عِوَج»[صحيح البخاري، برقم: 5184]. تبيانًا لاختلاف الطبائع بيْن الرِّجال والنِّساء، وتوضيحًا بأنَّ المرأة بها جانبٌ من العوج، الذي قد يَظهر في المعاندة، أو الغَيْرة، وما شابه ذلك، فلا يُقابل العناد الأُنثوي بعناد ذُكوري صَلْد، بل تحتاج المرأةُ إلى معالجة لهذا العِوَج بالطريقة النبويَّة، وليستْ بالطريقة المادية النِّديَّة، والتي قد تؤدِّي إلى الكَسْر.


وهكذا ففي كلِّ حديث نمرُّ عليه، نلاحظ اهتمامًا نبويًّا جديدًا لِمَعْلَم من معالِم المرأة، وتوضيحًا لطبْع من طبائعها، وكأنَّ الأحاديث والنصائح النبويَّة أشبهُ بكُتيِّب تعريفي (كتالوج) للرجل عن سِماتها المختلفة عنه، والتي ينبغي أنْ تُؤخذَ على المحْمل الذي قِيل من أجْله، وهو النصيحة والتنبيه والدِّراسة، وليس على محْمل التنقيص والسُّخرية، فكم هي عددُ الكتب التي صِيغت في طبائع الأطفال مثلاً، وتبيان ضعْفهم، واختلافهم عن البالِغين الراشدين بقِلَّة عقولهم وخبراتهم، وميلهم إلى اللَّعِب، ولم نجد رشيدًا كاملَ الأهلية يسخَر من الطفل؛ لأنَّه طفل إلا أنْ يكون هو الطفل.

• بل يَكفي تدليلاً على مكانة المرأة عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ما تعدَّى حدودَ المرأة المسلِمة إلى تقدير حتَّى نساء الأعداء، فعن عبدالله: "أنَّ امرأةً وُجِدتْ في بعض مغازي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مقتولةً، فأنكر رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قتْلَ النِّساء والصبيان"؛ [أخرجه البخاريُّ ومسلِم].


كان هذا الجانب النظري، ونترك الجانبَ العملي في حديث لاحِق - إن شاء الله.

العديدُ من الآيات المنصِفات البيِّنات، والعديد من الأحاديث النبويَّة، والتي لا يتَّسع المقام لذِكْرها كاملةً، فنحن نذكر بعضَها من قبيل المثال لا الحصْر، لكنها تشِي بهذا التغيُّر الفاصل في العَلاقات الإنسانية في هذا العهْد المشرِق من تاريخ البشَر، على يدِ خاتم المرسَلين صلَّى الله عليه وسلَّم ولئن كان عصْر النبوَّة هو الأكْمل على الإطلاق، فمِن حقِّنا أن نقول: إنَّ المرأة الصحابية كانتْ -ولا تزال- ميزانَ الاعتدال، والمحرِّك الرئيسي المجدِّد لحقوق المرأة في المجتمع ككلٍّ.

في المقال القادم -بإذن الله تعالى- نتناول عن قُرْب المرأة الصحابية، ودورها المحوري في المجتمع؛ حيث كانت هي المجدِّدةَ والمغيِّرة لوجه التاريخ الجاهِلي المظلِم.

رحاب حسّان

  • 0
  • 0
  • 5,137

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً