هل الجنة والنار موجودتان؟ وهل تفنيان؟
زيد بن مسفر البحري
ومعتقد أهل السنة والجماعة أن الجنة لا تفنى يوم القيامة خلافاً للجهمية الذين قالوا بفناء الجنة، وذلك أن (الجهم بن صفوان) كبيرهم يمتنع عنه الفعل من الله في المستقبل يقول: "ممتنع أن الله يفعل في المستقبل شيئاً"! ولذلك كفره السلف، وحكموا بقتله، ونفذ فيه القتل.
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
الجنة موجودة الآن وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة والأدلة على وجودها قوله عز وجل: {..أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، أي هيئت فلو لم تكن موجودة فلما صح أن يقال: إنها أعدت، ومن السنة أن الرسول رآها كما في صلاة الكسوف كما جاء في الصحيحين، وقد خالف في ذلك المعتزلة، وقالوا: إنها ليست موجودة، ويستدلون على ذلك بأدلة:
أولاً: قوله عز وجل: {..كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ..} [القصص:88].
ثانياً: قوله عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27].
ثالثاً: قوله عز وجل عن آسية بنت مزاحم {..رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ..} [التحريم:11].
رابعاً: قول النبي: «الجنة قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله» (الحديث حسنه الألباني في صحيح الترمذي:3462).
خامساً: قول النبي: «من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» (صحيح الترمذي:3465)، فهذه النصوص وأمثالها تدل على أنها غير موجودة فأما الآيتان الأوليان فوجه الاستدلال بهما أنها لو كانت موجودة لهلكت وفنيت، وأما وجه الاستدلال بالنصوص الأخرى فلأن طلب آسية يدل على عدم وجودها، وكذا الكلام في الحديثين كالكلام في الآية.
والجواب عن هذه الآيات أن الآيتين الأوليين مخصص منهما من لم يكتب عليه الفناء، أي: {..كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ..}، فالمكتوب عليه الفناء يفنى، وأما الآية التي في آخر سورة التحريم: {..رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ..}، وكذلك الحديثان، فالجواب عنها أن نقول: إن كان مرادكم أن الجنة لم تكتمل بعد، وأنه عز وجل لا يزال يزيد فيها ويخلق فيها فقول مقبول، وإن أريد أنها غير موجودة البتة فهذا غير مقبول، فإذا ردت هذه النصوص إلى النصوص الأخرى أصبح الكل محكماً.
ومعتقد أهل السنة والجماعة أن الجنة لا تفنى يوم القيامة خلافاً للجهمية الذين قالوا بفناء الجنة، وذلك أن (الجهم بن صفوان) كبيرهم يمتنع عنه الفعل من الله في المستقبل يقول: "ممتنع أن الله يفعل في المستقبل شيئاً"! ولذلك كفره السلف، وحكموا بقتله، ونفذ فيه القتل، والتشابه الذي وقع فيه الجهم قوله عز وجل: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ..} [هود:108].
والجواب عن هذا أن يقال:
أولاً: أن ذكر المشيئة هنا من باب التبرك باسم الله عز وجل، وذلك لأن بقاءهم في الجنة هو بمشيئة الله عز وجل إذ لو شاء لما أدخلهم من الأصل، فليس لأحد منة ولا حق لكنه هو فضل الله.
ثانياً: إن هذا الاستثناء وقت بقائهم في المحشر، فهذا الاستثناء راجع إلى مدة بقائهم في المحشر قبل دخولهم.
ثالثاً: أن الله عز وجل ختم الآية فقال: {..عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} بعد قوله: {..إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ..}، فهذا يدل على أن هذا النعيم غير منقطع عنه، فهذا هو الجواب على ما حصل من إشكال، وإذا رد هذا المتشابه إلى المحكم أًصبح محكماً كله، فإن النصوص الكثيرة جاءت بأبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا تبيد.
والنار موجودة الآن لقوله عز وجل لما ذكر النار: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:131]، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى النار، ورأى فيها أناساً يعذبون فدل على وجودها ولا عبرة لمن خالف في ذلك، وقال بعدم وجودها، والرد عليها فيما استدلوا به من قوله تعالى: {..كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ..}، يستثنى من ذلك من يكتب الله عليه الفناء.
إن النار كما هو عند أهل السنة والجماعة لا تفنى، وهذا ما عليه جمهور السلف، وقد قال بعض السلف: "إن صح ما نقل عنهم أن النار تبقى ما شاء الله، ثم تفنى"، وقد قال بعض العلماء كالألباني رحمه الله لما تتبع الآثار الواردة عما نقل عن بعض السلف من فناء النار بعد مدة يشاؤها الله عز وجل أثبت أنها آثار لا تصح، فيكون كل أهل السنة والجماعة على أن النار لا تفنى، وأما ما استدل به بعض علماء السلف على افتراض صحة ما نقل عنهم استدلوا بما يأتي:
أولاً: أن الله عز وجل إذا وصف عذاب أهل النار وصفه بأنه يوم قال تعالى: {..يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8]، ونحوها من النصوص أما الجنة فلم يأت أن نعيمها يوم، ويستدلون بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: «سبقت رحمتي غضبي» (صحيح مسلم والبخاري)، وتأبى رحمة الله عز وجل أن يبقى هؤلاء البشر في النار أبد الآباد، ومعتقد هذه الطائفة من أهل السنة والجماعة على افتراض صحة ما نقل عنهم على أن أهل النار يعذبون ما شاء الله عز وجل، ثم تفنى هذه النار، وأما جمهور السلف فإنهم يرون أن النار لا تفنى أبد الآباد، وذلك لأن الله عز وجل ذكر بعد الخلود أبدية النار في ثلاثة مواضع من كتابه عز وجل، قال تعالى: {..خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء:169]، ولأن حكمة الله عز وجل تأبى أن يساوى هؤلاء الكفار بالعصاة المؤمنين الذين يخرجون من النار إذا طهروا، فإذا خرج هؤلاء الكفار ولم يستمر عذابهم فقد اشتركوا مع هؤلاء العصاة الذين استحقوا عقاب الله مدة من الزمن، فأي فرق بينهم، والصحيح ما عليه جمهور السلف، وقد ذكر هذه المسألة ابن أبي العز الحنفي في شرحه على الطحاوية ولم يذكر جواباً عن أدلة هذه الطائفة من أهل السنة والجماعة، وأرى والله أعلم أن الجواب حسب ما يظهر لي أنه كالتالي:
أولا: ذكر أن عذاب النار يوم واحد لا يدل على فناء النار، وإنما يدل على تهويل وتعظيم وتوبيخ أهل النار، وذلك لأن قوله: {..عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]، إذا سمعه السامع من هؤلاء الكفار فرحوا لكنه سرعان ما تنزل عليها الحسرة شأن هذا النص كقوله تعالى: {..فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34، الانشقاق:24]، يسمعها السامع من هؤلاء الكفار ثم بالطامة تنزل، وذلك لأن المتألم لو ترك على ألمه لكان في شدة، ويكون أشد من ذلك لو أُمِّل برفع هذا الألم ثم إذا به يرى أن هذا الأمل قد اضمحل وزال، ولهذا نظائر في كتاب الله عز وجل: {..وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ..} [الكهف:29]، فإذا سمعوا هذا سعدت نفوسهم فإذا قرأ ما بعدها كأن العذاب أشد: {..وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ..} [الكهف:29]، قال عز وجل: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} [النبأ:24]، فإذا سمعوا كلمة {إِلَّا} كأن الفرج سيأتي، فإذا قرأ ما بعدها وجد الألم كله {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:25]، مثاله كرجل يكاد أن يهلك من العطش فهو في ألم وفي عناء، فإذا قدمت له ماء استبشر وفرح، فاستبشرت نفسه ثم أذا أسكبت الماء على الأرض يزداد ألماً.
ثالثاً: أن اليهود لما ذكروا أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة رد الله عز وجل عليهم: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:80-81]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران:23-24].
وأما قوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه عز وجل: «سبقت رحمتي غضبي»، ليس على وجه العموم وإنما هذا مخصوص، والمخصص موجود قال عز وجل: {..وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ..} [الأعراف:156-157]، قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}، ومن أدلة من قال بفناء النار قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23]، والحقب مدة معينة من السنين، قيل: إنه ثمانون سنة، والجواب عن هذا والله أعلم أن الحقب لم يأت مفرداً، ولكن أتى مجموعاً، فقال: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}، فيدل على استمرارية هذه الأحقاب بدليل كلمة اللبث، {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}.
وقد يجاب -والله أعلم- بجواب آخر وهو أن الله عز وجل قال: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا . لِلطَّاغِينَ مَآبًا . لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:21-23]، فالضمير في كلمة (فيها) يعود إلى جهنم، وهؤلاء قد ينتقلون من جهنم إلى موضع آخر من العذاب، قال عز وجل: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ . ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:67-68]، وقال عز وجل: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43-44]، وقال تعالى: {وَآخَر مِنْ شَكْله أَزْوَاج} [ص:58].
ومن أقوال الطوائف التي ضلت في مسألة فناء النار (الطائفة الاتحادية) ورئيسها (ابن عربي) الذي يقول: "إن النار لا تفنى وإنما يتنعم ويتلذذ أصحابها بها"! وهذا بناء على معتقده الفاسد هو وأمثاله من هذه الطائفة، إذ يقولون: "إن كل ما تراه هو الله"! -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وهذه الطائفة هي بذرة من بذور الجهمية، فما خرجت هذه الطائفة إلا امتداداً لمذهب الجهمية، وبعض الطوائف تقول: "إن النار لا تفنى، وإنما يخرج أهلها، وتبقى النار وليس فيها أحد"، وبعضهم يقول: "إن من دخلها لا يخرج منها أبداً لا الكفار، ولا العاصي الذي ارتكب كبيرة من الذنوب"، وهذا معتقد الخوارج والمعتزلة، وبعض الطوائف، وهي اليهود يقولون: "إنهم يخرجون منها، ويخلفهم غيرهم"، ولذا قال عز وجل عنهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80]،
وقال بعضهم: "لا تفنى وإنما تسكن حركاتهم فلا يحصل منهم حركة"، فهذا مجمل ما ذكر من أقوال حول مٍسألة فناء النار ومعتقد أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور -كما سلف- على أن النار باقية لا تفنى، فيخرج الله منها العصاة ويبقى الكفار أبد الآباد، وطائفة من أهل السنة والجماعة قالوا: "إن النار يبقيها الله عز وجل ما شاء ثم يفنيها"، وكما سلف بعض العلماء يرى أن المنقول عن هؤلاء من أهل السنة والجماعة غير ثابت، فيكون بقاء النار أبد الآباد محل إجماع عند أهل السنة والجماعة.