رحمة الرسول بالأطفال
ولم تكن مواقف اهتمامه ورحمته للأطفال بالمواقف العابرة التي تحدث على فترات متباعدة، بل كانت متكررة جدًا، لدرجة أن الأطفال كانوا دائمًا في استقباله إذا جاء من سفر ليلاعبهم ويداعبهم، وكأنه ليس أمامه من الهموم والمشاغل غيرهم!...
كان النبي رحيمًا لين الجانب[1].
تشير التقديرات إلى أن مليون طفل سنويًّا يتم استغلالهم في البغاء وإنتاج المواد الإباحية -وما شابه من الأنشطة- وكثير منهم أجبروا أو اختطفوا أو استدرجوا، أو هم ضحايا الاتجار بالأطفال[2].
ما أبلغ ما قاله أنس بن مالك وهو يصف رحمة رسول الله بالأطفال إذ قال: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ"[3].
وإن الإنسان لَيَعْجَبُ حقًّا من رؤية مواقف رحمته بالأطفال، ويزداد العجب عندما تنظر إلى حجم المسئوليات الملقاة على عاتقه، وهو يدير الدولة، ويقود الجيوش، ويحكم بين الناس، ويتفاوض مع الوفود، ويتعامل مع الأصحاب، ويشرف على كل صغيرة وكبيرة في حياة المسلمين، ويتلقى الوحي من رب العالمين، ويصل به إلى كل من يستطيع، حتى يرسل الرسائل إلى ملوك العالم وزعمائه يدعوهم إلى الإسلام!!
رجل بهذا الثقل من المسئولية، وهذا الحجم من التَّبِعات يهتم كثيرًا -بل وكثيرًا جدًا- بأطفال أمته، مهما كانوا بسطاء!
ولا يتأتَّى ذلك إلا من نبي!
ثم إن العجب يزداد ويزداد حتى يبلغ الذروة عندما تعلم أن رحمته هذه كانت في بيئة لا يجدون فيها حقًّا لصغير، بل ويعتبرون أن رحمة الصغير لون من ألوان الضعف غير مقبول، حتى يفتخر الرجل بأنه لا يرحم أبناءه!
قَبَّل النبي الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس [4]، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله فقال: « » [5].
إن الأقرع كان يظن أنه من الرجولة والفحولة أن يقسو القلب ويتحجر، حتى لا يرحم صغيرًا، ولا يُقَبِّل طفلاً، لكن رسول الله رَدَّ عليه بالرد المفحم، ولم يكن ردًا خاصًا بموقفه فقط، إنما رد بقاعدة من القواعد الإسلامية الثابتة.. إنه قال له في إيجاز: « »..
لقد كان رسول الله لا يصبر على بكاء طفل ولا على ألمه.. يروي أبو قتادة أن رسول الله كان يصلي وهو حامل أُمَامَة بنت زينب بنت رسول الله فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها [6].
إنه هنا في أعظم شعائر الإسلام، وهي الصلاة، ومع ذلك فهو لا يصبر على بكاء الطفلة أُمَامَة حفيدته، فيحملها حتى في أثناء الصلاة!!
بل إن رحمته كانت تجعله يطيل أو يُقصِّر من صلاته بحسب ما يريح الأطفال!!
فنحن نراه في موقف عجيب يطيل السجود في صلاة الجماعة على غير عادته وذلك حتى لا يزعج طفلاً!
والقصة يرويها شداد بن الهاد [7] ويقول فيها: "خرج علينا رسول الله في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حَسَنًا أو حسينًا، فتقدم رسول الله فوضعه ثم كبر للصلاة فصلَّى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، قال: « » [8].
وعلى النقيض من هذا نجده يسرع في صلاته في ظروف أخرى لكي يرحم طفلاً آخر..
يروي أنس بن مالك أن رسول الله قال: « » [9].
ها هو رسول الله يُكَيِّف -بلا تعنت ولا تشدد- صلاته وصلاة المسلمين، لكي يرحم الطفل الصغير، وكذلك ليرحم أمَّه!
وفي مواقف أخرى من السيرة تجد رسول الله يفرغ من أوقاته ليلعب مع الأطفال، فهذا أسامة بن زيد يروي فيقول: كان رسول الله يأخذني فيُقعِدني على فخذه ويُقعِد الحسنَ على فخذه الآخر ثم يضمهما، ثم يقول: « » [10].
وانظر إلى رحمته وهو يواسي طفلاً لموت طائر صغير كان يلعب به!
يقول أنس بن مالك كان النبي يدخل على أم سُلَيْم [11]، ولها ابن من أبي طلحة يُكَنَّى أبا عمير، وكان يمازحه، فدخل عليه فرآه حزينًا، فقال: « » فقالوا: مات نُغْرُه [12] الذي كان يلعب به، قال: فجعل يقول: « » [13].
إنه لا يسخر من مشاعره، ولا يُسفِّه حزنه، بل يشاركه ويضاحكه، فإذا علمت أن هذا الطفل الصغير ما هو إلا أَخٌ لخادم يخدم رسول الله اطَّلعت على قدر الرحمة والتواضع الذين كانا في قلبه.
وكان رسول الله يولي أهمية خاصة لرعاية البنات، وذلك لعلمه أن قلوب الناس تميل بشكل أكبر للذكور من الأولاد، وخاصة في هذه البيئة العربية، فكان يُعظِّم جدًا من أجر الذي يربيهنَّ.. قال رسول الله: « » [14].
وكان من رحمته بالأطفال أنه لا يكلفهم ما لا يطيقون، وقد جاءه أطفالٌ يوم أُحُدٍ يريدون الخروج معه للقتال فرَدَّهم لصغر سنهم، وكان منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وسعد بن حبة، وغيرهم[15].
وقارن هذا بالأعداد الهائلة للأطفال التي تستخدم الآن في الحروب في بقاع كثيرة من العالم.. فقد ذكرت هيئة الأمم المتحدة أن هناك أكثر من ثلاثمائة ألف طفل مجنَّد في عشرين دولة يمارسون القتال بالإكراه [16]!!
ولم تكن مواقف اهتمامه ورحمته للأطفال بالمواقف العابرة التي تحدث على فترات متباعدة، بل كانت متكررة جدًا، لدرجة أن الأطفال كانوا دائمًا في استقباله إذا جاء من سفر ليلاعبهم ويداعبهم، وكأنه ليس أمامه من الهموم والمشاغل غيرهم! يقول عبد الله بن جعفر بن أبي طالب [17]: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِصِبْيَانِ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ: وَإِنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَسُبِقَ بِي إِلَيْهِ فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ قَالَ: فَأُدْخِلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلاثَةً عَلَى دَابَّةٍ" [18].
وتخيل هذا المشهد، وقائد الدولة يدخل مدينته، وهو يركب دابته وقد حمل طفلاً وأردف آخر خلفه!!
بل إنه عندما دخل مكة فاتحًا استُقْبِل أيضًا بالأطفال، فلم يمنعه الموقف المهيب، ولا الوضع العسكري الخطير، من أن يتلطف معهم، بل ويحملهم! يقول عبد الله بن عباس: "لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ مَكَّةَ اسْتَقْبَلَتْهُ أُغَيْلِمَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَآخَرَ خَلْفَهُ!" [19].
هذه كانت رحمته بالأطفال..
وإذا كانت كل هذه الرحمة بعموم الأطفال، فلا شك أن رعايته للأطفال اليتامى كانت أعظم وأشد..
فمن أقواله وهو يشجع المسلمين على رعاية اليتامى.. قال: « » [20].
وقال أيضًا: « » [21].
وأتى رجل إلى النبي يشكو قسوة قلبه، قال رسول الله: « » [22].
ويحذر رسول الله من ظلم اليتامى، أو استغلال ضعفهم، وأكل أموالهم، فيقول: « » [23].
بل إنه يفكر في مستقبل اليتيم بصورة عملية، ويخشى على ماله أن تأكله الزكاة، أو يقل نتيجة اختلاف القيمة مع مرور الزمان، فيقول في رحمة ظاهرة: « » [24].
كان هذا طرفًا من رحمته بالأطفال، ومن أراد الزيادة فليعد إلى كُتُبِ الصِّحاح والسنن وغيرها من كتب الحديث، فحَصْرُ ذلك جد عسير.. وصدق الذي قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
-----------------------------------
[1] كارين آرمسترونج (كاتبة بريطانية): سيرة النبي محمد ـ كتاب سطور 1998 ( ترجمة: فاطمة نصر، محمد عناني)
[2] دراسة تعزيز حقوق الأطفال، ص 20.
[3] مسلم: كتاب الفضائل، باب رحمته بالصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك (2316)، وأحمد (12123)، وابن حبان (6950)، وأبو يعلى (4192)، والبيهقي في شعب الإيمان (11011).
[4] الأقرع بن حابس هو: ابن عقال التميمي المجاشعي الدرامي، وفد على النبي، وشهد فتح مكة وحُنينًا والطائف، وهو من المؤلفة قلوبهم، وقد حَسُنَ إسلامُه. شهد فتح العراق وفتح الأنبار وكان على مقدمة خالد بن الوليد. الاستيعاب1/193، أسد الغابة1/149، الإصابة: الترجمة (229).
[5] البخاري كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (5651)، ومسلم: كناب الفضائل باب رحمته بالصبيان والعيال.. (2318)، وأبو داود (5218)، والترمذي (1911)، وأحمد (7121).
[6] البخاري: كتاب أبواب سترة المصلي، باب إذا حمل جارية على عنقه في الصلاة (494)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب جواز حمل الصبيان في الصلاة (543)، وأبو داود (917)، وأحمد (22577)، ومالك في الموطأ برواية يحيى الليثي (410)، وبرواية محمد ابن الحسن الشيباني (287)، والدارمي 1359)
[7] شداد بن الهاد، واسم الهاد: أسامة بن عمرو وسمي كذلك لأنه كان يوقد النار ليلاً للأضياف. شهد الخندق وسكن المدينة، وتحول إلى الكوفة، وله رواية عن النبيعن ابن مسعود. انظر الإصابة (3856)، أسد الغابة: (2/374).
[8] النسائي (1141)، وأحمد (27688)، الحاكم (4775)، وصححه ووافقه الذهبي، وابن خزيمة (936)، وابن حبان (2805)، واستدل به الألباني في إطالة الركوع. انظر: صفة صلاة النبي للألباني ص148.
[9] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب من أَخَفَّ الصلاة عند بكاء الصبي (677)، وابن ماجة (989)، وابن خزيمة (1610)، وابن حبان (2139)، وأبو يعلى (3144)، والبيهقي في شعب الإيمان (11054).
[10] البخاري: كتاب الأدب باب وضع الصبي على الفخذ (5657)، وأحمد (21835)، وابن حبان (6961)، والنسائي في سننه الكبرى (8184).
[11] أم سُلَيْم اسمها سهلة، ويقال: الغُمَيْصاء. كانت تحت مالك بن النضر أبي أنس بن مالك في الجاهلية. فولدت له أنس بن مالك، فلما جاء الله بالإسلام أسلمت مع قومها، ثم تزوجت بعده أبو طلحة الأنصاري، وتوفيت في حدود 40هـ في خلافة معاوية. الإصابة الترجمة (12066).
[12] طائر صغير يشبه العصفور منقاره أحمر.
[13] البخاري: كتاب الأدب، باب الكُنْيَة للصبي وقبل أن يولد للرجل (5850)، ومسلم: كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته (2150)، وأبو داود (4969)، والترمذي (333).
[14] مسلم: كتاب البر والصلة والأدب، باب الإحسان إلى البنات (2631)، واللفظ له، والترمذي (1914)، والحاكم (7350)، والبخاري في الأدب المفرد (894).
[15] صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم ص228.
[16] تقرير الحالة الاجتماعية الصادر عن الأمم المتحدة 2005، ص121.
[17] عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي: أول من وُلِدَ بأرض الحبشة من المسلمين لما هاجر أبواه إليها (1هـ- 80هـ)، وأتى البصرة والكوفة والشام، وكان كريما يُسمَّى بحر الجود، وللشعراء فيه مدائح. أسد الغابة 3/93، الأعلام للزركلي 4/76.
[18] مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن جعفر { (2428)، والبيهقي في سننه الكبرى (10154)، والنسائي في سننه الكبرى (4246).
[19] البخاري كتاب أبواب العمرة، باب استقبال الحاج القادمين والثلاثة على الدابة (1704)، وأبو داود (1940)، والنسائي (3064)، وابن ماجة (3025)، وأحمد (2842)، وابن حبان (3869).
[20] البخاري: كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيمًا (5659)، وأبو داود (5150)، والترمذي (1918)، وأحمد (22871)، وابن حبان (460).
[21] أحمد (19047)، والبخاري في الأدب المفرد (78)، والطبراني في الكبير (670)، وأبو يعلي (926)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى والسياق له وأحمد باختصار والطبراني وهو حسن الإسناد، مجمع الزوائد 8/294، وصححه الألباني انظر: صحيح الترغيب 2/676.
[22] الطبراني وحسنه الألباني. انظر: صحيح الترغيب والترهيب 2/676.
[23] البخاري: كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا} [النساء:10] (2615)، ومسلم في الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها (89)، وأبو داود (2874)، والنسائي (3671)، وابن حبان (5561).
[24] الترمذي (641)، ومالك في الموطأ برواية يحيى الليثي (329)، والبيهقي في سننه الكبرى (10764)،
تمت الاضافة
- التصنيف:
- المصدر: