(وسط الصخور.. قد تخرج النبتة الخضراء)!
وأنهى الشاب القروي المرحلة الثانوية، وصار على أعتاب مرحلة جديدة مختلفة تمامًا عن كل ما سبقها.. لقد جاءه خطاب مكتب التنسيق، وصار بالفعل طالبًا جامعيًا..
وكما هي الحال مع كل جديد.. إقدام وإحجام.. رغبة ورهبة.. مشاعر متناقضة صارت تقض مضجعه، لا سيما بعد تلك الجلسة مع من سبقوه إلى الجامعة بعام وأكثر، حيث أجمعوا كلهم على رسم صورة للجامعة أقل ما فيها أنها "وكر"!
كانت عينه تُحملِق، والدموع متحجِّرة في المآقي؛ فهم لم يكونوا حاكين على سبيل التحذير والنصيحة، بل على سبيل "دنت هتروق، وتعيش..وتشوف اللي عمرك ما شفته!"..
وانتفض من بينهم مذعورًا، لا.. لستم أنتم من أعرف من قبل.. ما الذي غيركم هكذا؟!
ما هذه القصات الغريبة التي شوهت وجوهكم؟!
ما هذه المفردات العجيبة التي لوثت لهجتكم؟!
ما الذي طمس فطرتكم يا أبناء القرية؟!
وبينما هو يعطيهم ظهره، إذ مرّ الأخ/ فلان، الذي يكبره بعامين، ورُبِّيَ معه في المسجد وحلق القرآن.. لكنه -ويا للحسرة- تغير كثيرًا.. إنه لم يعد حتى يدخل المسجد!
ويسمع الخبثاء يتهامسون: "يا بخته.. ماشي مع بت صارووووخ!"
لم يتحمل صاحبنا الصدمة.. معقول؟! فلان؟! أهذا الذي غيره إذًا؟! أهذا الذي أبعده؟! أوهكذا الجامعة؟!
ويهرع لشيخه تسابقه أنفاسه..بصوت يقطعه الألم، وعين يملؤها الذعر، قص عليه القصص..
ويثبت الشيخ عينه المطمئنة في عين صاحبنا المذعورة، ويمسك بكفه الحانية كفه المرتعشة.. وينطق بصوت ما زالت نبرة الثقة فيه تجلجل في كيانه:
"إن صدقت، فستحصل في الجامعة إيمانيات لن تحصلها في أي مكان آخر"!
وينفض صاحبنا رأسه، كأنما يستوثق الكلام من شيخه، فيُكرِّره عليه مرة أخرى بنفس النبرة الواثقة!
وسكنت الكلمات قلب الشاب، لا يدري لم تفاءل بها كثيرًا، مع أنه لم يكن مقتنِعًا تمام الاقتناع، لا سيما وشيخه نفسه لطالما منعه من رحلات المصيف، حتى بلغ هذا السن ولم ير البحر بعد!
ومع أول يوم في الدراسة، يدخل القروي الجامعة، متوضئًا، مصحفه في جيبه، نظره لا يفارق طرف حذائه!
أصوات ضحكات منكرة تصم أذنه من هنا وهناك.. وهو من تعود كل صباح على سلام الطيبين من أهل قريته ودعواتهم بالتوفيق، و تمنية أنفسهم بـ (حلاوة النجاح)، التي لا تعدو غالبًا (إزازة حاجة ساقعة)!
روائح تزكم أنفه -وإن كانت غالية الثمن-؛ فقد تعود على نسيم الصباح آت من الحقول، معطر بالندى..
وأمضى صاحبنا أيامه في الجامعة، متعرِّفًا عليها بالسمع والشم، أما النظر فما عرف منها إلا (طرف حذائه)!
كان كمقاتل يخفض رأسه في خندقه؛ فرفعه يعني سهمًا صائبًا من نظرة وقحة، سترديه -لا شك- قتيلًا!
وبدأت النبتة الخضراء تشق طريقها وسط الصخور، وبدأت نبوءة شيخه تزداد أمام عينه وضوحًا مع الأيام..
أي شعور بالحفظ الرباني وصرف السوء، وهو يتوجه لمسجد الجامعة مخترقًا الطريق الذي يتساقط على جانبيه حائرون مساكين، ظنوا أنفسهم عاشقين مخلصين!
يا لها من لحظات عاشها، حين تأخر (السكشن العملي) وذهب للمسجد فوقف في باحته ليرفع أذان العشاء..
ويسمع رجع الصدى، كأنما تلك المباني تسارع لترديد الأذان خلفه، متطهِّرة من آثام النهار التي لوثتها، وما لها من ذنب إلا أنها داخل (الحرم الجامعي)!
سمع أحدهم في المعمل -اللي كان نصه حكاوي! يومًا يحكي مفتخرًا في جرأة فاجرة: "ولقيت البت صدقت نفسها، بتقولي: انت ناوي تجوزني فعلًا؟!.. قلبتها يا عم.. هو أنا بتاع جواز، ولا هجوز واحدة زيها؟!"
فيقاطعه في شفقة ممزوجة بغيظ: "وانت فاكر يعني هتقطع السمكة وديلها، وبعد كده ربنا يرزقك بعفيفة محترمة، زيك زي واحد بيخاف ربنا؟!"
ليرد عليه في نبرة متوددة متهكمة: "أنتم غلابة ياعم الشيخ..مش عايشين"!
لا يدري لم تأثر جدًا بهذه الكلمة، حتى فوجئ من كان يتابع الحوار بدموع تترقرق على خد صاحبنا، وهو يقول: "أتظننا نحمل في صدورنا حجارة، لا قلوبًا تشتهي ما تشتهون؟!
أتظننا نغض أبصارنا من تلقاء أنفسنا؟! لا والله، ما هو إلا محض حفظ وصرف للسوء من أرحم الراحمين.. ولو صدقتَ، لتكونن خيرًا من ملء الأرض من أمثالي.. ولولا الله لكنتُ أفجر خلقه جميعًا"..
وسارع الثاني معتذرًا متأسِّفًا، متأثرًا على ما يبدو بالكلام: "إيه يا شيخ أنت زعلت ليه كده؟! والله ما أقصد".
ويحاول صاحبنا رسم بسمة وسط الدموع، لينطق بما لا يدري كيف قاله: "وبكرة تشوف.. إني بإذن الله أول واحد هيتجوز في الدفعة دي"!
لم يخطر بباله ساعتها أن يتحقق له ما قال؛ فهو كان مازحًا لينهي الحوار، ولم يمرّ أسبوع حتى وجد نفسه -لأول مرة- يرفع الدعاء لأكرم الأكرمين بزوجة صالحة بعد سحوره في رمضان.. في لحظة نورانية أحسّ قلبه فيها بالاستجابة!
وها هو صاحبنا يدخل الجامعة، ليتسلم نتيجة التخرج.. لكن هذه المرة كانت زوجته في يده!
عقد عليها منذ بضعة أشهر.. وكأنه يسمع تلك المباني التي ردَّدت خلفه الأذان، تنادي عليهما فرحة: "بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير".
وكان التوفيق من الله، لقد نجح، وتخرج.. لا تسل عن الفرحة في قلبيهما ساعتها؛ فتخرجه مؤذن بتحديد موعد "الدخلة"...
لقد كانت كلمات الشيخ تحولًا جذريًا في نظرة صاحبنا لكثير من الأمور في حياته حتى بعد الجامعة.. فوسط الصخور قد تخرج النبتة الخضراء!
إنه الآن يشتاق لـ (إيمانيات) الجامعة.. لقد فتر بعدها كثيرًا!
- التصنيف: