صقور القوقاز
محمد العبدة
كيف استطاع هؤلاء وأمثالهم في العالم الإسلامي الانتصار على دول كبرى بعددها وعدتها، وإن هزموا بعدئذ بسبب التفوق التقني الغربي، فليس هناك إلا جواب واحد: أنها أمة سليمة الإيمان، نقية الجوهر لم يتم بعد تغريبها ولا تدجينها
- التصنيفات: التاريخ والقصص - التاريخ الإسلامي -
«يا شامل! جياد غريبة تشرب من ينابيعنا ،وأناس غرباء يطفئون قناديلنا ،فهل تمتطي صهوة جوادك ،أو نساعدك على ذلك؟»
(شاعر من داغستان)
على الضفة الغربية من بحر الخزر (قزوين) تقع داغستان بجبالها الشاهقة، وأنهارها السريعة، ولغاتها المختلفة، وأعراقها الكثيرة على صغر مساحتها وقلة سكانها. دخل الإسلام مبكراً إلى هذه البلاد، فقد تم فتح أرمينية وأذربيجان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ستة 20 هـ. ومن القواد الفاتحين: سراقة بن عمرو، وسلمان بن ربيعة الباهلي، وكانوا يسمون داغستان (باب الأبواب) وكأنها مركز ومدخل لفتح بقية بلدان القفقاس، وفي عام 105 هـ تم الفتح الإسلامي على يد مسلمة بن عبد الملك.
انتشر الإسلام بين شعوب هذه المنطقة، وتعايشت مع الدول الإسلامية المتعاقبة، وفي القرن السادس طمع الروس في الاستيلاء على داغستان فلم يفلحوا ووجدوا مقاومة شديدة. وفي عام 1722م أعادوا الكرة، وساق بطرس الأكبر جيشاً استولى فيه على سائر السواحل الغربية لبحر الخزر، ولكن نادر شاه ملك إيران استرجع هذه المناطق من الروس، وفي عام 1813م رجع الروس للمرة الثالثة واستطاعوا السيطرة على داغستان وما جاورها.
تخلى المسلمون (الدولة العثمانية وغيرها من الدول القائمة يومئذ) عن مساعدة داغستان واستسلم أمراء البلاد للحكومة الروسية، عندئذ ثار الشعب على الروس وعلى الأمراء وتولى قيادة المقاومة العلماء وتلامذتهم، وكأنهم سبقوا سائر المسلمين في معرفة أن ضررهم هو من حكامهم الذين يبيعون حقوق الأمة بلقب أو لذة فارغة، قام العلماء بالإصلاح الداخلي أولاً، وهو أن تكون المعاملات وفقاً للشريعة، وتزعم تلك الحركة القاضي محمد الذي لقب بعدئذ ب "الغازي".
استطاع غازي محمد السيطرة على قبائل (الآفاريين) وامتدت دولته إلى الشيشان، وانتصر على الروس في عدة مواقع وكان من مساعديه المقربين الشيخ شامل الذي اشتهر بصرامته وإخلاصه. في قرية (غمرى) حوصر غازي محمد ورجاله، وبعد استشهاد عدد من المجاهدين قال لشامل: سيقتلوننا جميعاً دون أن نسبب خسارة للكفار، الأفضل أن نخرج ونقاتل، وعندما اندفع خارجاً سقط برصاص العدو، ورأى شامل جنديين واقفين في مواجهة الباب، وبلمحة بصر قفز خارجاً من الباب فاستدار الجنديان، ولكن شامل قطعهما بالسيف وشق شامل طريقه بين حراب الأعداء بعد أن جُرح خمسة عشر جرحاً، والتجأ إلى الجبال.
بعد استشهاد غازي محمد التف الداغستانيون حول نائبه حمزة بك الذي استشهد بعد ذلك بسنتين في مدينة (خونزاخ) فتولى القيادة الشيخ شامل. ولد شامل في قرية (غمرى) عام 1797م يقول متحدثاً عن حاله:
(وأنا ذاتي، من أكون؟ ابن بستاني من قرية غمرى البعيدة، كنت في صغري في غاية الضعف الجسماني، وبعد احتلال الأعداء لبلدي نسيت كل شيء وأصبح قتالهم أكبر همي ....).
قاتل الشيخ شامل الروس لمدة خمس وعشرين سنة 1834-1859 ومعه آلاف المجاهدين من داغستان والشيشان ، وفي حصار (آخولغو) خسر الروس ثلاثة آلاف قتيل، وفي عام 1839 م اندلعت الثورة في الشيشان وأعلنت قراها القريبة من داغستان خضوعها للشيخ شامل. حاول الجنرال (غالفييف) معاقبة الشيشانيين ولكنه تعرض لهزيمة منكرة. وفي عام 1843م افتتح شامل جميع الحصون التي كانت مع الروس، وغنم منهم (35 مدفعاً)، وأعتاداً حربية ومؤناً كثيرة وأخذ عدداً من الأسرى. وفي مدينة (فيدنو)عمل شامل على تطوير الصناعة الحربية وخاصة صناعة المدافع، كما أنشأ مصنعاً للذخيرة في (غونيب).
وفي هذه المعارك الطاحنة مع الروس أُسر ولده عبد الرحمن، ولكن الشيخ استطاع أسر أميرات من جورجيا ليبادل الروس بابنه عبد الرحمن، وفي الأعوام التالية: 1854-1856، وضعت روسيا كل إمكاناتها الحربية في قتال الشيخ الشيخ شامل، ونظم الشعراء الروس القصائد في وصف تلك الحروب، وما زالت روسيا توالي الزحوف وتستولي على الحصون حتى اضطر الشيخ للالتجاء إلى الجبال وفتح معارك صغيرة مع الروس، وفي قرية (غونيب) الجبلية المرتفعة تحصن الشيخ بعدد محدود من المجاهدين، وجاء الأمير (باريا تينسكي) لداغستان وكلف العقيد (لازاريف) بإجراء الصلح مع شامل، ودعوته للاستسلام، ولم يكن الشيخ ينتظر أي مساعدة من العالم الإسلامي -كان واقعياً طوال حياته- وكانت خطة الروس حرق الغابات وأوامر القيصر تقول: "خَرَّب عشش الصقور، وانتف أجنحة الصقور حتى لا تستطيع الطيران".
قاتل الشيخ حتى آخر لحظة، ولم يبق في القلعة سوى ثلاثمائة شخص، وقاتلت النساء. تردد الشيخ شامل في الاستسلام وقبول الشروط، ولكن العقيد (لازاريف) استطاع الوصول إلى مقر الشيخ وحياه قائلاً: "شامل! العالم كله يعرف مآثرك، والمجد الذي أحاط بشخصك، وعليك أن تخرج لمقابلة القائد الأعلى، وخرج البطل من قريته محاطاً بثلة من المجاهدين، ترجّل الإمام شامل عن ظهر جواده، كان يلبس إزاراً أخضر، وعلى رأسه عمامة بيضاء، ووقف أمام (باريا تينسكي) ووضع يده اليمني على مقبض سيفه، وألقى نظرة على جبال داغستان وقال: "أيها السردار (النائب) لقد حاربت خمساً وعشرين سنة أدافع عن وطني، جراحي تؤلمني، ولن تلتئم أبداً". كان ذلك في شهر أغسطس عام 1859م وفي عام 1870 م تلقى شامل الإذن بالرحيل إلى مكة، فتوجه إليها مع أفراد أسرته، وبعد أحد عشر شهراً من وصوله توفى في المدينة النبوية.
كيف استطاع هؤلاء وأمثالهم في العالم الإسلامي الانتصار على دول كبرى بعددها وعدتها، وإن هزموا بعدئذ بسبب التفوق التقني الغربي، فليس هناك إلا جواب واحد: أنها أمة سليمة الإيمان، نقية الجوهر لم يتم بعد تغريبها ولا تدجينها، كانت القيادة للنخبة التي أعطاها المجتمع مقاليده. رحم الله الشيخ شامل وبارك في جهاده.
نقلاً عن كتاب "وذكرهم بأيام الله ""ص49-53 والكتاب هو كتاب المنتدى الإسلامي رقم 40.
بقلم د.محمد العبدة