قوت القلوب
خالد سعد النجار
القلوب بأنوارها الإيمانية لا بضرباتها العضلية، ونور القلوب هو محك الإيمان وهمّ أهل الإحسان، فبنور القلب تضيء الحياة كلها...
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
القلوب بأنوارها الإيمانية لا بضرباتها العضلية، ونور القلوب هو محك الإيمان وهمّ أهل الإحسان، فبنور القلب تضيء الحياة كلها، ولما كانت الحكمة من أجلِّ مفاتيح استنارة القلوب حرص عليها الأخيار وتتبعها الفضلاء في كل زمان ومكان، فهي الكنز الثمين الذي تشد له الرحال ويبذل فيه الغالي والنفيس، فسعادة القلب المستنير لا يعدلها سعادة، وهداية القلوب أعظم هداية، فاللهم نوّر بالحق قلوبنا، وثبتنا على الحق المبين.
أجمل خريطة للدنيا هي التي رسمها مهندسو الحكماء الذين يعرفون الفرق الحقيقي بين العمران والخراب، وبين متين الأساس ومن شيد على شفا جرف هار، مهندسون خبرتهم منبثقة من التجارب، وبصيرتهم استنارت من مشكاة الحكمة، وهم أجدر الناس على وصف الطريق، وتحديد علاماته وعقباته.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: "من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر.
ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]. تغلبك نفسك على ما تظن، ولا تغلبها على ما تستيقن. أعجب العجائب: سرورك بغرورك، وسهوك في لهوك، عما قد خبئ لك. تغتر بصحتك وتنسى دنو السقم، وتفرح بعافيتك غافلاً عن قرب الألم. لقد أراك مصرع غيرك مصرعك، وأبدى مضجع سواك -قبل الممات- مضجعك. وقد شغلك نيل لذاتك، عن ذكر خراب ذاتك:
كأنّك لم تسمع بأخبار من مضى... ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر! فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم... محاها مجال الرّيح بعدك والقبر! كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده، حتى نزل! (أي نزل إيمانه ودرجته) وكم شاهدت والي قصر، وليّه عدوّه لما عُزل!
فيا من كل لحظة إلى هذا يسري، وفعله فعل من لا يفهم ولا يدري...
كيف تنام العين وهي قريرة، ولم تدر من أيّ المحلين تنزل؟" (صيد الخاطر).
فقوله رحمه الله: "وكم شاهدت والي قصر، وليّه عدوّه لما عُزل!"، فهذا من نكد الدنيا، فالنفس تفرح بالمنصب وحين يعزل صاحبها تحس بمرارة أضعاف لذة وفرحة يوم توليه.
قال سليمان بن يزيد العدوي:
عَجَبًا لأَمْنِكَ وَالْحَيَاةُ قَصِيرَةٌ * وَلِفَقْدِ إِلْفٍ لا تَزَالُ تَرَوَّعُ
أَفَقَدْ رَضِيتَ بِأَنْ تُعَلَّلَ بِالْمُنَى * وَإِلَى الْمَنِيَّةِ كُلُّ يَوْمٍ تُدْفَعُ
لا تَخْدَعَنَّكَ بَعْدَ طُولِ تَجَارِبٍ * دُنْيَا تَكَشَّفُ لِلْبَلاءِ وَتَصْرَعُ
أَحْلامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ * إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لا يُخْدَعُ
وَتَزَوَّدَنَّ لِيَوْمِ فَقْرِكَ دَائِبًا * أَلِغَيْرِ نَفْسِكَ لا أَبَا لَكَ تَجْمَعُ
وخير الفرح: الفرح بالفضائل وإن زهد فيها الناس، وتكالبوا على الدينار والدرهم، واستعاضوا بالفاني عن الباقي، فمن لم يجد متعته في الخيرات فلن يجدها في الشهوات والملذات.
قال ابن عباد صاحب الوزارتين: "ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوة تعدل حلاوة الوزارة حتى حضرت مجلسا لأبي القاسم الطبراني وأبي بكر الجعابي فدارت بينهما مناظرة، فكان الطبراني يغلبه بحفظه والجعابي يغلبه بدهائه، ولم يفصل لأحدهما على الآخر، حتى قال أبو بكر الجعابي: عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي.
قال له الطبراني: وما هو؟
قال: حدثنا أبو أحمد الحاكم حدثنا سليمان بن أحمد... وساق حديثا، فقال له الطبراني: أنا سليمان بن أحمد.. خذه مني عاليا!
قال: فخجل الجعابي .. ووددتُ أنه لم تكن لي الوزارة، وأني فرحت كفرح الطبراني".
ومن شؤم العبد أن يأتي ربه يوم القيامة وقلبه خالي الوفاض من نور الإيمان، فأمثال هؤلاء في شدة من حسابهم كما كانوا في الدنيا في شدة شهواتهم، فظلمة القلب عُسرة لا تدانيها عسرة، وشدة لا تشابهها شدة.
قال تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد:18] قال إبراهيم النخعي: "سُوء الحساب: أن يحاسبَ الرجلُ بذنبه كلّه لا يغفر له منه شيء".
وعن صفوان بن محرز المازني، قال: بينما أنا أمشي مع ابن عمر، آخذٌ بيده، إذ عرض رجلٌ فقال: "كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى؟" فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: « » (البخاري).
قال الغزالي رحمه الله تعالى: وهذا إنما يرجى لعبد مؤمن، ستر على الناس عيوبهم، واحتمل في حق نفسه تقصيرهم، ولم يذكرهم في غيبتهم بما يكرهون، فهو جدير بأن يجازى بذلك.