عاطفة الأمومة... كيف رآها الإسلام

منذ 2014-04-18

تفني هذه الأم جسدها ليكبر وينمو ولدها، فلا يكتفي الولد بمشاركة أمه لغذائها في بطنها، بل يشاركها الغذاء بعد الولادة عن طريق الرضاع، تزيل الأذى من جسد ولدها وهو صغير دون أن تتذمر أو تتأفف، وإذا أصابه مرض أو علة في يوم من الأيام، كانت هي العليلة والسقيمة من الشفقة عليه، فليس في الدنيا مخلوق يدعو الله أن يعطي الغير من صحته للآخر ومن حياته لسعادته إلا الأم، و هكذا تبقى حتى يكبر الولد ويبلغ أشده.

كبير ذلك القلب الذي تحمله الأم، وعظيمة تلك المشاعر والأحاسيس التي أودعها الله فيه، والتي من خلالها تصبر على حمل الولد في بطنها تسعة أشهر، تعاني من آلام الوحام والتغير العضوي ما تعاني، يمتص الجنين من جسدها الغذاء ليحيا ويكبر، فإذا ما حان وقت خروجه لهذه الدنيا، عانت في ولادته ووضعه أضعاف ما كانت تعاني أيام الحمل، فإذا ما رأته بعد كل تلك الآلام احتضنته متناسية كل أوجاعها.


تفني هذه الأم جسدها ليكبر وينمو ولدها، فلا يكتفي الولد بمشاركة أمه لغذائها في بطنها، بل يشاركها الغذاء بعد الولادة عن طريق الرضاع، تزيل الأذى من جسد ولدها وهو صغير دون أن تتذمر أو تتأفف، وإذا أصابه مرض أو علة في يوم من الأيام، كانت هي العليلة والسقيمة من الشفقة عليه، فليس في الدنيا مخلوق يدعو الله أن يعطي الغير من صحته للآخر ومن حياته لسعادته إلا الأم، و هكذا تبقى حتى يكبر الولد ويبلغ أشده.


مسكين ذلك الولد الذي لا يدرك مكانة الأم و حقوقها عليه بعد كل هذا العطاء المتفاني، فإذا بنا نسمع في هذا الزمان أو نرى أولادًا لم يكتفوا بعدم البر والإحسان لهذه الأم، بل زادوا على ذلك بالإيذاء والتأفف والتذمر والعقوق، رغم النصوص الشرعية الكثيرة التي تحذر من عواقب العقوق ونتائجه الوخيمة في الدنيا قبل الآخرة.


إنها لمعجزة إلهية كبرى، تلك العواطف التي جبل الله عليها قلوب الأمهات والآباء، التي من شأنها استمرار عجلة الحياة التي لا تتوقف أبدًا، فبالرحمة والعاطفة والحنان المودع في قلب الأبوين -والأم خاصة- يستطيع الوالدين الصبر على تربية الأولاد، ولولا هذه العواطف والمشاعر والأحاسيس، لما تربى طفل ولما كبر رضيع أو شب صغير.


فتشت في كتاب الله تعالى عن عواطف الأم ومشاعرها تجاه ولدها، فإذا هي في أسمى صورها وأشكالها في قصة أم موسى عليه السلام، حيث يصور القرآن لنا تلك المشاعر التي كانت تجيش في قلبها، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]... {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص:10-11]... {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص:13]


في الآيات بيان عاطفة الأمومة الجياشة بالحب والحنان، المشوب بالخوف والخشية على موسى من القتل الذي فرضه فرعون على مواليد بني إسرائيل من الذكور عاما دون عام، قال ابن كثير في تفسيره: "فولد هارون عليه السلام في السنة التي يتركون فيها الولدان، وولد موسى عليه السلام في السنة التي يقتلون فيها الولدان، وكان لفرعون أناس موكلون بذلك، وقوابل يدرن على النساء فمن رأينها حملت أحصوا اسمها، فإذا كان وقت ولادتها لا يَقْبَلُها إلا نساء القبط، فإذا ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذبَّاحون، بأيديهم الشفار المرهفة، فقتلوه ومضوا قَبَّحَهُم الله" (تفسير ابن كثير: [6/222]).


لقد أمر الله تعالى أم موسى أن ترضعه ما استطاعت لذلك سبيلاً، فإن خافت عليه القتل والذبح، فلتضعه في التابوت وتلقيه في اليم، فكيف يمكن لأم أن ترمِ بولدها في البحر؟!! إنها إشارة إلى أنه لا يمكن لعاطفة في الكون أن تتغلب على عاطفة الأم، سوى تلك التي تتعلق بالإيمان بصدق الله تعالى لوعده إذا وعد، واليقين بقدرة الله تعالى على صنع المعجزات و تحقيق ما يظنه الإنسان من المستحيلات، أما غير ذلك فلا يمكن لعاطفة في الدنيا أن تعلو على مشاعر الأم وعواطفها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظيم ما وهب الله تعالى الأم من تلك العواطف والمشاعر تجاه أولادها، والتي جعلها الله تعالى قرينة الثقة بالله وبقدرته.


واسمع للتصوير القرآني لفؤاد أم موسى ومشاعرها و أحاسيسها، بعد أن نفذت أمر ربها، {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص:10] قال ابن كثير: "أي من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى، قاله ابن عباس ومجاهد وعِكْرِمة وسعيد بن جُبَيْر وأبو عبيدة والضحاك والحسن البصري وقتادة وغيرهم {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّ‌بَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10]، أي: إن كادت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لَتُظهر أنه ذهب لها ولد، وتخبر بحالها، لولا أن الله ثَبَّتها وصبَّرها" (تفسير ابن كثير: [6/223]).


لقد دفعت عاطفة الرحمة والحنان وشدة الوجد في فؤاد أم موسى، أن تطلق ابنتها لترقب وتلاحق أثر موسى عليه السلام، فبصرت به عن بعد وهم يبحثون عن مرضعة له، بعد أن رفض الرضاع من أي امرأة غير أمه، قال ابن كثير: "حرم الله عليه المراضع تحريما قدريًا، لأن الله تعالى جعل ذلك سببًا لرجوعه إلى أمه لترضعه -هذه المرة- وهي آمنة بعدما كانت خائفة" (تفسير ابن كثير: [6/223]).


لقد ذكر الله تعالى عاطفة الأم في مكان آخر، عندما استعطف هارون أخاه بعدم لومه وعتابه، بسبب تركه بني اسرائيل يصنعون العجل ليعبدوه من دون الله تعالى في غياب موسى عليه السلام لمناجاة ربه، مستخدما تذكيره بالأم مبعث العواطف الرحيمة والحنان والحب، مبررًا ما حدث بخوفه وخشيته من تفرق بني إسرائيل تارة، و أخرى بالاستضعاف وقلة الحيلة، قال تعالى على لسان هارون: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150].
وفي سورة طه: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا . أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي . قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:92-94]، فلفظ (ابن أم) فيه من الاستعطاف وطلب الرحمة، ما يذكر بعواطف الأمومة ومشاعرها.


وفي السنة النبوية الشريفة حديث لطيف وجميل، يظهر بجلاء عواطف الأمومة التي لا يمكن أن توازيها عاطفة بشرية أخرى، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: قُدِمَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بِسَبْيٍ، فَإِذا امرأةٌ مِن السَّبْيِ تَسعى قد تَحَلَّبَ ثَديُها، إِذا وجدت صَبيًا في السَّبي أَخَذَتْه، فألْزَقَتْه ببطنها فأرضعتْه، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «أَتَرَونَ هذه المرأَةَ طارِحَة ولدها في النار؟» قلنا: لا والله ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «الله أرحَمُ بعباده من هذه المرأة بوَلَدِها»  (صحيح البخاري: [9/8] برقم [2625])
والشاهد في هذا الحديث هو اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لعاطفة الأمومة ورحمتها وحنانها، ليقرب من خلالها إلى أذهان الناس سعة رحمة الله تعالى بعباده، وعفوه ومغفرته وتجاوزه عن سيئاتهم إذا هم تابوا وأنابوا، وفي ذلك رفع لمنزلة تلك العاطفة فوق كل عاطفة، وأنه ليس أعظم من عاطفة الأم ورحمتها وحنانها على أولادها سوى رحمة الله تعالى بعباده.
بعد كل عواطف الأمومة هذه، هل يمكن أن يكون جزاؤها من أولادها إلا الإقرار بالعرفان ورد الجميل ما استطاعوا لذلك سبيلًا، فإن مكافئة الأم على ما قدمت لأبنائها من الصعوبة بمكان، ولا يمكن أن يدركه أحد، ولكن وكما يقال ما لا يدرك كله لا يترك كله، ورحم الله تعالى الشيخ علي الطنطاوي الذي يقول: "لو أنصف الأبناء لما تركوا أمهاتهم يمشين على الأرض، ولغسلوا أرجلهم بدموع عيونهم".

 

 

عامر الهوشان

  • 7
  • 0
  • 18,694

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً