العبودية أساس طهارة القلوب
العبادة لله سبحانه بغير استعانة به هي عبادة ناقصة؛ لأنها قد تفضي بالإنسان أن يفرح بعمله ويعجب به، ولأنها تفرغ القلب من مقام الاستعانة والتوكل، وهو مقام لا تكتمل حياة القلب إلا به.
- التصنيفات: تزكية النفس -
العبادة أساس كبير من أسس طهارة القلب وزكاته، ذلك أنها هي التطبيق العملي لجميع المعلومات النظرية التي يتلقاها القلب والعقل، ولا طريق للتطبيق العملي غيرها؛ فإما أنْ يعمل العبد بما علم فيحسن عمله فتقبل منه عبادته ويرقَى في مقامه عند ربه، وإما ألا يعمل بما علم أو يعمل فيسيء عملَه.
قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، وقال سبحانه: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ۖ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة:53].
فأنت ترى في تلك الآيات السابقات قومًا أرادوا تقديم الأعمال لله، ولكنها لم تُقبل منهم رغم جلال هذه الأعمال وعِظَمها، ولكن الله ردها عليهم؛ لأنها لم تكن كما يرضى الله سبحانه ويحب، فالله وحده هو سبحانه الذي يقبل العبادة أو لا يقبلها.
وثمة مقياسان لقبول العبادة أو ردّها علَّمه لنا الإسلام، هما: الإخلاص لله، والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم. كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
والعابد الذي يرجو أن يتقبل الله عمله لابد أن يتحرى الدقة كاملة في هذا المقياس، وإلا صار عمله ضائعًا، وجهده مردودًا عليه، قال الله تعالى عمن عبد ولم يُخْلص: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
والعبادة لله سبحانه فضل منه سبحانه، ونعمة منه عز وجل وتكرُّم وجُودٌ، وهي ليست باجتهاد إنساني أو نشاط جسدي فحسب؛ فإن ذلك بدون أن ينعم الله عليك بأن تعبده ويوفِّقك لعبادته، فأنت فقير إلى ذلك. لهذا كان من أفضل ما يُسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته ، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: «
» (أخرجه أبو داود [1522]، والنسائي [1302]).وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تأملت أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال الله العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}". (تهذيب مدارج السالكين).
والعبادة لله سبحانه بغير استعانة به سبحانه هي عبادة ناقصة؛ لأنها قد تفضي بالإنسان أن يفرح بعمله ويعجب به، ولأنها تفرغ القلب من مقام الاستعانة والتوكل، وهو مقام لا تكتمل حياة القلب إلا به.
فيجب على المؤمن إذا عبد ربه سبحانه أن يستعينه ويتوكل عليه في عبادته له، وإلا نقصت عبادته، إذ إنه سبحانه هو الموفِّق لطاعته.
وأهل الإخلاص لله سبحانه والمتابعة لنبيه صلى الله عليه وسلم أعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، فمعاملتهم ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاءً ولا شكورًا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم، ولا هربًا من ذمهم، بل قد عدّوا الناس بمنزلة الموتى أصحاب القبور لا يملكون لهم ضرًّا ولا نفعًا.
قال الفضيل بن عياض: "العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه"، قالوا: وما أخلصه وأصوبه؟ قال: "إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكون صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل حتى يكون خالصًا وصوابًا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السُّنَّة". (جامع العلوم والحكم).
ومِن الناس مَن هو مخلص في عمله، لكنه غير متَّبع للسُّنة في عبادته، والسبب في ذلك جهله، فَيَرُدُّ عليه عمله.
وللأسف الشديد؛ فإن كثيرًا من العباد قد يُخْلِصون لله سبحانه في أعمالهم، ولكنهم يقعون في مخالفة سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيبتدعون في دين الله ما ليس منه ويخترعون العبادات، قال ابن القيم رحمه الله: "وكل مَن عَبَدَ الله بغير أمره، واعتقد عبادته هذه قربة؛ فهو في ضلال، كمَن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة، وأن الخلوة التي تضيع الواجبات عبادة، وأن ذِكْر الله بالاسم المفرد عبادة، وأن مواصلة صوم النهار بالليل عبادة، إلى غير ذلك مما يفعله الجاهلون". (مدارج السالكين).
وقد يظن بعض الناس أن أفضل العبادة أشقها على الإنسان وأصعبها عليه، ويظن آخرون أنَّ أفضلها ما كان فيه نفع للعبد نفسه، وقال آخرون: "بل أفضل العبادة ما كان فيه نفع للآخرين"، يقول ابن القيم رحمه الله: "أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بمقتضى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد هو الجهاد في سبيل الله، وإنْ آلَ إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، والأفضل في وقت حضور الضيف مثلًا: القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، والأفضل في وقت السَّحَر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار". (مدارج السالكين).
والعبادة شطران: شطرٌ محبة لله سبحانه، وشطرٌ ذل له عز وجل.
فأما الشطر الأول وهو المحبة لله سبحانه فمعناه: أن يكون الحب كله لله سبحانه، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب المؤمن أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه؛ فمحبتنا لهم من تمام محبته سبحانه وتعالى، وليست محبة معه، أما محبة الفساق فقد قال الله عنها: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ ۖ} [البقرة:165]، ومحبة الله سبحانه إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله عَلَمًا عليها وشاهدًا على مَن ادَّعاها، فقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ} [آل عمران:31].
وأما الشطر الثاني: وهو الذل والخضوع، فهو المعنى العربي للعبادة؛ تقول العرب: طريق مُعبَّد يعني: مذلل، والتعبد هو التذلل والخضوع.
وشيخ الإسلام يجمع هذه المعاني في تعريفه للعبادة فيقول: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة".
والعبادة لازمة للمسلم حتى يلقى ربه سبحانه وتعالى، لقوله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، ومَن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد؛ فهو زنديق كافر بالله وبرسوله، بل كلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم، والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على مَن دونه".
إن سلف الأمة الصالحين كانوا مجتهدين في العبادة جدًّا، يرتجون مقام الولاية من الله سبحانه والقرب منه عز وجل، وإليك هذه الأمثلة :
1. كان شداد بن أوس إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: "اللهم إن النار أذهبت مني النوم"، فيقوم فيصلي حتى يصبح.
2. وقال نعيم بن حماد: "كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور من البكاء، لا يجترئ أحدٌ منا أن يسأله عن شيء إلا دفعه".
3. قال الفضيل بن عياض: "إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار؛ فاعلم أنك محروم مكبَّل كبَّلتك خطيئتك".
4. وقام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه بآية يتلوها حتى أصبح: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ...} [الجاثية:21].
5. وكان تحت عيني ابن مسعود مثل الشِّراك البالي من كثرة القيام والبكاء.
6. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أرَ شيئًا يشبههم قط، كانوا يصبحون شعثًا غبرًا، بين أعينهم كرُكَب المعزى، فإذا صلوا مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح، فكأني بالقوم باتوا غافلين".
ونحاول في النهاية أن نقف معًا مع مجموعة من التوجيهات التربوية فيما يخص العبادة التي يلزم المربي أن يُعَلِّمها الناس، وأن يوجِّههم إليها ويربِّيهم عليها:
أ- العبادات أنواع؛ ولا تقتصر على النوع الجسدي أو المالي من العبادات؛ كالصلاة والزكاة والصيام والحج، بل هناك العبادات القلبية التي هي أساس قبول العبادات الظاهرية؛ كالإخلاص لله، والخشوع له، والإنابة إليه، والصدق معه، فيجب الاهتمام بها أكبر اهتمام.
ب- إن حياة الإنسان كلها يمكن أن تصير عبادة، بل إن الصالح للإنسان أن تكون حياته كلها عبادة لله سبحانه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ} [اﻷنعام:162]، بل والعادات التي اعتادها الإنسان يمكن أن يقلبها إلى عبادات، باستحضار النوايا الصالحة معها، وإخلاصها لله عز وجل، وجَعْلها ابتغاء مرضاته سبحانه.
جـ- ليحذر المرء إشراك غير الله مع الله في معاني العبادة، دون أن يستشعر مناقضة ذلك للعبودية، وذلك كإشراك غير الله في الطاعة والاتباع، سواء كان هذا الغير زوجة أو ولدًا أو حاكمًا أو شيطانًا، علمًا بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
د- صرف الهمة لغير الله، وتفضيل أمر غيره على أمر الله؛ كحب كثير من الناس للدنيا وعبادتهم للشهوات والغرائز دون أن يشعر، فإن هذا يقدح في كمال العبودية لله سبحانه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري [2887]).
هـ- تبصير الناس بحاجتهم للعبادة وضرورتها لهم أمر أساسي، ليزيد حرصهم عليها، وتمسكهم بها، ولا يتصورونها عبئًا ملقى على ظهورهم، فكثيرًا ما يتعامل الناس مع تلك العبادات الربانية معاملتهم مع واجب ثقيل على نفوسهم، بدلًا من تعاملهم معها كضرورية لحياة قلوبهم ونفوسهم بل وأجسادهم.
و- يجب أن يربط المعلمون والمربون في نفوس الناس معنى العبودية بتوحيد الله سبحانه وبمعرفة أسمائه وصفاته سبحانه، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فاعلم أن سر العبودية وغايتها وحكمتها، إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب سبحانه ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلهًا، بل الإله الحق وكل إله سواه فباطل، بل أبطل الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن العبادة موجب إلهيته وأثرها ومقتضاها، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والعطاء بالجود...".
ز- الإنسان مخلوق مكلَّف، ضعيف قاصر، مركَّب من روح وجسد، فمن حيث كونه مخلوقًا: يتجلى فيه عنصر الخضوع والطاعة لخالقه، ومن حيث كونه مكلَّفًا: تتجلى حاجته إلى بيان ما كُلِّف به واستعداده للقيام بالوظيفة التي كُلِّف بها وهي العبادة، ومن حيث كونه ضعيفًا قاصرًا: تظهر حاجته إلى المعونة والتقوية من ربه القوي القاهر المتعال، وإلى التوجيه والإرشاد من العليم الخبير، ومن حيث كونه مركبًا من روح وجسد: تتجلى حاجته إلى تغذية كل من الجانبين وضرورة إعطاء كل جانب حقه، وإلى هذه الحاجات مجتمعة أشار الله سبحانه وتعالى في قول إبراهيم عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء اﻵيات:78-82].
ح - إن للعبادة أثرًا نفسيًّا على العبد ذاته في تهذيب خُلُقِه وسُمُوّ مشاعره وتزكية نفسه وتوسيع أُفُقه وحسن تفكيره وصحة سلوكه، والبعيد عن العبادة بمعناها الكامل هو بعيد عن كل تلك المعاني السابقة. قال الله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ...} [المعارج:19-23].
ط- ليؤكد كل مربٍ ومعلم على أمر الثبات على العبادة لله سبحانه، وعدم الانقطاع في العبادة، فلقد كان عمله صلى الله عليه وسلم دِيمة، وكان إذا عمل عملًا أثبته، وعلَّمنا صلى الله عليه وسلم أن خير الأعمال أدومها وإن قلَّ، فالمهم الثبات على العمل وعدم الانقطاع فيه، ولقد أنكر الله سبحانه على مَن انقطـع في عمله مع ربه، فقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّىٰ. وَأَعْطَىٰ قَلِيلًا وَأَكْدَىٰ} [النجم:33-34]، فالثبات الثبات على الأعمال يا عباد الله حتى تلقوا الله، فتسعدوا بأعمالكم.
خالد رُوشه|6/ 7/ 1432 هـ.