شمس الإسلام وظلام الجاهلية
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم، وليقيم عالمًا آخر، يقر فيه سلطان الله وحده، ويبطل سلطان الطواغيت. عالمًا يعبد فيه الله وحده -بمعني "العبادة" الشامل- ولا يعبد معه أحد من العبيد. عالمًا يخرج الله فيه -من شاء- من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. عالمًا يولد فيه "الإنسان" الحر الكريم النظيف.. المتحرِّر من شهوته وهواه، تحرِّره من العبودية لغير الله...
بينما أُقلِّب في صفحات (الظلال)؛ وجدت تلك الكلمات الرائعة لصاحب البصيرة "سيد قطب" مشخِّصًا بأسلوبه الأدبي الراقي ما وصل إليه العالم من جاهلية لبُعدِه عن أخذ المناهج الربانية، فآثرت أن أشارككم بما ترك أثرًا في نفسي عسى الله أن يستعملنا لنشر نور الإسلام ومحو ظلام الجاهلية، والآن أترككم مع ذلك القلم المعتز بانتمائه الرباني..
يقول صاحب الظلال رحمه الله:
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم، وليقيم عالمًا آخر، يقر فيه سلطان الله وحده، ويبطل سلطان الطواغيت. عالمًا يعبد فيه الله وحده -بمعني "العبادة" الشامل- ولا يعبد معه أحد من العبيد. عالمًا يخرج الله فيه -من شاء- من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. عالمًا يولد فيه "الإنسان" الحر الكريم النظيف.. المتحرِّر من شهوته وهواه، تحرِّره من العبودية لغير الله.
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة: "أشهد أن لا إله إلا الله" التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري -كما تُقرَّر هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم- وشهادة أن لا إله إلا الله ليس لها مدلول إلا أن تكون الحاكمية العليا لله في حياة البشر، كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء. فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره، وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته..
وبناء على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن لله شريكًا في خلق الكون وتدبيره وتصريفه، ولا يتقدَّم المسلم بالشعائر التعبدية إلاّ لله وحده. ولا يتلقى الشرائع والقوانين، والقيم والموازين، والعقائد والتصورات إلا من الله، ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع الله. هذه هي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد.. فأين منها البشرية كلها اليوم؟
إن البشرية تنقسِم شيعًا كلها جاهلية! شيعة ملحدة تُنكِر وجود الله أصلًا وهم الملحدون.. فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان! وشيعة وثنية تعترف بوجود إلهٍ، ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأربابًا كثيرة.. كما في الهند، وفي أواسط إفريقية، وفي أجزاء متفرقة من العالم. وشيعة "أهل كتاب" من اليهود والنصارى؛ وهؤلاء أشركوا قديمًا بنسبة الولد إلى الله، كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله - لأنهم قَبِلوا منهم ادَّعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع.. وإن كانوا لم يصلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلًا!
ثم هم اليوم يقصون حاكمية الله بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يُسمُّونها "الرأسمالية" و"الاشتراكية".. وما إليها. ويقيمون لأنفسهم أوضاعًا للحكم يُسمُّونها "الديمقراطية " و"الديكتاتورية "... وما إليها؛ ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله، إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم، في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم. وشيعة تُسمِّي نفسها "مسلمة"! وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه -حذوك النعل بالنعل!- خارجة من دين الله إلى دين العباد.
فدين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه، ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم!
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية؛ وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية.. شيعها جميعًا لا تتبع دين الله أصلًا..
وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة، يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداءً من ناحية العقيدة والتصور. ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع.. وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية، المستنيمة للمستنقع الآسن، الضالة في تِيه الجاهلية، المستسِّلمة لاستهواء الشيطان في التيه!
وهو يستهدف ابتداءً إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة: أشهد أن لا إله إلا الله. وإنشاء واقع في الأرض آخر يُعبَد فيه الله وحده، ولا يُعبَد معه سواه. وتحقيق ميلاد للإنسان جديد، يتحرَّر فيه الإنسان من عبادة العبيد، ومن عبادة هواه! إن الإسلام ليس حادثًا تاريخيًا، وقع مرة، ثم مضى التاريخ وخلَّفه وراءه..
إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أدَّاه مرة في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والتصورات والعقائد والقيم والموازين والتقاليد... التي واجهها أول مرة.
إن الجاهلية حالة ووضع؛ وليست فترة تاريخية زمنية.. والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض، وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع..
إنها تقوم ابتداءً على قاعدة: "حاكمية العباد للعباد"، ورفض حاكمية الله المطلقة للعباد.. تقوم على أساس أن يكون "هوى الإنسان" في أية صورة من صوره هو الإله المتحكم، ورفض أن تكون "شريعة الله" هي القانون المحكِّم.. ثم تختلف أشكالها ومظاهرها، وراياتها وشاراتها، وأسماؤها وأوصافها، وشيعها ومذاهبها.. غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحدَّدة لطبيعتها وحقيقتها..
وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية، وأن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية، وأن الإسلام اليوم متوقِّف عن "الوجود" مجرد الوجود! وأن الدعاة إليه اليوم يستهدفون ما كان يستهدفه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تمامًا؛ ويواجهون ما كان يواجهه صلى الله عليه وسلم تمامًا، وأنهم مدعوون إلى التأسي به في قول الله سبحانه له: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2]..
- التصنيف: