كرم الضيافة خلق مفتقد
أبو الهيثم محمد درويش
لغة العصر ومقتضيات العصر وشواغل العصر وثقافة العصر و... أعذار أبعدت معظم البيوت عن خلق عظيم جليل هو كرم الضيافة، الزائر لو أطال عندك تجد في نفسك تمللاً تريد أن تخفيه، وإن شاركك طعامك، تحارب نفسك قدر الطاقة حتى لا يظهر ضجرك..
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
لغة العصر ومقتضيات العصر وشواغل العصر وثقافة العصر و.... إلخ.
أعذار أبعدت معظم البيوت عن خلق عظيم جليل هو كرم الضيافة، الزائر لو أطال عندك تجد في نفسك تمللاً تريد أن تخفيه، وإن شاركك طعامك، تحارب نفسك قدر الطاقة حتى لا يظهر ضجرك، وإذا كرر الزيارة محبة في شخصك قد يظهر منك ما كنت تود إخفاءه..
هذه حقائق مؤلمة قد نشعر بها جميعاً، وهي ولا شك من أسباب الخلل في العلاقات الاجتماعية التي تئن مجتمعاتنا من الشكوى منها، لنستعرض نماذج من كرم الأولين عسى أن تكون ترياقًا لعلاج جانب من هذا المرض، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ . فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ . فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ . فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ . فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ . قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات:24-30].
قال ابن كثير في تفسيرها: "هذه القصة قد تقدمت في سورة (هود، والحجر) أيضًا، وقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} أي: الذين أرصد لهم الكرامة، وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب الضيافة للنزيل، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل، وقوله: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} الرفع أقوى وأثبت من النصب، فرده أفضل من التسليم; ولهذا قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، فالخليل اختار الأفضل.
وقوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} وذلك أن الملائكة وهم: جبريل وإسرافيل وميكائيل قدموا عليه في صور شبان حسان عليهم مهابة عظيمة; ولهذا قال: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}" [ص:421].
وقوله: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} أي: انسل خفية في سرعة، {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} أي: من خيار ماله، وفي الآية الأخرى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] أي: مشوي على الرضف، {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} أي: أدناه منهم، {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} تلطف في العبارة وعرض حسن.
وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة; فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون بسرعة، ولم يمتن عليهم أولاً فقال: نأتيكم بطعام؟ بل جاء به بسرعة وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل فتي سمين مشوي، فقربه إليهم، لم يضعه، وقال: اقتربوا، بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمرًا يشق على سامعه بصيغة الجزم، بل قال: {أَلَا تَأْكُلُونَ} على سبيل العرض والتلطف، كما يقول القائل اليوم: إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق، فافعل.
عن موسى بن أنسٍ، عن أبيه، قال: "ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلَّا أعطاه، قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإنَّ محمَّدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة" (رواه مسلم:2312)، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان لي مثل أحدٍ ذهبًا ما يسرُّني أن لا يمرَّ عليَّ ثلاثٌ، وعندي منه شيءٌ إلَّا شيءٌ أرصدُهُ لدينٍ» (رواه البخاري:2389).
وقيل سأل رجل حاتمًا الطَّائي فقال: "يا حاتم هل غلبك أحدٌ في الكَرَم؟ قال: نعم، غلام يتيم مِن طيئ، نزلت بفنائه وكان له عشرة أرؤس مِن الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه وأصلح مِن لحمه، وقدَّم إليَّ، وكان فيما قدَّم إليَّ الدِّماغ، فتناولت منه فاستطيبته، فقلت: طيِّبٌ والله. فخرج مِن بين يدي، وجعل يذبح رأسًا رأسًا، ويقدِّم إليَّ الدِّماغ وأنا لا أعلم، فلمَّا خرجت لأرحل نظرت حول بيته دمًا عظيمًا، وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره، فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: يا سبحان الله! تستطيب شيئًا أملكه فأبخل عليك به، إنَّ ذلك لسُبَّة على العرب قبيحة"، قيل: "يا حاتم: فما الذي عوَّضته؟ قال: ثلاثمائة ناقة حمراء، وخمسمائة رأس مِن الغنم، فقيل أنت إذًا أَكْرَم منه، فقال: بل هو أكرم، لأنَّه جاد بكلِّ ما يملكه، وإنَّما جُدت بقليل مِن كثير" (المستجاد مِن فعلات الأجواد للتنوخي).