عامٌ مضى وعامٌ قادم
منذ 2008-01-05
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل".
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد:
فنحن الآن على طرف قنطرة نوشك أن نعبرها لتستقر أقدامنا على طرف قنطرة أخرى، فخطوة نودع بها، وأخرى نستقبل بها، نقف بين قنطرتين مودعين ومستقبلين، مودعين موسمًا كاملاً أودعنا فيه ما شاء الله أن نودع، فخزائن بعضنا ملأى بما هو عليه، ومن الناس من جمع ما له وما عليه ومستقبلين عامًا جديدًا.
عام مضى
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]
{وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [الأعراف: 54]
وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً ومن أصدق من الله حديثًا.
هذا السير الحثيث يباعد عن الدنيا ويقرب إلى الآخرة، يباعد من دار العمل ويقرب من دار الجزاء.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل".
نسير إلى الآجال في كل لحظة *** وأعمارنا تطوي وهن مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى *** فعمــــــرك أيام وهن قلائــل
وما هذه الأيام إلا مــــــراحـــــل *** يحث بها حادٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجب شيء لو تأملت أنهـــا *** منــازل تطوى والمسافر قاعد
جادت قريحة أحد الأدباء في وصف مناسبة وداع العام، فجرى قلمه بقوله:
"رأيت على الطريق شبحًا يسير منهوكًا، على الطريق الذي لا يمتد في سهل ولا وعر، ولا يسير على سفح جبل ولا شاطئ بحر، ولا يسلك الصحراء، ولا يخترق البساتين، ولكنه يلف السهل والوعر والجبل والبحر والصحراء والبساتين، وكل ما تحتويه ومن يكون فيها على الطريق الطويل، الذي يلوح كخط أبيض ويغيب أوله في ظلام الأزل، ويختفي آخره في ضباب الأبد.
رأيت شبحًا يسير على طريق الزمان، وسمعت صائحًا يصيح بالدنيا النائمة، تيقظي إن العام يرحل الآن، أمن الممكن هذا؟
أيحدث هذا كله في هدوء؟
يموت في هذه الليلة عام، ويموت عام، ويمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبدًا.
ويقبل القادم فاتحًا ذراعيه، ليأخذ قطعة من نفوسنا وجزءًا من حياتنا ولا يعطينا بدلاً منها شيئًا.
هل الحياة إلا أعوام أعوام؟ وهل النفوس إلا الذكريات والآلام"
إلى آخر ما قال أثابه الله.
أزف الرحيل
أزف رحيل هذا العام فها هو يطوي بساطه، ويقوض خيامه، ويشد رحاله، وكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، عام كامل، تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حكمًا وعبرًا، وأحداثًا وعظات، فلا إله إلا الله، كم شقى فيه من أناس وكم سعد فيه من آخرين؟
كم طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من متأهل قد تأيم؟
مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى، أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم.
دار تفرح بمولود، وأخرى تعزي بمفقود، عناق وعبرات من شوق اللقاء، وعبرات تهل من لوعة الفراق، وآلام تنقلب أفراحًا، وأفراح تنقلب أتراحًا، أحد يتمنى زوال يومه ليزول معه غمه وهمه وقلقه، وآخر يتمنى دوام يومه ليتلذذ بفرحه وغبطته وسروره.
أيام تمر على أصحابها كالأعوام*** وأعوام تمر على أصحابها كالأيام
مرت سنون بالوثــــام وبالهنـــــا*** فـــــــكــأنهــــــــــا أيـــــــــــــــــــام
ثم أعقبت أيام ســــوء بعدهـــا *** فكأننـــــا وكأنهـــــا أعــــــــــــــوام
أحدهم يلقي عصا التسيار حيث استقر به المئوى، وآخر يضرب في الأرض طلبًا للرزق والمأوى.
حضر فلان وغاب فلان، ومرض فلان، ودفن فلان، وهكذا دواليك، تغير أحوال، وتبدل أشخاص فسبحان الله ما أحكم تدبيره، وما أجل صنعه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أمور تترى تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل من سبات الغفلة، ومن لم يعتبر بما يجري حوله، فقد غبن نفسه.
خليلي كم من ميت قد حضرتـــه*** ولكنني لم أنتفع بحضوري
وكم من ليال قد أرتني عجائــــبًا *** لهـن وأيام خلــت وشهور
وكم من سنين قد طوتني كثيـرة*** وكم من أمور قد جرت وأمور
ومن لم يزده السن ما عاش عبرة*** فذاك الذي لا يستنير بنور
الرغبات المتفاوتة
تختلف رغبات الناس ويتغاير شعورهم عند انسلاخ العام، فمنهم من يفرح ومنهم من يحزن ومنهم من يكون بين ذلك سبيلاً.
فالسجين يفرح بانسلاخ عامه، لأن ذلك مما يقرب موعد خروجه وفرجه، فهو يعد الليالي والأيام على آحر من الجمر، وقبلها تمر عليه الشهور والأعوام دون أن يشعر بها، فكأنه يحاكي قول القائل:
أعد الليالي ليلة بعد ليلة *** وقد عشت دهرًا لا أعد اللياليا
وآخر يفرح بانقضاء العام، ليقبض أجرة مساكن وممتلكات أجرها حتى يستثمر ريعها وأرباحها.
وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية وظيفة، إلى غير ذلك من المقاصد التي تفتقر إلى المقاصد الأسمى وهو المقصد الأخروي، فالفرح يقطع الأيام والأعوام دون اعتبار وحساب لما كان فيها ويكون بعدها هو من المتبع المغبون.
إنا لنفرح بالأيــــــــــام نقطعهـــــــــا *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا*** فإنما الربح والخسران في العمل
فالعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده، ومن أعظم الحكم في تعاقب السنين وتغير الأحوال والأشخاص أن ذلك دليل على كمال عظمة الله تعالى وقيوميته.
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]
فهو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، فلا إله إلا الله ما أجل شأنه وأعظم قدره.
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26-27]
تدارك أوقاتك
على العاقل أن يتدارك أوقاته، وأن يعد أنفاسه، وأن يكون حافظًا لوقته شحيحًا به، فلا يفرط في شيء من لحظات عمره إلا بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والبرزخ والآخرة.
فالعمر قليل والأجل قريب، ومهما طال الأمد فلكل أجل كتاب.
قيل لنوح عليه السلام، وقد لبث مع قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، كيف رأيت هذه الدنيا؟
فقال: كداخل من باب وخارج من آخر.
فيا من متعك الله بالصحة والعافية، فأنت تتقلب في رغد العيش واللذات، تفطن لسني عمرك، فربما يفاجئك الأجل وأنت في غفلة عن نفسك فتعض أصابع الندم، حين مندم ولات حين مناص.
ثم تذكر أن ذلك التنعيم والترفه الذي كنت فيه صباح مساء قد يعقبه ما ينسي لذاته كلها، كما أن من عمر أوقاته بطاعة الله وهو يعيش في ضيق من الأمر وقد قدر عليه رزقه قد يعقب ضيق عيشه ما ينسيه ألمه وفقره.
قال صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يارب!
ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟
فيقول: لا والله يارب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط».
عن أنس رضي الله عنه.
أليس من الخسران أن لياليًا *** تمر بلا نفع وتحسب من عمري
اللهم اختم عامنا بخير، واجعل عواقبنا إلى خير، إنك سميع مجيب الدعاء.
طول العمر نعمة أم نقمة
إن تعاقب الشهر والأعوام على العبد، قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمة بحد ذاته فإذا طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجج الله تعالى عليه، أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله».
طول الحياة حميـدة *** إن راقب الرحمن عبده
ويضدها فالموت خير*** والسعيد أتاه رشـــــده
ويقول الآخر في وصف من لم ينتفع بعمره:
شيخ كبير لــــــه ذنــــوب *** تعجز عن حملها المطايا
قد بيضت شعره الليالي *** وسودت قلبه الخطايـــــا
ماذا قدمت
إن هذا العام الذي ولى مدبرًا قد ذهب ظرفه ويقي مظروفه بما أودع فيه العباد من الأعمال، وسيرى كل عامل عمله {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران: 30]
سيرى كل عامل عمله {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]
سيسال العبد عن جميع شؤونه في الدنيا، وربه أعلم، لكن ليكون الإنسان على نفسه بصيرة، أخرج الإمام الترمذي عن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند الله حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟».
وفي رواية للترمذي أيضًا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن عمله ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ومن جسمه فيم أبلاه».
فاحذر الحذر من التفريط والتسويف
ندمت على ما كان مني ندامة *** ومن يبتغ ما تشتهي النفس يندم
ألم تعلموا أن الحساب أمامكن *** وإن وراكم طالــــبًا ليس يسلــــــم
فخافوا لكيما تأمنوا موتكــــــــم *** ستلقون ربا عــــادلاً ليـــس بظلم
فليس لمغرور بدنياه راحـــــــــة *** سيندم إن زلت به النعــل فاعلموا
فيا من ضيع عمره فيما لا ينفع، ألم تعلم أنك تستكثر الأثقال على نفسك وتزيد حجة الله عليك، فكم مر عليك من الأعوام وأنت تتمتع بثوب الصحة والعافية ومع ذاك وذاك لم تؤد زكاة صحتك وعافيتك بل أصبحت مغبونًا فيهما لما ضاع عليك من الأعمال دون استثمار وتحصيل للآخرة.
عن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
والعجب أن بعض الناس يتفقد صحته صباح مساء ولا يدخر جهدًا ولا مالاً ولا وسعًا في الذهاب إلى الاستطباب كلما أحس بعارض، وهذا من فعل الأسباب المشروعة.
لكن التناقض أن تراه غافلاً عن صلاح قلبه وجوارحه، وربما يشب ويشيب ويموت على ذلك.
عام قادم
تستقبل الأمة الإسلامية عامها الهجري الجديد وجسدها الإسلامي مصاب بجراحات كثيرة، بل لا يكاد يبرأ حتى تنتكث جراحات أخرى، جهل وحرب وفقر وجوع وتشريد وتهديد، وذلك واضح ومعلوم فيما يقرأ ويسمع ويشاهد، بل فقد يقال: لم يعد مستغربًا حصول قارعة تنزل بجامعة من المسلمين أو تحل قريبًا من دارهم، حتى أضحت كثير من بلاد المسلمين يصدق عليها قول الشاعر:
أني اتجهت إلى الإسلام في بلد *** تجده كالطير مقصومًا جناحاه
معاشر المسلمين:
إن الناظر الإنصاف والبصيرة يعلم أن ما أصاب المسلمين إنما هو من جراء أنفسهم وذنوبهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]
تعدد مصائب الأمة وجراحها
ليس من تعداد مصائب الأمة وجراحاتها من باب إدخال اليأس والقنوط على النفوس، معاذ الله من ذلك، فعلى رغم ما حصل ويحصل في أمة الإسلام من المصائب إلا أن الخير باقٍ فيها إلى قيام الساعة.
ولكن يذكر ذلك من باب شحذ الهمم وإيقاظ العزائم وبث الحمية الإسلامية الصحيحة في نفوس المسلمين، لأن حال كثير من المسلمين على اختلاف بلاد العالم الإسلامي حال يرثى لها بسبب التبعية لأعداء الإسلام والإعجاب بهم إعجابًا مطلقًا، إضافة إلا انحلال كثير من المسلمين من قيم الإسلام وآدابة أدى ذلك وغيره إلى غياب معالم الإسلام لا على مستوى أفراد فحسب بل على مستوى مجتمعات بل إن بعض المسلمين لم يكتف بالانحلال من قيم الإسلام فحسب وإنما أصبح عونًا لأعداء الإسلام، وكثرًا لسوادهم، وذلك بتسخير نفسه وقلمه وفكره لحرب الإسلام والمسلمين، فأضحى خطرًا كبيرًا على الإسلام وأهله، ذلك لأن العدو قد عرف بعدائه وحقده، أما من كان محسوبًا معدودًا من جملة المسلمين لهذا الذي يخفى كيده ويشتد أذاه لغفلة الكثير عن مراده وسوء قصده، بل ويزيد خطره إذا صنف من المدافعين عن الإسلام وأهله.
توثيق الروابط بين المسلمين
لقد حرص الإسلام على توثيق الروابط والتقارب بين المسلمين، وأكد أهميتها، بل بلغ حرص الإسلام على أهله أن جعلهم كالجسد الواحد يألمون سويًا ويأملون سويًا، عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».
وفي لفظ آخر: «المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله».
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك أصابعه».
ولقد تضمن هذا النص صفات بليغة في وحدة المسلم مع إخوانه، فالمؤمنون كالبنيان الواحد المجتمع، ولما كان البنيان قد يكون متداعيًا أو متساقطًا جاء الوصف الآخر بأن ذلك البنيان يشد بعضه بعضًا، فيكون كل مسلم يمثل لبنة في البيت الإسلامي.
حال المسلم مع إخوانه
ولم يكتف الإسلام بأن تكون وحدة المسلم مع أخيه في حال المشاهدة، بل تعدى ذلك إلى حال الغيب والبعد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خارج المدينة ومعه جماعة من أصحابه فقال لهم: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم وفيه وهم بالمدينة حبسهم العذر».
وهكذا ينبغي أن تكون حال المسلم مع إخوانه في السراء والضراء وفي الغيب والشهادة، يألم لألمهم ويؤمل لأملهم، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم.
فسفينة الإسلام واحدة تتأثر سلبًا وإيجابًا بحسب تصرفات أهلها.
إصلاح النفس
إذا كان كذلك فليحذر كل مسلم أن يكون سببًا في إحداث فجوة على الإسلام من جهة نفسه، سواء كان تقصيرًا في ذاته أو متعديًا إلى غيره، بل وليعلم كل واحد من المسلمين أنه مسؤول عن نفسه خاصة وعلى من يعول عامة.
فالإصلاح يبدأ من الذات ثم تتسع دائرة الإصلاح حتى تشمل البيت والجوار والمجتمع كل بحسب جهده.
الشعور بالمسؤولية
متى ما شعر الفرد بمسؤولية وقام بأدائها قدر المستطاع كان ذلك مما يقوي شوكة المجتمع خاصة وشوكة الإسلام عامة.
فإذا تكاثف المسلمون مع إخوانهم المستضعفين ودعموهم بالمال والدعاء وكانوا معهم بأحاسيسهم فإنه يحصل بذلك الأثر الكبير في استجلاب النصر بإذن الله، ومتى قام المصلحون بنشر الوعي العقدي السليم وبصروا الناس في عباداتهم ومعاملاتهم وسلوكياتهم، عاد ذلك بالنفع العظيم على المجتمع بأسره.
شاهد المقال: أنه إذا استشعر كل فرد بمسؤوليته وقام بها حق القيام، كان ذلك بإذن الله من أعظم الأسباب في نصر الإسلام والمسلمين فأمر المسؤولية عظيم.
عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولية عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
فالله نسأل أن يعننا على ما حملنا وأن يصلح لنا جميع أمورنا.
الأعمال الصالحة وتهذيب النفس
استكثروا من الأعمال الصالحة ولا يحقرن أحدكم من المعروف شيئًا، فرب عمل بسير أورث صحابه أجرًا عظيمًا، فليكن بعضنا عضدًا لبعض في التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ليتفقد كل منا نفسه خاصة وغيره عامة، فمن كان مقصرًا تعاهدناه.
إن الإسلام مجتمعات والمجتمعات أفراد، ومتى ما أصلح الفرد نفسه صلح جزء من مجتمع المسلمين، وعلى هذا فكل منا على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله.
صوم يوم عاشوراء
وإن مما يعين على تهذيب النفس تعويدها عمل الخيرات، وإن من الخيرات صيام يوم عاشوراء فصيامه يكفر سنة ماضية كما قال صلى الله عليه وسلم: «صيام عاشوراء يكفر سنة ماضية».
أخرجه الترمذي بمعناه عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، وقد صامه صلى الله عليه وسلم وهمّ بصيام يوم قبله فقال: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع».
اللهم اجعل هذا العام عام خير وبركة للإسلام والمسلمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
فضيلة الشيخ: عبدالعزيز السدحان
دار القاسم: المملكة العربية السعودية_ص ب 6373 الرياض 11442
هاتف: 4092000/ فاكس: 4033150
البريد الالكتروني:
[email protected]
الموقع على الانترنت:
www.dar-alqassem.com
موقع وذكر الإسلامي
{يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]
{وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} [الأعراف: 54]
وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً ومن أصدق من الله حديثًا.
هذا السير الحثيث يباعد عن الدنيا ويقرب إلى الآخرة، يباعد من دار العمل ويقرب من دار الجزاء.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل".
نسير إلى الآجال في كل لحظة *** وأعمارنا تطوي وهن مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى *** فعمــــــرك أيام وهن قلائــل
وما هذه الأيام إلا مــــــراحـــــل *** يحث بها حادٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجب شيء لو تأملت أنهـــا *** منــازل تطوى والمسافر قاعد
جادت قريحة أحد الأدباء في وصف مناسبة وداع العام، فجرى قلمه بقوله:
"رأيت على الطريق شبحًا يسير منهوكًا، على الطريق الذي لا يمتد في سهل ولا وعر، ولا يسير على سفح جبل ولا شاطئ بحر، ولا يسلك الصحراء، ولا يخترق البساتين، ولكنه يلف السهل والوعر والجبل والبحر والصحراء والبساتين، وكل ما تحتويه ومن يكون فيها على الطريق الطويل، الذي يلوح كخط أبيض ويغيب أوله في ظلام الأزل، ويختفي آخره في ضباب الأبد.
رأيت شبحًا يسير على طريق الزمان، وسمعت صائحًا يصيح بالدنيا النائمة، تيقظي إن العام يرحل الآن، أمن الممكن هذا؟
أيحدث هذا كله في هدوء؟
يموت في هذه الليلة عام، ويموت عام، ويمضي الراحل بذكرياتنا وآلامنا وآمالنا إلى حيث لا يعود أبدًا.
ويقبل القادم فاتحًا ذراعيه، ليأخذ قطعة من نفوسنا وجزءًا من حياتنا ولا يعطينا بدلاً منها شيئًا.
هل الحياة إلا أعوام أعوام؟ وهل النفوس إلا الذكريات والآلام"
إلى آخر ما قال أثابه الله.
أزف الرحيل
أزف رحيل هذا العام فها هو يطوي بساطه، ويقوض خيامه، ويشد رحاله، وكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، عام كامل، تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حكمًا وعبرًا، وأحداثًا وعظات، فلا إله إلا الله، كم شقى فيه من أناس وكم سعد فيه من آخرين؟
كم طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من متأهل قد تأيم؟
مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى، أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم.
دار تفرح بمولود، وأخرى تعزي بمفقود، عناق وعبرات من شوق اللقاء، وعبرات تهل من لوعة الفراق، وآلام تنقلب أفراحًا، وأفراح تنقلب أتراحًا، أحد يتمنى زوال يومه ليزول معه غمه وهمه وقلقه، وآخر يتمنى دوام يومه ليتلذذ بفرحه وغبطته وسروره.
أيام تمر على أصحابها كالأعوام*** وأعوام تمر على أصحابها كالأيام
مرت سنون بالوثــــام وبالهنـــــا*** فـــــــكــأنهــــــــــا أيـــــــــــــــــــام
ثم أعقبت أيام ســــوء بعدهـــا *** فكأننـــــا وكأنهـــــا أعــــــــــــــوام
أحدهم يلقي عصا التسيار حيث استقر به المئوى، وآخر يضرب في الأرض طلبًا للرزق والمأوى.
حضر فلان وغاب فلان، ومرض فلان، ودفن فلان، وهكذا دواليك، تغير أحوال، وتبدل أشخاص فسبحان الله ما أحكم تدبيره، وما أجل صنعه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أمور تترى تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل من سبات الغفلة، ومن لم يعتبر بما يجري حوله، فقد غبن نفسه.
خليلي كم من ميت قد حضرتـــه*** ولكنني لم أنتفع بحضوري
وكم من ليال قد أرتني عجائــــبًا *** لهـن وأيام خلــت وشهور
وكم من سنين قد طوتني كثيـرة*** وكم من أمور قد جرت وأمور
ومن لم يزده السن ما عاش عبرة*** فذاك الذي لا يستنير بنور
الرغبات المتفاوتة
تختلف رغبات الناس ويتغاير شعورهم عند انسلاخ العام، فمنهم من يفرح ومنهم من يحزن ومنهم من يكون بين ذلك سبيلاً.
فالسجين يفرح بانسلاخ عامه، لأن ذلك مما يقرب موعد خروجه وفرجه، فهو يعد الليالي والأيام على آحر من الجمر، وقبلها تمر عليه الشهور والأعوام دون أن يشعر بها، فكأنه يحاكي قول القائل:
أعد الليالي ليلة بعد ليلة *** وقد عشت دهرًا لا أعد اللياليا
وآخر يفرح بانقضاء العام، ليقبض أجرة مساكن وممتلكات أجرها حتى يستثمر ريعها وأرباحها.
وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية وظيفة، إلى غير ذلك من المقاصد التي تفتقر إلى المقاصد الأسمى وهو المقصد الأخروي، فالفرح يقطع الأيام والأعوام دون اعتبار وحساب لما كان فيها ويكون بعدها هو من المتبع المغبون.
إنا لنفرح بالأيــــــــــام نقطعهـــــــــا *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا*** فإنما الربح والخسران في العمل
فالعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده، ومن أعظم الحكم في تعاقب السنين وتغير الأحوال والأشخاص أن ذلك دليل على كمال عظمة الله تعالى وقيوميته.
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]
فهو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، فلا إله إلا الله ما أجل شأنه وأعظم قدره.
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26-27]
تدارك أوقاتك
على العاقل أن يتدارك أوقاته، وأن يعد أنفاسه، وأن يكون حافظًا لوقته شحيحًا به، فلا يفرط في شيء من لحظات عمره إلا بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والبرزخ والآخرة.
فالعمر قليل والأجل قريب، ومهما طال الأمد فلكل أجل كتاب.
قيل لنوح عليه السلام، وقد لبث مع قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، كيف رأيت هذه الدنيا؟
فقال: كداخل من باب وخارج من آخر.
فيا من متعك الله بالصحة والعافية، فأنت تتقلب في رغد العيش واللذات، تفطن لسني عمرك، فربما يفاجئك الأجل وأنت في غفلة عن نفسك فتعض أصابع الندم، حين مندم ولات حين مناص.
ثم تذكر أن ذلك التنعيم والترفه الذي كنت فيه صباح مساء قد يعقبه ما ينسي لذاته كلها، كما أن من عمر أوقاته بطاعة الله وهو يعيش في ضيق من الأمر وقد قدر عليه رزقه قد يعقب ضيق عيشه ما ينسيه ألمه وفقره.
قال صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يارب!
ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟
فيقول: لا والله يارب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط».
عن أنس رضي الله عنه.
أليس من الخسران أن لياليًا *** تمر بلا نفع وتحسب من عمري
اللهم اختم عامنا بخير، واجعل عواقبنا إلى خير، إنك سميع مجيب الدعاء.
طول العمر نعمة أم نقمة
إن تعاقب الشهر والأعوام على العبد، قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمة بحد ذاته فإذا طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجج الله تعالى عليه، أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله».
طول الحياة حميـدة *** إن راقب الرحمن عبده
ويضدها فالموت خير*** والسعيد أتاه رشـــــده
ويقول الآخر في وصف من لم ينتفع بعمره:
شيخ كبير لــــــه ذنــــوب *** تعجز عن حملها المطايا
قد بيضت شعره الليالي *** وسودت قلبه الخطايـــــا
ماذا قدمت
إن هذا العام الذي ولى مدبرًا قد ذهب ظرفه ويقي مظروفه بما أودع فيه العباد من الأعمال، وسيرى كل عامل عمله {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران: 30]
سيرى كل عامل عمله {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]
{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]
سيسال العبد عن جميع شؤونه في الدنيا، وربه أعلم، لكن ليكون الإنسان على نفسه بصيرة، أخرج الإمام الترمذي عن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند الله حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟».
وفي رواية للترمذي أيضًا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن عمله ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ومن جسمه فيم أبلاه».
فاحذر الحذر من التفريط والتسويف
ندمت على ما كان مني ندامة *** ومن يبتغ ما تشتهي النفس يندم
ألم تعلموا أن الحساب أمامكن *** وإن وراكم طالــــبًا ليس يسلــــــم
فخافوا لكيما تأمنوا موتكــــــــم *** ستلقون ربا عــــادلاً ليـــس بظلم
فليس لمغرور بدنياه راحـــــــــة *** سيندم إن زلت به النعــل فاعلموا
فيا من ضيع عمره فيما لا ينفع، ألم تعلم أنك تستكثر الأثقال على نفسك وتزيد حجة الله عليك، فكم مر عليك من الأعوام وأنت تتمتع بثوب الصحة والعافية ومع ذاك وذاك لم تؤد زكاة صحتك وعافيتك بل أصبحت مغبونًا فيهما لما ضاع عليك من الأعمال دون استثمار وتحصيل للآخرة.
عن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
والعجب أن بعض الناس يتفقد صحته صباح مساء ولا يدخر جهدًا ولا مالاً ولا وسعًا في الذهاب إلى الاستطباب كلما أحس بعارض، وهذا من فعل الأسباب المشروعة.
لكن التناقض أن تراه غافلاً عن صلاح قلبه وجوارحه، وربما يشب ويشيب ويموت على ذلك.
عام قادم
تستقبل الأمة الإسلامية عامها الهجري الجديد وجسدها الإسلامي مصاب بجراحات كثيرة، بل لا يكاد يبرأ حتى تنتكث جراحات أخرى، جهل وحرب وفقر وجوع وتشريد وتهديد، وذلك واضح ومعلوم فيما يقرأ ويسمع ويشاهد، بل فقد يقال: لم يعد مستغربًا حصول قارعة تنزل بجامعة من المسلمين أو تحل قريبًا من دارهم، حتى أضحت كثير من بلاد المسلمين يصدق عليها قول الشاعر:
أني اتجهت إلى الإسلام في بلد *** تجده كالطير مقصومًا جناحاه
معاشر المسلمين:
إن الناظر الإنصاف والبصيرة يعلم أن ما أصاب المسلمين إنما هو من جراء أنفسهم وذنوبهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]
تعدد مصائب الأمة وجراحها
ليس من تعداد مصائب الأمة وجراحاتها من باب إدخال اليأس والقنوط على النفوس، معاذ الله من ذلك، فعلى رغم ما حصل ويحصل في أمة الإسلام من المصائب إلا أن الخير باقٍ فيها إلى قيام الساعة.
ولكن يذكر ذلك من باب شحذ الهمم وإيقاظ العزائم وبث الحمية الإسلامية الصحيحة في نفوس المسلمين، لأن حال كثير من المسلمين على اختلاف بلاد العالم الإسلامي حال يرثى لها بسبب التبعية لأعداء الإسلام والإعجاب بهم إعجابًا مطلقًا، إضافة إلا انحلال كثير من المسلمين من قيم الإسلام وآدابة أدى ذلك وغيره إلى غياب معالم الإسلام لا على مستوى أفراد فحسب بل على مستوى مجتمعات بل إن بعض المسلمين لم يكتف بالانحلال من قيم الإسلام فحسب وإنما أصبح عونًا لأعداء الإسلام، وكثرًا لسوادهم، وذلك بتسخير نفسه وقلمه وفكره لحرب الإسلام والمسلمين، فأضحى خطرًا كبيرًا على الإسلام وأهله، ذلك لأن العدو قد عرف بعدائه وحقده، أما من كان محسوبًا معدودًا من جملة المسلمين لهذا الذي يخفى كيده ويشتد أذاه لغفلة الكثير عن مراده وسوء قصده، بل ويزيد خطره إذا صنف من المدافعين عن الإسلام وأهله.
توثيق الروابط بين المسلمين
لقد حرص الإسلام على توثيق الروابط والتقارب بين المسلمين، وأكد أهميتها، بل بلغ حرص الإسلام على أهله أن جعلهم كالجسد الواحد يألمون سويًا ويأملون سويًا، عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».
وفي لفظ آخر: «المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله».
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك أصابعه».
ولقد تضمن هذا النص صفات بليغة في وحدة المسلم مع إخوانه، فالمؤمنون كالبنيان الواحد المجتمع، ولما كان البنيان قد يكون متداعيًا أو متساقطًا جاء الوصف الآخر بأن ذلك البنيان يشد بعضه بعضًا، فيكون كل مسلم يمثل لبنة في البيت الإسلامي.
حال المسلم مع إخوانه
ولم يكتف الإسلام بأن تكون وحدة المسلم مع أخيه في حال المشاهدة، بل تعدى ذلك إلى حال الغيب والبعد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خارج المدينة ومعه جماعة من أصحابه فقال لهم: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم وفيه وهم بالمدينة حبسهم العذر».
وهكذا ينبغي أن تكون حال المسلم مع إخوانه في السراء والضراء وفي الغيب والشهادة، يألم لألمهم ويؤمل لأملهم، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم.
فسفينة الإسلام واحدة تتأثر سلبًا وإيجابًا بحسب تصرفات أهلها.
إصلاح النفس
إذا كان كذلك فليحذر كل مسلم أن يكون سببًا في إحداث فجوة على الإسلام من جهة نفسه، سواء كان تقصيرًا في ذاته أو متعديًا إلى غيره، بل وليعلم كل واحد من المسلمين أنه مسؤول عن نفسه خاصة وعلى من يعول عامة.
فالإصلاح يبدأ من الذات ثم تتسع دائرة الإصلاح حتى تشمل البيت والجوار والمجتمع كل بحسب جهده.
الشعور بالمسؤولية
متى ما شعر الفرد بمسؤولية وقام بأدائها قدر المستطاع كان ذلك مما يقوي شوكة المجتمع خاصة وشوكة الإسلام عامة.
فإذا تكاثف المسلمون مع إخوانهم المستضعفين ودعموهم بالمال والدعاء وكانوا معهم بأحاسيسهم فإنه يحصل بذلك الأثر الكبير في استجلاب النصر بإذن الله، ومتى قام المصلحون بنشر الوعي العقدي السليم وبصروا الناس في عباداتهم ومعاملاتهم وسلوكياتهم، عاد ذلك بالنفع العظيم على المجتمع بأسره.
شاهد المقال: أنه إذا استشعر كل فرد بمسؤوليته وقام بها حق القيام، كان ذلك بإذن الله من أعظم الأسباب في نصر الإسلام والمسلمين فأمر المسؤولية عظيم.
عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولية عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
فالله نسأل أن يعننا على ما حملنا وأن يصلح لنا جميع أمورنا.
الأعمال الصالحة وتهذيب النفس
استكثروا من الأعمال الصالحة ولا يحقرن أحدكم من المعروف شيئًا، فرب عمل بسير أورث صحابه أجرًا عظيمًا، فليكن بعضنا عضدًا لبعض في التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ليتفقد كل منا نفسه خاصة وغيره عامة، فمن كان مقصرًا تعاهدناه.
إن الإسلام مجتمعات والمجتمعات أفراد، ومتى ما أصلح الفرد نفسه صلح جزء من مجتمع المسلمين، وعلى هذا فكل منا على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله.
صوم يوم عاشوراء
وإن مما يعين على تهذيب النفس تعويدها عمل الخيرات، وإن من الخيرات صيام يوم عاشوراء فصيامه يكفر سنة ماضية كما قال صلى الله عليه وسلم: «صيام عاشوراء يكفر سنة ماضية».
أخرجه الترمذي بمعناه عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، وقد صامه صلى الله عليه وسلم وهمّ بصيام يوم قبله فقال: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع».
اللهم اجعل هذا العام عام خير وبركة للإسلام والمسلمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
فضيلة الشيخ: عبدالعزيز السدحان
دار القاسم: المملكة العربية السعودية_ص ب 6373 الرياض 11442
هاتف: 4092000/ فاكس: 4033150
البريد الالكتروني:
[email protected]
الموقع على الانترنت:
www.dar-alqassem.com
موقع وذكر الإسلامي
- التصنيف:
ابو عبد الله بن عادل
منذghadifa
منذHend Ahmed
منذشكيب الزريقي
منذمحمد أمين
منذأبوعمر طه الغزالى
منذياسر المصرى
منذزائر
منذ