وقفات منهجية تربوية - (16) الوقفة الثالثة عشرة: التحذير من القول بلا علم
فالقول على الله بلا علم من أكبر الذنوب؛ بل هو أعظم ذنب عُصي به الله تعالى.
وهذا الأمر من الأساسيات والركائز في منهج الصحابة رضوان الله عليهم في جميع شؤونهم سواء أكان القول في الفتيا خاصة أو عامة مع أوليائهم أو مع أعدائهم. فالقول على الله بلا علم من أكبر الذنوب؛ بل هو أعظم ذنب عُصي به الله تعالى. فإن قال قائل: أليس الشرك أعظم ذنب؟ قيل: بلى، لكن الشرك متفرع عن القول على الله بلا علم.
ولهذا قال ابن القيم في (أعلام الموقعين): "وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقد رتب الموبقات وبدأ بأخفها بالنسبة لما بعدها، وختم بأعظمها فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]".
وقد حذا الصحابة في هذا نحو ما نصت عليه الآيات الكثيرة، واقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه السلام يسأل عن الشيء ليس له به علم فيسكت كما في مسألة الروم، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (لا أدري) فيما ليس له به علم، ولم يأتِ به إليه وحي.
وعلى هذا المنهج نهج الصحابة رضوان الله عليهم؛ فتأتي الجَدة إلى الصديق رضي الله عنه فتسأله عن ميراثها فيقول: "أما في كتاب الله فلا أجد لكِ شيئًا، وأما في السُنة فلا أعلم شيئًا"، فيقوم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فيقول: فرض لها النبي صلى الله عليه وسلم السدس أو أعطاها السدس، فيقول الصديق: من يشهد معك؟ فيقوم محمد بن مسلمة رضي الله عنه فيؤكد مقولة المغيرة. ويأتي ابن عمر رجل فيسأله عن شيء فيقول: لا أدري.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ بل كانوا يتورعون أشد التورع من أن يفتوا بما لم يتأكدوا من صحته، كما كانوا لا يترددون أن يتراجعوا عن قولهم إذا علموا أنه مخالف للدليل الشرعي. فهذا الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه يفتي رجلا في السوق فلما دخل الرجل في غمار الناس واختفى أثره تفطن أبو هريرة إلى خطئه فدخل في السوق فلتفت يمنة ويسرة يبحث عنه، فلما يئس من العثور عليه نادى في السوق يا أهل السوق من لكم عن أبي هريرة أنه أفتى بكذا فقد أخطأ، وها أنا ذا راجع على أسماعكم.
فهذا هو الدين، وهذا هو الورع. وعلى هذا درج أئمة الإسلام؛ فالإمام ابن تيمية على جلالة قدره وعلى علو كعبه ورفعة منزلته في العلوم العقلية والنقلية- كان يتوقف عما لا يعلم، ولا يفتي بغير علم. وابن حزم في كتابه (حجة الوداع) يقول: "قد تبين لي الأمر في أمر المناسك إلا في موضعين اثنين: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوم النحر؛ هل صلى في مكة (في الحرم) أو في منى"، ثم قال: "فمن استبان له ما أشكل علينا منه يوما ما فليثبت إلى ما جمعنا وليقتني بذلك الأجر من الله تعالى". والإمام الذهبي توقف في عُمر سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقال: "فمن كان عنده علم فليفدنا".
وأيضًا سار على هذا أئمة الدين وعلى رأسهم أئمة الذاهب المتبوعة، وقد أحسن الناظم في نظمه مقولتهم؛ لأن كلا منهم يقول: حرام على من يأخذ قولي بغير دليل:
قال أبو حنيفة الإمام *** لا ينبغي لمن له إسلام
أخذًا بأقوالي حتى تُعرضا *** على الحديث والكتاب المرتضى
ومالك إمام دار الهجرة *** قال وقد أشار نحو الحجرة
كل الكلام منه ذو قبول *** ومنه مردود سوى الرسول
والشافعي قال: إن رأيتم *** قولي مخالفا لما رويت
من الحديث فاضربوا الجدار *** بقولي المخالف الأخبار
وأحمد قال لهم لا تكتبوا *** ما قلته بل أصل ذلك فاطلبوا
فمن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار السلفية ينبغي لطالب العلم أن يأخذ منها العلم والأدب بها، وأن يعرف خطورة القول على الله بلا علم وأن لا يتردد أو يتحرج إذا أخطأ أن يقول: أخطأتُ، وإذا خالف الدليل أن يقول: خالفتُ الدليل. فهذا من الديانة؛ بل من أعظم القربات... ولهذا كان السلف رحمهم الله يورثون طلابهم قول: (لا أدري)!!
ملخص من كتاب: وقفات منهجية تربوية دعوية من سير الصحابة.
- التصنيف:
- المصدر: