أظلتنا السنون الخداعات

منذ 2014-04-22

حيث الكاذب محله الصدق، والصادق محله الكذب، وحيث الخائن محله الأمانة، والأمين محله الخيانة.

كثيرًا ما يقرأ المسلم الأحاديث التي تتحدث عن المستقبل فلا يعلم تفسيرها على الوجه السليم إلا بعد ما يعاينه من تأويلها في الواقع رغم إيمانه بما تضمنته الأحاديث، فقد وردت الرواية التي تدل على انقلاب المعايير وتنكب الناس الصراط المستقيم فتراهم يضعون ثقتهم في المحل الذي لا ثقة فيه، بينما يحجبون ثقتهم عمن هو أهل للثقة، وما كان الإنسان يدري كيف يكون ذلك حتى أظلنا ذلك الزمن وصرنا نرى بأم أعيننا كيف يصدق الناس من علموا وتيقنوا كذبه في الوقت الذي يكذبون فيه من علموا صدقه ويأتمنون من علموا خيانته ويخونون من ثبتت أمانته، وكأن نفوسهم تأبى النظرة السليمة التي لم يصبها العوار، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ , وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ , وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» (المستدرك [5/659]).

 


وجاء في لسان العرب: "قال أَبو منصور: الرُّيبضةُ تصغير رابضةٍ وهو الذي يرعى الغنم، وقيل: هو العاجز الذي رَبَضَ عن معَالي الأُمور وقَعَد عن طَلبها، وزيادة الهاء للمبالغة في وصفه، جعل الرابِضَة راعِيَ الرَّبِيض كما يقال داهية، قال: والغالب أَنه قيل للتافه من الناس رابضة ورويبضة لربوضه في بيته وقلة انبعاثه في الأُمور الجسيمة".



فانقلاب المعايير لدى الناس وفساد التصور الذي يجعل الإنسان يستعذب المذاق المر الحامض ويأبى الحلو الطازج دليل على مدى التغير الكبير الذي أصاب النفوس ودليل على الفساد الكبير الذي نخر فيها:


حيث الكاذب محله الصدق.
والصادق محله الكذب.
وحيث الخائن محله الأمانة.
والأمين محله الخيانة.


أي فساد طرأ على تصورات الناس وهل يرجى صلاح دين أو دنيا يأتي من وراء أصحاب تلك التصورات، وهؤلاء قد لا يشعرون بفداحة ما وصلوا إليه حتى تراهم ربما يفاخرون بمسلكهم المعوج القائم على وضع الأمور في غير مجراها السليم وهذا يذكر بمسلك قوم لوط عندما ذموا آل لوط عليه السلام بمسلكهم الطاهر الذي يأبى النجاسة فقالوا عنهم ذامين لهم: أَخْرِ‌جُوا {آلَ لُوطٍ مِّن قَرْ‌يَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُ‌ونَ} [النمل:56]. فصارت الطهارة مما يذم به وذلك أقصى ما يكون عندما تختل الموازين وتنقلب المعايير وتفسد الفطر.


والسنوات الخداعات لم يقتصر مظاهر الخداع فيها على فساد التصورات وانقلاب المعايير واختلال الموازين حتى انضاف لذلك أن يقوم المرء التافه الذي لا يؤبه له الخامل الذي أقعدته نفسه الدنية عن ركب المعالي بالتصدر في الأمور العامة التي يعم أمرها الأمة كلها فينطق فيها ويتكلم بما يريد، ولا تسأل عن مدى الخلل والخطل الذي تراه وتسمعه أو تقرأه من رويبضة قصرت به همته فلم تنبعث نفسه حتى رضي أن يكون تافهًا لا قيمة له، ولعل الكثير منا بدأ يتعرف على هؤلاء الرويبضات من خلال ما يطرحونه ويقدمونه من أفكار وتصورات في أمور وقضايا هم أبعد من يكون عنها.

 

ومن ثم فينبغي أن يكون هذا الحديث تحصينا لنا إزاء نتائج السنوات الخداعات فلا نصدق إلا الصادق ولا نكذب غير الكاذب ولا نأتمن إلا الأمين ولا نخون إلا الخائن ولا نقبل أية رؤى أو تصورات من الرويبضات التي ملأت الأسماع والأبصار فإنها لن تقود لخير ولأن همة صاحبها ستكون مؤثرة فيها حيث تتقمص همته الدنيا أفكاره وتصوراته، ولعلنا لو بحثنا في ذلك الفساد الذي طرأ على نفوس من طرأ عليها لرأينا وعلمنا أن ذلك عقوبة من الله تعالى على استمراء الناس للباطل وتنكبهم الطريق المستقيم وصدودهم عن الحق الذي بينه الله لهم على ألسنة رسله وفيما أنزل إليهم من كتبه، كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَ‌هُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّ‌ةٍ وَنَذَرُ‌هُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].

 

فلما لم يقبلوا هداية الله لهم أول مرة عاقبهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم فلم يعودوا يروا الحق حقًا والباطل باطلًا، وكما قال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف من الآية:5]، وكما قال: {ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُ‌وا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ‌} [سبأ:17]، وكما قال: {ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام من الآية:146]، لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبر عن نفسه بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت من الآية:40] وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، وقال: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل من الآية:118].

 

وقال: {وَمَا رَ‌بُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت من الآية:46] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]، فظلمهم لأنفسهم هو الذي أوردهم تلك الموارد الردية، وهذا مما يدفع الدعاة إلى العناية بإصلاح قلوب المدعوين قبل العناية بإصلاح أفكارهم لأن صلاح القلب يترتب عليه صلاح كل شيء وفي فساده فساد كل شيء كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسدِ مُضغَةً : إذا صلَحَتْ صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدَتْ فسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ» (صحيح البخاري).

 

الجمعة 2 شعبان 1433 هـ - 22 يونيو 2012 م

المصدر: رابطة النهضة والإصلاح

محمد بن شاكر الشريف

باحث وكاتب إسلامي بمجلة البيان الإسلاميةوله عديد من التصانيف الرائعة.

  • 11
  • 0
  • 8,796

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً