فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ
هكذا شأن الظالمين دومًا يرمون الرجل بالكذب، وهم يعلمون أنه صادق، ويقرون بصدقه في مجالسهم الخاصة، ولكن كي يتوصلوا إلى تحقيق أهدافهم ومكنونات صدورهم؛ فإنهم ينسبون الصادقين إلى الكذب، هذا حالهم مع أنبياء الله.
قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّـهِ يَجْحَدُونَ. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّـهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [اﻷنعام:33-34].
هذه الآيات من تربية الله تعالى لرسوله، وإرشاده لما يشد من عزمه، ويزيد في ثباته على دعوة الحق، التي أناط به بلاغها وبيانها.
فقال له تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ} أي: الحال والشأن، {لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} أي: الكلام الذي يقولون لك، وهو تكذيبك واتهامك بالسحر، والتقوُّل على الله، وما إلى ذلك مما هو إساءة لك.
وفي الحقيقة: إنهم لا يكذبونك [1] لِـمَا يعلمون من صدقك، وهم يلقبونك قبل إنبائك لهم وإرسالك بالأمين، ولكن الظالمين هذا شأنهم، فهم يرمون الرجل بالكذب، وهم يعلمون أنه صادق، ويقرون هذا في مجالسهم الخاصة، ولكن كي يتوصلوا إلى تحقيق أهدافهم في الإبقاء على عاداتهم وما أَلِفوا من عبادة أوثانهم يقولون بألسنتهم من نِسبتك إلى الكذب، وهم يعلمون أنك صادق غير كاذب [2]، فإذا عرفت هذا فلا تحزن لقولهم؛ هذا أولًا.
وثانيًا فقد كُذِّبت رسل من قبلك، وأوذوا كما كُذبت أنت وأوذيت، وصبروا حتى أتاهم نصرنا؛ فاصبر أنت حتى يأتيك النصر؛ فإنه لا مبدِّل لكلمات الله التي تحمل وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه، ولقد جاءك في هذا الكتاب الذي أوحينا إليك من نبأ المرسلين وأخبارهم ما يكون عونًا لك على الصبر حتى النصر؛ فاصبر.
--------------------------------------------------------------------
[1] رُوي أن أبا جهل وجماعة معه من رجالات قريش مرّوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: "يا محمد ما نُكذّبك، وإنّك عندنا لصادقٌ، ولكن نكذّب ما جئتَ به". وهذه الآية شاهد لصحة هذه الرواية، ومعنى (يكذّبونك) ينسبونك إلى الكذب ويردون قولك.
[2] روى ابن إسحاق وغيره: أنّ الأخنس بن شريق أتى أبا جهل، فقال له: "يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟" إذ كانوا يأتون دار محمد وهو يصلي بالليل يستمعون القرآن، فإذا طلع النهار تفرّقوا. قال: "ماذا سمعتُ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الرُّكَب وكنا كفَرَسَيْ رهان قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك نحن هذه، والله لا نؤمن أبدًا ولا نصدقه"، فقام الأخنس وتركه.
- التصنيف: