الصحة والفراغ ثروات متاحة فهل من مشمِّر

منذ 2014-04-23

علينا أن نتذكر أن الصحة والفراغ نِعمٌ أتاحها الله لكثير من البشر، ومع هذا فإن التميز والنجاح يبقى متاحاً لمن استطاع أن يستفيد من هذه النعم.

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم

عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم: «نعمتانِ مغْبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصِّحَّة والفراغ» (رواه البخاري برقم 6412) .

راوي الحديث هو الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، كان يسمى الحبر والبحر لكثرة علمه وحِدَّة فهمه، ولد عام الشِّعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي بالطائف سنة ثمان وستين [معرفة الصحابة، 3\ 1696،1697)، وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، 1\ 214)].

في هذا الحديث الشريف يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن نعمتين من أجلِّ النِّعم التي وهبنا الله تعالى، ألا وهما نعمة الصحة التي بها يستطيع الإنسان أداء الأعمال الهامة، ونعمة الفراغ التي يستطيع الإنسان ملأها بكل مفيد.
ومع أن هاتين النعمتين متاحتان لكثير من الناس، إلا أن التفريط فيهنّ سمةٌ بارزةٌ لكثيرٍ منهم، ولو أنهم عرفوا أهمية هذه النعم وعملوا على توظيفها فيما أراده الله تعالى لزادت نِسبُ النجاح والتميز بين أفراد المجتمع.

والنعمة الأولى هي الصحة، وهي نعمة لا ينتبه لها المرء غالباً إلا عند السقم، فالكيِّس من اغتنم هذه الصحة، وسخّرها للعمل بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة.

وأما النعمة الثانية فهي نعمة الفراغ، وهو الوقت الذي أتاحه الله تعالى للعبد ليعمل فيه قبل أن يعمل الوقت فيه، فكلُّ يومٍ يمرُّ يأخذ يوماً من عمر ابن آدم، يقول عمر بن عبد العزيز: "إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما" (مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا:29).

وما المرءُ إلا راكبٌ ظهرَ عمرِه *** على سفَرٍ يُفْنِيِه باليومِ والشهرِ
يَبيتُ ويُضْحِى كل يومٍ وليلةٍ  *** بعيداً عن الدُّنيا قريباً إلى القبرِ

والناس متفاوتون في القدر الذي يستفيدون فيه من أوقاتهم، فمنهم من يغتنم من وقته شيئاً يسيراً، ومنهم من يقتله باللهو والعبث، غير أننا لو نظرنا إلى شريحة المتميزين من البشر لوجدنا أنهم جميعاً يهتمون بالوقت اهتماماً بالغاً، ويحسنون توزيعه وإدارته، فهو رأس المال الذي إن ذهب فإنه لا يعود.

ولقد نبَّه علماء التنمية البشرية في العصر الحديث على أهمية الوقت، وعدُّوا اجتماع الطاقة البشرية (الصحة) مع حسن إدارة الوقت والاستفادة منه والمحافظة عليه؛ من أهمِّ أسرار النجاح والتميز (استراتيجيات النجاح وأسرارالتميز:73)، وليس هذا الكلام مجرد نظرية مدوَّنةٍ في الكتب، بل هو حقيقة يستطيع أيُّ فرد أن يعيشها ويترجمها واقعاً يجدِّد به نمط حياته.

وللتأكيد على هذا أسرد بعضاً من النماذج التي حفظها لنا التاريخ من أبرز الشخصيات التي استطاعت أن تجمع بين حفظ الوقت وملئِ الفراغ بما يعود عليها وعلى الأمة بالرُّقي والتحضُّر والتميُّز، ومن هؤلاء:

1-  الإمام محمد بن جرير الطبري:
كان الإمام الطبري رحمه الله آية من الآيات في حفاظه على الوقت وإدارته له، وحرصه على ملئه بالتعلُّم والتعليم والكتابة والتأليف، حتى بلغت مؤلفاته العدد الكثير، يقول الخطيب البغدادي: "وسمعت السمسمي يحكي أن محمد ابن جرير مكث أربعين سنة، يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة ". (تاريخ بغداد:2\ 163) 

وحدث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بكتاب (الصلة)، وهو كتاب وصل به تاريخ ابن جرير: أن قوماً من تلاميذ ابن جرير حصلوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته فصار منها على كل يوم أربع عشر ورقة، وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق" .(معجم الأدباء،:17\ 363)

2-  الإمام النووي (يحيى بن شرف الحوراني): [انظر ترجمته في (شذرات الذهب: 7\618 - 621)
لم تتجاوز حياة هذا العالم المبارك خمساً وأربعين سنة، ومع هذا فقد ملأها بالدراسة والعبادة والحفظ والتأليف، فكان فقيه الشافعية المقدَّم، ومحدِّث الفقهاء، وإمام الزهد والورع في زمانه، وقد بارك الله له في وقته وعمره، فأخرج للأمة المصنفات الرائعة في الفقه والحديث والزهد وغيرها، رحمه الله رحمة واسعة.

3-  أبوالوفاء، علي بن عقيل الحنبلي:
يعدُّ ابن عقيل الحنبلي ممن احتلَّ الذروة في مقام المحافظة على الزمن، ومعرفة نفاسته، و غلاء قيمته، والحرص على ملْءِ الأوقات بالأعمال الزاكيات، والاستفادة من الخطرات واللحظات، تأليفاً وتفكيراً، وتذكراً وتذكيرا [قاله عنه: أبو غدة في كتابه (قيمة الزمن عند العلماء \53)]ً.

نقل ابن رجب الحنبلي عن ابن الجوزي قوله: "وأفتى ابن عقيل، ودرَسَ وناظر الفحول، واستفتى في الديوان في زمن القائم، في زمرة الكبار. وجمع علم الفروع والأصول وصنَّف فيها الكتب الكبار. وكان دائم التشاغل بالعلم، حتى أني رأيتُ بخطه: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عُمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعةٍ، أعملتُ فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلاَّ وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجدُ من حرصي على العلم. وأنا في عشر الثمانين أشدّ مما كنت أجدُه وأنا ابن عشرين سنة" (ذيل طبقات الحنابلة:1\ 129).
إن هذه النماذج المشرقة وغيرها الكثير، لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بالجد والعمل، وحسن إدارة الوقت واستغلاله، ولنا في أسلافنا أسوة حسنة، فالسير على طريقهم هو السبيل الوحيد للنهوض بالأمة من غياهب الكسل والخمول والجهل، إلى آفاق الحضارة والتقدم والرُّقي.

ويمكن لكل فردٍ أن يصل إلى ما وصل إليه المتميزون من النجاح بعد توفيق الله تعالى، شريطة أن يُعيد برمجة حياته بطريقة صحيحة بعيدةٍ عن اللهو والعبث الذي هو في الحقيقة من أهمِّ المعوِّقات التي تحول بيننا وبين التقدم الحضاري والصعود بين الأمم.

ومما يعين على تنظيم الوقت وحسن استغلاله والاستفادة منه:
1- الدعاء الصادق بأن يبارك الله سبحانه في الأوقات، وأن تكون عامرة بما يرضاه، { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] .

2- التوكل على الله، والأخذ بالأسباب المعينة على حفظ الوقت من الضياع، ومن ذلك:

أولاً: وضع خطة واضحةٍ ومقسَّمة على مراحل، تحددُّ فيها المراحل بوقت يتناسب معها.

ثانياً: التخلص من كل الملهيات التي قد تعترض أو تعيق العمل، ويدخل في ذلك تقليل المشاغل الثانوية التي يمكن الاستغناء عنها.

ثالثاً: ترتيب الأولويات (الأهم فالمهم).

رابعاً: تنمية صفة الانضباط الزمني.

خامساً: توزيع الوقت على المهام بدقة، ومعرفة أن فعالية الوقت ليست في طوله، ولكن في مهارة توزيعه.

3-النظر في سير الأعلام والمشاهير من السابقين واللاحقين وتأمل الإنجازات التي قاموا بها، من أجل تنمية الشعور بأهمية الوقت، وإدراك أهميته، ومن أجل الاستفادة منهم في طرية تقسيم الوقت والاستفادة منه.

4- من خصائص الوقت أنه إذا ذهب فإنه لا يعود، ومع هذا فهو رأس المال الذي لا غنى عنه لمن أراد أن يتميز و يرقى في سلم النجاح.

5- معرفة أن توظيف الصحة في أداء الأمور النافعة، وملءُ الوقت بها؛ هو شكر لله تعالى على هذه النعم، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} [سبأ:13] .

6- معرفة أن العبد مسؤولٌ يوم القيامة عن هذه النعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزولُ قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسئل عن عمُرهِ فيمَ أفناه، وعن علمهِ فيمَ فعل، وعن مالهِ من أينَ اكتسبهُ وفيمَ أنفقهُ، وعن جسمه فيمَ أبلاه» (رواه الترمذي برقم 2417 وقال: هذا حديث حسن صحيح).

ختاماً، علينا أن نتذكر أن الصحة والفراغ نِعمٌ أتاحها الله لكثير من البشر، ومع هذا فإن التميز والنجاح يبقى متاحاً لمن استطاع أن يستفيد من هذه النعم.

كتبه: الأستاذ سامح عبد الإله عبدالهادي

 

المصدر: http://saaid.net/arabic/628.htm
  • 2
  • 0
  • 5,533

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً