أنقِذوهم من النار
إن مسئوليتنا أمام أبنائنا وأهلينا كبيرة وعظيمة، فهي مسؤولية إنقاذهم من النار، التي يجب الفرار منها، بالنفس، والأهل، والأولاد، فالتربية للأهل والأولاد من الواجبات المطلوبة من الأبوين، أمر الله -تعالى- بها في القرآن، وأمر بها النبي -صلى الله عليه وسلم-
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه، ونسغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا-، أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله -تعالى- حقَّ التقوى، فإنها وصية الله للأولين والآخرين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء من الآية:131]، و راقبوه حق المراقبة، واعلموا أنكم مسؤولون أمامه عن أهليكم، فماذا أنتم مجيبوه.
عباد الله: إن مسئوليتنا أمام أبنائنا وأهلينا كبيرة وعظيمة، فهي مسؤولية إنقاذهم من النار، التي يجب الفرار منها، بالنفس، والأهل، والأولاد، فالتربية للأهل والأولاد من الواجبات المطلوبة من الأبوين، أمر الله -تعالى- بها في القرآن، وأمر بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، قال القرطبي -رحمه الله-: "قال مقاتل: ذلك حق عليه في نفسه، وولده، وأهله، وعبيده، وإمائه، فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين، والخير وما لا يستغني عنه من الأدب، وهو قوله -تعالى-: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه من الآية:132]، ونحو قوله -تعالى- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] (1).
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملاً فتأكلهم النار يوم القيامة، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: « (2)»(3).
قال المناوي -رحمه الله-: "لأن يؤدب الرجل ولده عندما يبلغ من السن والعقل مبلغًا يحتمل ذلك بأن ينشئه على أخلاق صلحاء المؤمنين، ويصونه عن مخالطة المفسدين، ويعلمه القرآن والأدب، ولسان العرب، ويسمعه السنن وأقاويل السلف، ويعلمه من أحكام الدين ما لا غنى عنه، ويهدده ثم يضربه على نحو الصلاة وغير ذلك: خير له من أن يتصدق بصاع؛ لأنه إذا أدبه صارت أفعاله من صدقاته الجارية، وصدقة الصاع ينقطع ثوابها، وهذا يدوم بدوام الولد والأدب غذاء النفوس وتربيتها للآخرة"(4).
فالمسلم داعية إلى الله -تعالى-، فليكن أولى الناس بدعوته أولاده، وأهله من الذين يلونه، فالله -تعالى- عندما كلف الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة قال له: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]؛ لأنهم أولى الناس بخيره ورحمته وبره. فتكون الدعوة مع الأهل والولد بالمداراة وحسن الخلق، وسعة النفس، وتمام الشفقة، والصفح عن عثراتهم والعفو عن مساوئهم ما لم يكن إثمًا ومعصية.(5)
عبد الله: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جعل مسئولية رعاية الأولاد على الوالدين وطالبهم بذلك:
فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: « » (6).
فمن واجبك أخي الكريم: أن تنشئهم من الصغر على حب الله ورسوله، وحب تعاليم الإسلام، وتخبرهم أن لله نارًا وجنة، وأن ناره حامية، وقودها الناس والحجارة، وإليك هذه القصة ففيها عبرة:
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "كان ملِك كثيرَ المال، وكانت له ابنة لم يكن له ولد غيرها، وكان يحبها حبًّا شديدًا، وكان يلهيها بصنوف اللهو، فمكث كذلك زمانًا، وكان إلى جانب الملك عابدٌ، فبينا هو ذات ليلة يقرأ إذ رفع صوته وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم من الآية:6]، فسمعت البنت قراءته، فقالت لجواريها: كفوا، فلم يكفوا، وجعل العابد يردد الآية والجارية تقول لهم: كفوا، فلم يكفوا، فوضعت يدها في جيبها فشقت ثيابها، فانطلقوا إلى أبيها فأخبروه بالقصة، فأقبل إليها، فقال: يا حبيبتي ما حالك منذ الليلة؟ ما يبكيك؟ وضمها إليه، فقالت: أسألك بالله يا أبتِ، لله -عز وجل- دارًا فيها نار وقودها الناس والحجارة؟ قال: نعم، قالت: وما يمنعك يا أبت أن تخبرني، والله لا أكلتُ طيِّبًا، ولا نمتُ على ليِّنٍ حتى أعلم أين منزلي في الجنة أو النار"(7).
وينبغي عليك عبد الله أن تبعدهم عن مراتع الفجور، والضياع، وألا تتركهم يتربون بالسبل الخبيثة من التلفاز وغيره، ثم بعد ذلك تطالبهم بالصلاح، فإن الذي يزرع الشوك لا يحصد العنب، ويكون ذلك في الصغر ليسهل عليهم في الكبر، وتتعوده أنفسهم، ويسهل عليك أمرهم، ونهيهم ويسهل عليهم طاعتك.
وينبغي على المؤدب أن يكون رحيمًا حليمًا سهلاً قريبًا غير فاحش ولا متفحش يجادل بالتي هي أحسن بعيدًا عن الشتائم والتوبيخ والضرب، إلا أن يكون الولد ممن نشز عن الطاعة واستعلى على أمر أبيه وترك المأمور وقارف المحظور فعندئذٍ يفضَّل أن يستعمل معه الشدة من غير ضرر.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه- وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.أما بعد:
أيها المسلمون: قد يقول قائل كيف لي أن أقِيَ نفسي النار؟! وكيف لي أن أقِيَ أهلِي النار؟! نعم، وقايتُك لنفسك النار الأخذُ بالأسباب التي تبعِدك عنها وتحول بينك وبينها بتوفيقٍ من الله، وكذلك أهلُك تقيهم النار بتحذيرِهم من الشرِّ ووسائله والأسبابِ المقرِّبة له.
أيّها المسلمون: نقِي أنفسَنا النارَ، نقيها عذابَ الله، نقيها سخَطَ الله، نأخذ بكلِّ سببٍ يقينا عذابَ الله، ونبتعِد عن كلِّ سببٍ يوقعنا في عذابِ الله، نحصِّن أنفسَنا بوحيِ الله؛ ليسلَمَ لنا ديننا، ويبقَى لنا معتقدُنا السّليم، وتَسلَم أخلاقنا من الفسادِ والانحلال، ويسعدَ مجتمعُنا بأمنٍ فكريّ غير ملوَّث بآراء البِدَع والضّلالات والأفكارِ المناوئة للإسلام.
عبد الله: نَفسُك أمانةٌ عندك، فأنت إمّا أن تسعَى في تزكيَتِها وتطهيرِها والسّموِّ بها إلى الكمالِ، وإمّا أن تسعى في إذلالِها وإهانَتِها، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10]، وفي الحديثِ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « » (صحيح الترمذي).
أيّها المسلمون: إنّ هناك وسائلَ للشّرّ قد تكاثرَت وتعدَّدت وتنوَّعَت الأساليب، وكلُّها تهدِف إلى هدفٍ واحد زعزعةِ عقيدةِ المسلم قبل كلِّ شيء، إضعافِ الإيمان في قلبه، وتشكيكه في ثوابتِ دينه، وقِيَم إسلامِه وأخلاقه، والبُعد به عن الفَضائلِ، وتهوين الرذائل، والسَّعي في مَسخ الفِطَر والقِيَم والأخلاقِ الكريمة.
عباد الله: إنَّ العالَمَ يشاهِد اليومَ نهضةٌ إعلاميّة عظيمة، تمثَّلت في قنواتٍ فضائيّة متعدِّدة مختلِفة الاتِّجاهات، فما بين قنواتٍ أخذت على عاتِقِها حَربَ العقيدة محارَبَة العقيدةِ السليمة والطَّعن فيها وتَشكِيك المسلم فيها، وما بين قنواتٍ فضائيّة أخذت على عاتقِها تدميرَ قِيَم الأمة وأخلاقها، وما بين قنواتٍ فضائيّة اتَّخذت مسارًا آخَر لتفكيك الأمّة والطعن في بعضها البعض ومحاولَة إيجاد البغضاء بين الشعوبِ الإسلاميّة.
أيّها المسلمون: إن للإعلامِ دورُه الفعّال في توجيه الفِكر ورَسمِ الطّريق للإنسانِ، لكن ليتَّقِ المسلم ربَّه وليحصِّن نفسَه وأهله بشرع الله؛ ليكونَ ذلك حاجزًا بينَه وبين التأثُّر بهذا الإعلامِ الجائِر الباطِل، وما ذاك إلاّ بالإعراضِ عن كثيرٍ من قنواتِه، وأن يتأمَّلَ قبلَ أن يشاهِدَ وينظُر: ماذا تحمِله تلك القنوات؟ وما هي أفكارُهم وآراؤهم؟ ومَن هم القائِمون عليها؟ وما أهدافُهم ممّا ينشرون ويعلِنون؟ فإن يكن ذا رأيٍ سديد وإيمانٍ صادق اتَّقى الله في نفسِه وأهله فاعرض عن كلِّ باطل.
أيّها المسلمون: لنَقِ أنفسَنا وأهلينا من عذابَ الله، ليكن عندنا فرقٌ بين ما ينشَر ويعلَن، وتمييزٌ صادِق لنستبينَ ما هو الإعلام النافِع من الإعلام الضارّ، فما كلُّ إعلامٍ نافع، فكم من إعلامٍ هو حَرب على الإسلامِ وأهلِه، وكم مِن إعلامٍ حربٌ على الفضائل، وكم من إعلامٍ مروِّج للدِّعايات المضلِّلة والأفكار المنحرِفة والأخلاق السّافلة، فإن يكن لدَيك تمييز لهذا استَطعتَ بتوفيقٍ منَ الله أن تنجوَ من تأثير هذه القنواتِ الضّالّة، وتميِّز بين إعلامٍ صادق أريد به خيرًا وبَين إعلامٍ هابِط أرادَ به أهلُه شرًّا، لنحصِّن أبناءَنا ذكورًا وإناثًا بوحيِ الله، ولنُحذِّرهم من الانخداعِ والاغترار بما يُنشَر في تلكم القنواتِ، ولنبيِّن لهم أخطارَها وأضرارَها ومفاسِدها، ونصوِّر حقيقةَ الأمر، فتلك قنواتٌ خرجَت عن السّيطرَة، لكن لا يحصِّن المسلمين إلا وَحيُ الله والتّمسُّك بدينه وتوضيح الحقِّ من الباطل ليكونَ المسلم على بيِّنةٍ مِن أمره.
فعلينَا أن نثقِّفَ أبناءنا وبناتِنا، وأن نوجِّهَهم لأيِّ قناةٍ فيها خير، ونحذِّرهم من تلكم القنواتِ الفضائيّة المنحرفة، ونبيِّن أوجُهَ انحرافها وبعدها عن الهدَى؛ ليسلَمَ أهلنا وتسلم بيوتنا من الانخداع(8).
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا وأهلينا من النار إنك سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين،،،،
________________________
(1) تفسير القرطبي: [18/196].
(2) أخرجه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم: [1160].
(3) راجع: تفسير ابن كثير [3/169].
(4) فيض القدير: [5/257].
(5) آداب الصحبة: [1/119].
(6) رواه البخاري: [853]، ومسلم: [1829].
(7) صفوة الصفوة: [4/437-438].
(8) راجع: مقال للشيخ عبد العزيز آل الشيخ.
- التصنيف: