محرِّرة المرأة (أم عُمارة) رضي الله عنها 3/2
لقد كان مصدر البُطُولة هذه المرة امرأة، والمرأة حينما تتخطَّى حواجِزَ أنوثتها؛ لتدخُل بطولةَ الأبطال من الرِّجال، تُعَدُّ بُطُولتها في ميدانهم أكثرَ استلفاتًا، وأشد إثارة للإعجاب. ولو كانت أمُّ عمارة مُجردَ امرأة مُحاربة، لقلت: إنَّ لَها نظائِرَ في التاريخ، فهل تَميزت عنهنَّ أم عمارة؟
المرأة المجاهدة
ونأتي لموقفٍ آخر متوازن في حياة هذه البطلة؛ ليمتَدَّ عطاؤها لنا في إرساء مبادئ وقيم الحرية في مشهد جديد يُجسد قضيةً ساخنة للمرأة، وقد تَمادى أدعياءُ التحرير اليومَ في تلك القضية حتى أعيوا هذا المخلوق الضَّعيف.
وذلك في غزوة أحد فيما ترويه أمُّ سعيد بنت سعد بن الربيع تقول: "دخلتُ عليها، فقلت: حدثيني خَبَركِ يومَ أحد، فقالت: خرجتُ أوَّلَ النهار، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيتُ إلى رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو في أصحابه، والريح والدولة للمسلمين، فلَمَّا انهزم المسلمون، انحزت إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فجعلتُ أُباشِر القتالَ، وأذبُّ عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بالسيف، وأرمي بالقوس، حتى خلصت إليَّ الجراحة، قالت: فرأيت على عاتقها جُرحًا له غور أجوف"؛ (الإصابة، لابن حجر، كتاب النساء، الجزء الثامن، النسخة الإلكترونية مكتبة الإيمان).
لقد كان مصدر البُطُولة هذه المرة امرأة، والمرأة حينما تتخطَّى حواجِزَ أنوثتها؛ لتدخُل بطولةَ الأبطال من الرِّجال، تُعَدُّ بُطُولتها في ميدانهم أكثرَ استلفاتًا، وأشد إثارة للإعجاب.
ولو كانت أمُّ عمارة مُجردَ امرأة مُحاربة، لقلت: إنَّ لَها نظائِرَ في التاريخ، فهل تَميزت عنهنَّ أم عمارة؟
لقد تَميَّزت، فأم عمارة لم تكن مُحاربة محترفة، بل لعل الاشتراك في الحرب لم يَخطَر لها على بال، لقد ذهبت إلى المعركة مجردَ امرأة تَحمل إنسانِيَّتَها وحنوَّها مُمثلَيْن في سِقاء تُسعِف به عطشى المسلمين، وعصائبَ على حَقْوَيْها تَضْمِدُ بِها جراحَ جرحاهم، ولكنَّها عندما رأتِ الهزيمة تأخُذ بأطرافِ الجيش الإسلامي، وينكشف الناس عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حتى لم يبقَ حوله إلاَّ قليل من الرجال، نعم من الرجال، اندفع ها هنا إيمانُها العميق؛ لتدافِعَ عن رَسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم" اهـ؛ أ، عبدالعزيز الرفاعي في كتابه "أم عمارة".
فما برحت أن تذب عنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيما بين ضَربٍ بالسيف، ورَميٍ بالقوس، حتى خلصت إليها الجراح، فما أن تطلع على جراحها إلاَّ وتَجد جُرحًا غائرًا أجوف على عاتقها، إثرَ مجابهة منها لابن قميئة -أقمأه الله- وعلى ما يصفه المسلمون، فقد كان -عدوَّ الله- شديدًا، ورغم ذلك ما فرَّت، ولا رهبته رضي الله عنها.
تقول: "أقبل ابن قميئة، وقد وَلَّى الناسُ عن رسول الله يَصيح: دُلُّوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، فاعترض له مُصعب بن عمير وناس معه، فكنت فيهم، فضربني هذه الضربةَ، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكنَّ عدوَّ الله كان عليه درعان".
المعادلة الصعبة:
حقيقةً أعجِز عن التعقيب بعد هذا المشهد الفاخر الزاخر، نعم، إنَّها امرأةٌ تَملك من حيائها وعِفَّتِها ما إِنْ وُزِّعَ على نساء العصر، لكفاهُنَّ، ولقد أتت للوغى مكفكفة مُمرِّضة، ولم تَخرج عن طبيعتها الأنثوِيَّة، وفي المقابل هي حديثة عهد بجاهلِيَّة غبراء لَم تتركْ من حقوق المرأة شيئًا إلاَّ وأتت عليه.
ولقد كان أول هذه الحقوق المهدرة منح المرأة حريةَ التعبير عن رأيها، هذا فكريًّا، فناهيك عن التعبير عنه جسديًّا، وأين؟ في مَيدانِ الرجال، وتحت قوارع السيوف.
وفي الحقيقة، إنَّ الانبهار لا يحتويني فقط حين أتأمَّل هذا التحوُّل، الذي تكيفت معه الأنصارية أمُّ عمارة -رضي الله عنها- بعد الإسلام؛ حيث كانت الفجوة لا تزال واسِعةً بين مَحو كامل لحقوق المرأة في الجاهلية، ثُم تَمام العدل والإنصاف لها في ظل الإسلام.
لكنه يَحتويني أيضًا في سُرعة استجابتها المعتدلة والمتوازنة لهذه المعادلة الصَّعْبَة، التي أتت هكذا؛ لأنَّها لم تكن عن كَبْتٍ لمشاعِرَ غير سَوِيَّة، ولا بسبب مشاعر حقد أو غَيْرة دفينة تُجاة الجنس الآخر، ولا تَمرُّد مريض تُجاه مُجتمعها؛ بسبب هذا الظُّلم المرير، الذي حِيقَ بالمرأة في الجاهلية.
وحاشاها -رضي الله عنها- وحاشانا أنْ نظُنَّ فيها إلاَّ كل الخير والاحترام.
فتفاعُلها المُتَّزن مع الموقف يُوضِّح لنا الطريقَ الأقوم في مُعالجة مواقف المرأة في المجتمع، فلم تنطلق أمُّ عمارة -رضي الله عنها- إلاَّ مِن مُنطلق العقيدة، ولم يكن وَلاؤها حينها إلاَّ لرب الأرباب.
من هنا نعرف كيف وازنت تلك الصحابِيَّة بين هذا وذاك، فحياؤها لم يزل يُزيِّنُها ويعطرها، لكنه لم يلهها عن سيفٍ في كفها، فكانت تُرى "يَومئذٍ تقاتلُ أشَدَّ القتال، وإنَّها لحاجزة ثوبَها على وسطها، حتى جُرِحَت ثلاثةَ عشر جُرحًا" اهـ؛ "الطبقات الكبرى"، النسخة الإلكترونية، مكتبة الإيمان.
وما كل هذا إلاَّ لأنه حِمى الإسلام، والضرورة التي وجدت معها أنَّه لا مَفَرَّ من التصريح بمحامد شجاعتها، وفتية سواعدها، فرمت السقاء ومعه الدواء، والتقطت السيفَ والعصا؛ لتضربَ بِيَدٍ من حديد كُلَّ مَن يتجرأ على شَخصِ الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وذلك كما تروي: "قد رأيتُني وانكشف الناسُ عن رسول الله، فما بَقِيَ إلاَّ في نفير ما يُتِمُّون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذبُّ عنه، والناسُ يَمرُّون به منهزمين، ورآني لا ترسَ معي، فرأى رجلاً مُوَلِّيًا معه ترس، فقال لصاحب الترس: ألقِ ترسَك إلى مَن يقاتل، فألقى ترسه، فأخذته، فجعلت أتترس به عن رَسولِ الله، وإنما فعل بنا الأفاعيلَ أصحابُ الخيل، لو كانوا رَجَّالةً مثلنا، أصبناهم -إن شاء الله- فيقبل رجلٌ على فرس، فضربني وتترَّست له، فلم يصنع سيفُه شيئًا، ووَلَّى، وأضرب عرقوبَ فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يصيح: يا ابنَ أمِّ عُمَارة، أمَّك أمَّك، قالت: فعاونني عليه حتى أَوْرَدته شَعُوب" اهـ؛ المصدر نفسه.
حرية الجهاد، وجهاد من أجل الحرية، فيا لَه من رَوعة الموقف، ويا له من روعة التشريع الرفيق بالمرأة!
وإنَّ رَوعَةَ التشريع أتى في مَوقف النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين أثنى عليها ثَناءً خاصًّا، رُبَّما لا تسمعه منه -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلاَّ في هذا الموقف.
قائلاً لها: "ومَن يُطيق ما تطيقنه يا أمَّ عُمارة؟!".
ثُمَّ يحدّث بذلك فيما بين صَحابته؛ تأسيسًا لذاتِ المبدأ، ونفس التشريع.
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لمقام نسيبة بنت كعب اليومَ خَيْرٌ من مقام فلان وفلان)).
ويُروى عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه قال: "سَمِعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول يومَ أحد: ((ما التفتُّ يَمينًا ولا شمالاً إلاَّ وأنا أراها تقاتل دوني))؛ يعني: أم عمارة.
أخرجه ابن سعد (8/415)، وفي إسناده الواقدي.
وقد ذكره الإمام البخاري في حاشيته في تَرجمةِ أم عمارة الأنصارية شَبيهًا بهذه القصة من وَجه آخر عن عمر، لكن فيه: "فقال بعضُهم: أعطِه صفيةَ بنت أبي عبيد زوج عبدالله بن عمر"، وقال فيه أيضًا: "لقد سَمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما التفت يَمينا ولا شمالاً يومَ أحد إلا وأنا أراها تقاتل دوني))، فهذا يُشعر بأن القصة تعددت؛ صحيح البخاري، باب الجهاد والسير، كتاب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو.
ورَغْمَ هذا الثَّناء نقول: إنَّ أمَّ عمارة تَحولت إلى مُحارِبة في ميادين القتال بمَحضِ إرادتها، ولضرورةٍ دَعتها، ولم يُغرِّر بها أحدٌ؛ كي تُزَجَّ جبرًا في جيوش الرِّجال كمورد بشري حربي، كما يفعل أدعياء التحرير من الإفرنج والقرامطة، وشتان بين حرية الجهاد، والجهاد من أجل أن ترى المرأة نفسها حرة من قيود لباس الحرب، وصفوف القتال، حاملة على عاتقها ما تنوء عن حمله.
فالمساواة التي يُنادون بها تُعَدُّ انتهاكًا صريحًا لحقوق المرأة، وتقويضًا لحريتها، التي منحها إيَّاها الباري.
ويُبيِّن الشيخُ الألباني -رحمه الله- القضيةَ أكثرَ، وأن الأمرَ لا يتعَدَّى ضرورةً واختيارًا حين وَضَّح عِلَّة معارضة حديث أم كبشة لحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- ففي حديث أم كبشة أنَّها قالت: يا رسولَ الله، ائذن لي أنْ أخرجَ مع جيشِ كذا وكذا، قال: « »، قالت: يا نبيَّ الله، إنِّي لا أريد القتال، إنَّما أريد أنْ أداوي الجرحى، وأقوم على المرضى، قال: « » [1].
وعن أنسٍ -رضي الله عنه- أنَّه قال: "لَمَّا كان يوم أحد، انهزمَ الناس عن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: ولقد رأيتُ عائشةَ بنت أبي بكر وأم سليم، وإنَّهما لَمُشَمِّرَتانِ أرى خَدَمَ سُوقِهما تَنْقُزَانِ -وقال غيره: تنقُلان- القِرَب على متونهما، ثُمَّ تفرغانه في أفواهِ القوم، ثم ترجعان فتَملآنِها، ثم تَجيئان، فتفرغانه في أفواهِ القوم"؛ (أخرجه البخاري)، وانظر: جلباب المرأة المسلمة، وله شاهد من حديث عمر -رضي الله عنه-: "إنَّ أمَّ سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسولَ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم كانت تزفر (أي: تحمل) لنا القرب يومَ أحد"؛ (أخرجه البخاري).
فيقول الألباني: "ولا ضرورةَ -عندي- لادِّعاء نسخ هذه الأحاديث ونَحوها، وإنَّما تُحمل على الضرورة أو الحاجة؛ لقِلَّة الرجال، وانشغالهم بمباشرة القتال، وأمَّا تدريبهن على أساليب القتال، وإنزالهن إلى المعركة يقاتلنَ مع الرجال، كما تفعل بعضُ الدُّوَلِ الإسلامية اليوم، فهو بدعة عصرية، وقرمطة شيوعِيَّة، ومُخالفة صريحة لما كان عليه سلفُنا الصالح، وتكليف النِّساء بما لَم يُخلقْنَ له، وتعريض لهن لما لا يليقُ بهن إذا ما وقعن في الأَسْر بَيدِ العدو، والله المستعان"؛ انتهى كلام الألباني -رحمه الله- سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد السادس.
وللحديث بقية - إن شاء الله...
_________________
[1] الراوي: أم كبشة، المحدث: الألباني، المصدر: السلسلة الصحيحة، الصفحة أو الرقم: 6/547، خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح.
رحاب حسّان
- التصنيف:
- المصدر: