الدرر والنفائس في حكم بناء الكنائس
من عجائب هذا الزمان أن نجدَ في بعض بلاد المسلمين مَن يسنُّ القوانين التي تساوي بين الأغلبيَّة المسلمة والأقليَّة الكافرة في حقِّهم في بناء دُور العبادة، فيجعل المساجد التي أمَر الله ببنائها وتعميرها كالكنائس التي جاء الشرْع بهدْمها وإزالتها!
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، خيرِ خَلْق الله أجمعين، وعلى آله وأزواجه وأصحابه الأخيار الطاهرين.
وبعد:
فإنه لا صلاحَ لخلف هذه الأُمَّة إلا بما صلَحَ به أسلافهم، ولا عِزَّة للمسلمين إلاَّ بتمسُّكهم بدينهم، وكما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنَّا كنَّا أذَلَّ قومٍ، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمَهْمَا نَطلب العزَّ بغير ما أعزَّنا الله به، أذَلَّنا الله"[1].
ولذلك وجَب علينا إنْ أردْنا العزَّة والصلاح والنجاة أن نعودَ لكتاب ربِّنا وسُنة رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم بفَهْم السلف من الصحابة والتابعين، ومَن سار على نَهْجهم واتَّبعهم بإحسان، فلا نَخشى في الله كافرًا مُغرضًا، ولا تأخذنا في الله لومة المنافقين، وافتراءات المُرجفين؛ بل نعرض الحقَّ كما أنزَله الله بلا مُداهنة أو مُواربة، ونبلِّغ عن الله حُكْمه وإنْ كَرِه الكافرون.
ومن عجائب هذا الزمان أن نجدَ في بعض بلاد المسلمين مَن يسنُّ القوانين التي تساوي بين الأغلبيَّة المسلمة والأقليَّة الكافرة في حقِّهم في بناء دُور العبادة، فيجعل المساجد التي أمَر الله ببنائها وتعميرها كالكنائس التي جاء الشرْع بهدْمها وإزالتها!
لكنَّ الأعجب من ذلك هو سكوت الكثير من العلماء والدُّعاة عن بيان الحُكم الشرعي في هذا الضلال المبين والظُّلم المهين.
أمَّا الذي لا ينقضي منه العجب، أن تخرجَ بعض الفتاوى التي تؤيِّد مثل هذه القوانين الباطلة الجائرة، وتُعطي الحقَّ المطلق للنصارى في استحداث كنائس جديدة في بلاد المسلمين إذا احتاجوا إلى ذلك!
والحق أنَّ هذا كلام بعيد عن الصواب، مُخالف للحق من وجوه، منها:
أولاً: أن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قد ورَد عنه أنه قال: « »[2].
وقد ذكَر ابن تيميَّة وابن القَيِّم أن اشتراطَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النصارى في شروطه المشهورة ألا يُجَدِّدوا في مدائن الإسلام، ولا فيما حولها كنيسةً ولا صومعة، ولا دَيرًا ولا قِلاَّية، كان امتثالاً من عمر رضي الله عنه لهذا الحديث.
ثانيًا: ما رواه سَمُرة بن جُندَب عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قوله: « »[3].
قال السُّبكي: "والمساكنة إن أُخِذت مُطلَقَة في البلد، يلزم ألاَّ يكون لهم في تلك البلد كنيسةٌ؛ لأنَّ الكنيسة إنما تبقى لهم بالشرط إذا كانوا فيها"[4].
ثالثًا: ما ورَد في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه على نصارى الشام ألاَّ يُجدِّدوا في مدائن الإسلام، ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة، ولا دَيرًا ولا قِلاَّية[5].
قال ابن القَيِّم: "وشُهرة هذه الشروط تُغني عن إسنادها، فإن الأئمة تلقَّوها بالقَبول، وذكَروها في كُتبهم واحتجُّوا بها، ولَم يَزَل ذِكْر الشروط العُمَريَّة على ألْسِنتهم وفي كُتبهم، وقد أنفَذَها بعده الخلفاء، وعَمِلوا بموجبها"[6].
رابعًا: أنه قد نُقِل إجماع العلماء على منْع بناء الكنائس وإحداثها في بلاد المسلمين، وعلى وجوب هدْمها إذا أُحْدِثت.
قال أبو بكر الطرطوشي: "وأما الكنائس، فإنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمَر بهدْم كلِّ كنيسة لَم تكن قبل الإسلام، ومنَع أن تُحَدَّث كنيسة، وأمَر ألاَّ يظهر علية خارجة من كنيسة، ولا يظهر صليبٌ خارج من كنيسة إلاَّ كُسِر على رأْس صاحبه، وكان عُروة بن محمد يَهْدمها بصنعاء، وهذا مذهب علماء المسلمين أجمعين.
وشدَّد في ذلك عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه فأمَر ألاَّ يُترك في دار الإسلام بِيعة ولا كنيسة بحالٍ، قديمة ولا حديثة، وهكذا قال الحسن البصري، قال: من السُّنة أن تُهْدَم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة، ويمنع أهل الذِّمة من بناء ما خَرِب"[7].
وقال السُّبكي: "إنَّ بناء الكنيسة حرام بالإجماع، وكذا ترميمُها، وكذلك قال الفقهاء: لو وصَّى ببناء كنيسة فالوصيَّة باطلة؛ لأنَّ بناء الكنيسة معصية، وكذا ترميمُها، ولا فرْقَ بين أن يكون المُوَصِّي مسلمًا أو كافرًا، وكذا لو وقَف على كنيسة، كان الوقف باطلاً؛ مسلمًا كان الواقف أو كافرًا، فبناؤها وإعادتها وترميمُها معصية؛ مسلمًا كان الفاعل لذلك أو كافرًا، هذا شرْعُ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم"[8].
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء: "أجمع العلماء على تحريم بناء المعابد الكُفريَّة، مثل: الكنائس في بلاد المسلمين، وأنه لا يجوز اجتماع قِبلتين في بلدٍ واحد من بلاد الإسلام، وألاَّ يكون فيها شيء من شعائر الكفار: لا كنائس ولا غيرها، وأجمعوا على وجوب هدْم الكنائس وغيرها من المعابد الكُفريَّة إذا أُحْدِثت في الإسلام، ولا تجوز معارضة وَلِي الأمر في هدْمها، بل تجب طاعته"[9].
وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز: "وقد أجْمَع العلماء رحمهم الله على تحريم بناء الكنائس في البلاد الإسلاميَّة، وعلى وجوب هدْمها إذا أُحْدِثت، وعلى أنَّ بناءَها في الجزيرة العربية، كنجد والحجاز، وبلدان الخليج واليمن، أشدُّ إثمًا وأعظمُ جُرْمًا؛ لأن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أمَر بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، ونَهَى أن يجتمعَ فيها دينان، وتَبِعه أصحابه في ذلك"[10].
خامسًا: اتَّفقَت كلمة المذاهب الفقهيَّة الأربعة في الروايات المنقولة عن أئمَّتهم والمسطورة في كُتبهم على منْع بناء الكنائس والمعابد الشِّركيَّة في بلاد المسلمين؛ قال الشافعي عن أهل الذِّمة: "لا يُحْدِثوا في مصر من أمصار المسلمين كنيسة ولا مجتمعًا لضَلالاتهم، ولا صوت ناقوس، ولا حَمْل خمرٍ، ولا إدخال خنزير"[11].
وقال الإمام أحمد: "وليس لهم أن يُحْدِثوا بِيعة ولا كنيسة لَم تكن، ولا يَضربوا ناقوسًا، ولا يرفعوا صليبًا، ولا يُظهروا خنزيرًا، ولا يرفعوا نارًا، ولا شيئًا مما يجوز لهم فِعْله في دينهم، يُمنعون من ذلك ولا يُتركون"[12].
"وأمَّا الإمام مالك وأصحابه، فقال في (الجواهر): إن كانوا في بلدة بناها المسلمون، فلا يُمكَّنون من بناء كنيسة؛ وكذلك لو مَلَكنا رقبة بلدة من بلادهم قهرًا؛ وليس للإمام أن يقرَّ فيها كنيسة، بل يجب نقْض كنائسهم بها، أمَّا إذا فُتِحَت صُلحًا على أن يسكنوها بخراجٍ، ورقبة الأبنية للمسلمين، وشرَطوا إبقاء كنيسة، جَازَ، وأمَّا إن افتُتِحت على أن تكون رقبة البلد لهم، وعليهم خَراجٌ، ولا تُنْقَض كنائسهم، فذلك لهم، ثم يُمنعون من رمِّها".
قال ابن الماجشون: ويُمنعون من رمِّ كنائسهم القديمة إذا رثَّت، إلاَّ أن يكون ذلك شرطًا في عقْدهم، فيوفَّى لهم، ويُمنعون من الزيادة الظاهرة والباطنة.
ونقَل الشيخ أبو عمر أنهم لا يُمنعون من إصلاح ما وَهَى منها، وإنما مُنِعوا من إصلاح كنيسة فيما بين المسلمين؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: « ».
فلو صُولِحوا على أن يتَّخذوا الكنائس إن شاؤوا، فقال ابن الماجشون: لا يجوز هذا الشرط، ويُمنعون منها إلاَّ في بلدهم الذي لا يَسكنه المسلمون معهم، فلهم ذلك وإن لَم يشترطوه.
قال: وهذا في أهْل الصُّلح، فأمَّا أهل العَنوة، فلا يُترك لهم عند ضرْب الجزية عليهم كنيسة إلاَّ هُدِّمت، ثم لا يُمَكَّنون من إحداث كنيسة بعدُ، وإن كانوا مُعتزلين عن بلاد الإسلام"[13].
وقال ابن خُويز مَندَاد من أئمة المالكية في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40].
"تضمَّنت هذه الآية المنْع من هدْم كنائس أهل الذِّمة، وبيعهم وبيوت نيرانهم، ولا يُتركون أن يُحدثوا ما لَم يكن، ولا يزيدون في البُنيان لا سَعة ولا ارتفاعًا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يُصَلُّوا فيها، ومتى أحْدَثوا زيادة، وجَب نقْضها، ويُنْقَض ما وُجِد في بلاد الحرب من البيَع والكنائس، وإنما لَم يُنْقض ما في بلاد الإسلام لأهل الذِّمة؛ لأنها جرَت مَجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهَدوا عليها في الصيانة، ولا يجوز أن يُمكَّنوا من الزيادة؛ لأن في ذلك إظهار أسباب الكفر"[14].
وأمَّا المذهب الحنفي، فقد جاء موافقًا لقول جماهير العلماء، إلاَّ ما يُعزَى إلى الإمام أبي حنيفة من القول بجواز إحداث الكنائس في القرى خاصة لا في الأمصار، وقد وجَّه السُّبكي في فتواه في منْع ترميم الكنائس قولَ أبي حنيفة، فقال: "لعلَّ أبا حنيفة إنما قال بإحداثها في القرى التي يَتفرَّدون بالسُّكنى فيها على عادتهم في ذلك المكان، وغيره من العلماء يمنعها؛ لأنها في بلاد المسلمين وقَبْضتهم، وإن انفَرَدوا فيها، فهم تحت يَدهم، فلا يُمَكَّنون من إحداث الكنائس؛ لأنها دار الإسلام، ولا يريد أبو حنيفة أنَّ قرية فيها مسلمون فيُمَكَّن أهل الذِّمة من بناء كنيسة فيها، فإنَّ هذه في معنى الأمصار، فتكون محلَّ إجماع"[15].
وما ذكَره السبكي يؤيِّده الزيلعي؛ حيث قال: "والمروي عن أبي حنيفة كان في قرى الكوفة؛ لأن أكثر أهلها أهلُ الذِّمة"[16].
وهو المشهور من مذهب الأحناف في كُتبهم، فقد قال الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: "ليس ينبغي أن يُتْركَ في أرض العرب كنيسة ولا بَيعة ولا بيت نار"[17].
وجاء في كتاب (الهداية): "ولا يجوز إحداث بِيعة ولا كنيسة في دار الإسلام"[18].
وقال الكاساني: "وأما إحداثُ كنيسة أخرى، فيُمْنعون عنه فيما صار مِصرًا من أمصار المسلمين"[19].
وفي شرْح كتاب (السير الكبير): "وتمكينهم من إحداث ذلك أي: الكنائس في موضع صار مُعدًّا لإقامة أعلام الإسلام فيه، كتمكين المسلم من الثَّبات على الشِّرك بعد الرِّدَّة، وذلك لا يجوز بحال"[20].
وجاء في (رد المحتار): "لا يجوز إحداث كنيسة في القرى، ومَن أفتَى بالجواز، فهو مُخطئ، ويُحْجَر عليه".
قوله: "ولو قرية في المُختار" نُقِل تصحيحُه في "الفتح" عن شرْح شمس الأئمة السَّرَخْسي في الإجارات، ثم قال: إنه المختار، وفي الوهْبَانيَّة إنه الصحيح من المذهب الذي عليه المحقِّقون إلى أن قال: فقد عُلِم أنه لا يحلُّ الإفتاء بالإحداث في القرى لأحدٍ من أهل زمامنا بعدما ذكَرنا من التصحيح والاختيار للفتوى، وأخْذ عامَّة المشايخ، ولا يُلتفت إلى فتوى مَن أفتَى بما يُخالف هذا، ولا يحلُّ العمل به ولا الأخْذ بفَتواه، ويُحْجر عليه في الفتوى ويُمنع؛ لأن ذلك منه مجرَّد اتِّباع هوى النفْس وهو حرامٌ؛ لأنه ليس له قوَّة الترجيح لو كان الكلام مطلقًا، فكيف مع وجود النقل بالترجيح والفتوى"[21].
وقال السَّرَخْسي في (المبسوط): "وإنِ استأجَر الذِّميُّ دارًا سنةً بالكوفة بكذا درهمًا من مسلم، فإن اتَّخذ فيها مصلًّى لنفسه دون ا?جماعة، لَم يكن لربِّ الدار أن يمنعَه من ذلك؛ لأنه استحقَّ سُكْناها وهذا من توابع السُّكنى، وإن أرادَ أن يتَّخذ فيها مصلًّى للعامة، ويَضرب فيها بالناقوس، فلرَبِّ الدار أن يَمنعه من ذلك، وليس ذلك من قِبَل أنه يَملِك الدار، ولكن على سبيل النهي عن المنكر؛ فإنهم يُمنعون من إحداث الكنائس في أمصار المسلمين، فلكلِّ مسلم أن يَمنعه من ذلك كما يَمنعه ربُّ الدار"[22].
وخلاصة ما ذكَره العلماء والأئمة في حُكم وجود الكنائس في بلاد المسلمين، هو أنَّ هذه البلاد تنقسم ثلاثة أقسام[23]:
القسم الأول: بلاد أنشأها المسلمون في الإسلام، وهذه يَحرم إحداث الكنائس فيها بالاتِّفاق، أمَّا الكنائس الموجودة بالفعل، فعلى نوعين:
1- أن تُحْدَث الكنائس بعد تمصير المسلمين لهذا البلد، وهذه تُزال اتِّفاقًا.
2- أن تكون موجودة بفَلاة من الأرض، ثم يُمصِّر المسلمون حولها المصرَ، فهذه لا تُزال، إلاَّ إن وقَعت تلك الأرض تحت سلطان المسلمين، فيكون في إزالتها خلافٌ.
القسم الثاني: بلاد أُنْشِئت قبل الإسلام، فافْتَتَحها المسلمون عَنْوة، ومَلَكوا أرْضَها وساكنيها، وهذه لا يجوز أن يُحْدَث فيها شيءٌ من البِيَع والكنائس، وأمَّا ما كان من ذلك قبل الفتح، ففيه قولان:
الأول: تجب إزالته، وتَحرُم تبقيتُه؛ لأن البلاد قد صارَت مِلكًا للمسلمين، فلم يَجُز أن يقرَّ فيها أمكنة شعار الكفر، وهو الأقرب للأدلَّة.
القول الثاني: أنَّ الإمام يفعل في ذلك ما هو الأصلح للمسلمين، فإن كان أخْذها منهم أو إزالتها هو المصلحة لكثرة الكنائس أو حاجة المسلمين إلى بعضها، وقلة أهل الذِّمة فله أخْذها أو إزالتُها بحسب المصلحة، وإن كان ترْكُها أصلحَ لكثرتهم وحاجتهم إليها، وغِنى المسلمين عنها ترَكَها.
وهذا التَّرْك تمكين لهم من الانتفاع بها، لا تَمليك لهم إيَّاها، فإنها قد صارَت مِلكًا للمسلمين، فلا يجوز أن يجعلَها مِلكًا للكفار، وإنما هو انتفاع بحسب المصلحة، وللإمام انتزاعُها متى رأى المصلحة في ذلك.
القسم الثالث: بلاد أُنْشِئت قبل الإسلام، وفتَحها المسلمون صُلحًا، وهذه يكون للنصارى فيها ما صُولِحوا عليه، فإنِ اشترطوا بقاءَ الكنائس أو إحداثها، وصُولِحوا على ذلك، أُقِرُّوا على صُلْحهم.
والأَوْلَى للإمام أن يُصالحهم على ما صالَح عليه عمر رضي الله عنه النصارى، ويَشترط عليهم الشروط المشهورة: ألاَّ يُحدِثوا بِيعة ولا كنيسة، ولا صومعة راهب، ولا قلاية.
وأحبُّ أن أختمَ أقوال العلماء بذِكر اثنتين من الفتاوى المعاصرة:
الأولى من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بلاد الحجاز، والثانية من فتاوى لجنة الفتوى بالجامع الأزهر.
فقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ردًّا على سؤال حول بناء الكنائس ما نصُّه:
"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبيَّ بعده.
وبعد:
فقد اطَّلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورَد إلى سماحة المفتي العام من عدد من المستفتين المقيَّدة استفتاءاتُهم في الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم [86]، وتاريخ 5/1/1421 هـ، ورقْم [1326-1327- 1328]، وتاريخ 2/3/1421 هـ، بشأن حُكم بناء المعابد الكفريَّة في جزيرة العرب، مثل: بناء الكنائس للنصارى، والمعابد لليهود وغيرهم من الكفرة، أو أن يُخصِّص صاحب شركة أو مؤسَّسة مكانًا للعمالة الكافرة لديه، يؤدُّون فيه عباداتهم الكفرية... إلخ.
وبعد دراسة اللجنة لهذه الاستفتاءات أجابَت بما يلي:
كلُّ دين غير دين الإسلام فهو كُفْر وضلال، وكل مكان يعدُّ للعبادة على غير دين الإسلام، فهو بيت كُفر وضلال؛ إذ لا تجوز عبادة الله إلا بما شرَع الله سبحانه في الإسلام، وشريعة الإسلام خاتمة الشرائع، عامَّة للثَّقَلين: الجن والإنس، وناسخة لِما قبلها، وهذا مُجمع عليه بحمد الله تعالى.
ومَن زعَم أنَّ اليهود على حقٍّ، أو النصارى على حقٍّ؛ سواء كان منهم أم من غيرهم، فهو مكذِّب لكتاب الله تعالى وسُنة رسوله محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وإجماع الأُمَّة، وهو مُرتد عن الإسلام إنْ كان يدَّعي الإسلام بعد إقامة الحُجة عليه إنْ كان مثله ممن يَخفى عليه ذلك؛ قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ من الآية:28]، وقال عز شأنه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف من الآية:158]، وقال سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]، وقال جل وعلا: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران من الآية:85]، وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6]، وثبَت في الصحيحين وغيرهما أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: « ».
ولهذا صارَ من ضروريَّات الدِّين تحريم الكفر الذي يقتضي تحريم التعبُّد لله على خلاف ما جاء في شريعة الإسلام، ومنه تحريم بناء معابد وَفْق شرائع منسوخة يهوديَّة أو نصرانيَّة أو غيرهما؛ لأن تلك المعابد سواء كانتْ كنيسة أم غيرها تُعتبر معابدَ كُفريَّة؛ لأنَّ العبادات التي تُؤدَّى فيها على خلاف شريعة الإسلام الناسخة لجميع الشرائع قبلها والمُبطلة لها، والله تعالى يقول عن الكفار وأعمالهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23].
ولهذا أجمَع العلماء على تحريم بناء المعابد الكفريَّة، مثل: الكنائس في بلاد المسلمين، وأنه لا يجوز اجتماع قِبلتين في بلدٍ واحد من بلاد الإسلام، وألاَّ يكون فيها شيءٌ من شعائر الكفار: لا كنائس ولا غيرها، وأجمَعوا على وجوب هدْم الكنائس وغيرها من المعابد الكفريَّة إذا أُحْدِثت في الإسلام، ولا تجوز معارضة وَلِي الأمر في هدْمها، بل تجب طاعته.
وأجمَع العلماء رحمهم الله تعالى على أن بناء المعابد الكفريَّة ومنها الكنائس في جزيرة العرب أشدُّ إثمًا وأعظمُ جُرْمًا؛ للأحاديث الصحيحة الصريحة بخصوص النهي عن اجتماع دينين في جزيرة العرب، منها: قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: « » (رواه الإمام مالك وغيره، وأصْلُه في الصحيحين).
فجزيرة العرب حَرَمُ الإسلام وقاعدته التي لا يجوز السماح أو الإذن لكافر باختراقها، ولا التجنُّس بجنسيَّتها، ولا التملُّك فيها، فضلاً عن إقامة كنيسة فيها لعُبَّاد الصليب، فلا يجتمع فيها دينان إلاَّ دينًا واحدًا هو دين الإسلام، الذي بَعَثَ الله به نبيَّه ورسوله محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم ولا يكون فيها قِبلتان إلاَّ قبلة واحدة هي قِبلة المسلمين إلى البيت العتيق، والحمد لله الذي وفَّق وُلاة أمر هذه البلاد إلى صدِّ هذه المعابد الكفريَّة عن هذه الأرض الإسلامية الطاهرة.
وإلى الله المشتكى مما جلَبه أعداء الإسلام من المعابد الكفريَّة من الكنائس وغيرها في كثيرٍ من بلاد المسلمين؛ نسألُ الله أن يحفظَ الإسلام من كيْدهم ومَكْرهم.
وبهذا يُعلَم أنَّ السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية، مثل: الكنائس، أو تخصيص مكانٍ لها في أيِّ بلدٍ من بلاد الإسلام، من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره، والله عز شأنه يقول: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى: "مَن اعتَقد أنَّ الكنائس بيوت الله، وأنَّ الله يُعبَد فيها، أو أنَّ ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة لرسوله، أو أنه يحبُّ ذلك أو يَرضاه، أو أعانَهم على فتْحها وإقامة دينهم، وأنَّ ذلك قُربة أو طاعة، فهو كافر".
وقال أيضًا: "مَن اعتقَد أنَّ زيارة أهل الذِّمة في كنائسهم قُربة إلى الله، فهو مُرتدٌّ، وإنْ جَهِل أن ذلك محرَّم، عُرِّف ذلك، فإنْ أصرَّ، صار مُرتدًّا"؛ انتهى.
عائذين بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهداية، وليحذَر المسلم أن يكون له نصيبٌ من قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ . فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:25-28]، وبالله التوفيق.
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ وآله وصحْبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
الرئيس: عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ.
عضو: عبدالله بن عبدالرحمن الغديان.
عضو: بكر بن عبدالله أبو زيد.
عضو: صالح بن فوزان الفوزان[24].
وورَد السؤال التالي للجنة الفتوى بالجامع الأزهر: ما حُكم الدِّين في بناء بيوت العبادة لغير المسلمين في بلاد الإسلام؟
فكان نصُّ الجواب:
روى أحمد وأبو داود عن ابن عباس عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: « »؛ قال الشوكاني (نيل الأوطار، ج [8] ص [64]): "سكَت عنه أبو داود، ورجال إسناده موثَّقون"، وقال المنذري: "أخرجه الترمذي، وذكَر أنه مُرسل، لكن له شواهدُ كثيرة".
قال صاحب (المنتقى9 بعد إيراد هذا الحديث: "وقد احْتُجَّ به على سقوط الجِزية بالإسلام، وعلى المنْع من إحداث بِيعة أو كنيسة".
وروى ابن عَدِي عن عمر بن الخطاب عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تُبنى كنيسة في الإسلام، ولا يُجَدَّد ما خَرِب منها».
وروى البيهقي عن ابن عباس قال: "كل مِصرٍ مصَّره المسلمون لا تُبنى فيه بِيعة ولا كنيسة، ولا يُضْرَب فيه ناقوس، ولا يُباع فيه لحمٌ خنزير"، وهو ضعيف.
أخرَج البيهقي كتَب إلينا عمر: "أدِّبوا الخيل، ولا يُرفع بين ظهرانيكم الصليب، ولا تجاوركم الخنازير"، وسنده ضعيف.
جاء في كتاب (الإقناع)؛ للخطيب وحاشية عوض عليه (ج 2، ص [265-266]) في فقه الشافعية: "أنه يُمنع أهل الذِّمة من إحداث كنيسة وبِيعة وصومعة للرُّهبان في بلدٍ أحدثناه كبغداد والقاهرة المسمَّاة بمصر الآن أو أسْلَم أهله عليه، كالمدينة الشريفة واليمن؛ لِمَا رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: « »، ولأنَّ إحداث ذلك معصية، فلا يجوز في دار الإسلام، فإن بَنَوا ذلك هُدِم؛ سواء شُرِط عليهم، أم لا".
ولا يُحدثون ذلك في بلدة فُتِحت عَنْوة كمصر، وهي مصر القديمة، وأصبهان؛ لأنَّ المسلمين مَلَكوها بالاستيلاء، فيمتنع جعْلُها كنيسة، وكما لا يجوز إحداثُها، لا تجوز إعادتها إذا انْهَدَمت، ولا يُقرّون على كنيسة كانت فيه أي فيما فُتِح عَنْوة لِمَا مَرَّ.
ولو فتحْنا البلد صُلحًا كبيت المقدس، بشرْط كون الأرض لنا، وشرط إسكانهم فيها بخَراج أو إبقاء الكنائس أو إحداثها، جَاز؛ لأنه إذا جَاز الصُّلح على أنَّ كلَّ البلد لهم، فعلى بعضه أَوْلَى، فلو أُطْلِق الصُّلح، ولَم يُذْكر فيه إبقاءُ الكنائس ولا عدمه، فالأصحُّ المنْع من إبقائها، فيُهْدَم ما فيها من الكنائس؛ لأن إطلاق اللفظ يقتضي صيرورة جميع البلد لنا، أو بشرْط الأرض لهم، ويؤدُّون خَراجها، قررت كنائسهم؛ لأنها مِلكهم، ولهم الإحداث في الأصحِّ.
وجاء في تفسير القرطبي (ج [12] ص [70]) وهو مالكي المذهب في المسألة الخامسة، قال ابن خُويز مَندَاد: "تضمَّنت هذه الآية وهى آية: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] المنْعَ من هدْم كنائس أهل الذِّمة وبِيعهم، وبيوت نيرانهم، ولا يُتركون أن يُحْدثوا ما لَم يكن، ولا يَزيدون في البُنيان لا سَعة ولا ارتفاعًا ولا ينبغي للمسلمين أن يَدخلوها ولا يُصَلُّوا فيها، ومتى أحْدَثوا زيادة، وَجَب نقضُها، ويُنْقَض ما وُجِد في بلاد الحرب من البِيَع والكنائس، وإنما لَم ينقض ما في بلاد الإسلام لأهل الذِّمة؛ لأنها جَرَت مَجرى بيوتهم وأموالهم التي عاهَدوا عليها في الصيانة، ولا يجوز أن يُمَكَّنوا من الزيادة؛ لأن في ذلك إظهارَ أسباب الكفر".
وجاء في كتاب (المغني. ج [1] ص [609])؛ لابن قدامة الحنبلي: في أقسام أمصار المسلمين الثلاثة:
أحدها: ما مصَّره المسلمون، كالبصرة والكوفة، وبغداد وواسط، فلا يجوز فيه إحداثُ كنيسة ولا بِيعة، ولا مُجتمع لصلاتهم، ولا يجوز صُلحهم على ذلك؛ بدليل ما رواه أحمد عن ابن عبَّاس: "أيُّما مصْرٍ مصَّرتْه العرب، فليس للعَجم أن يَبنوا فيه بيعة، ولا يَضربوا فيه ناقوسًا، ولا يَشربوا فيه خمرًا، ولا يَتَّخذوا فيه خنزيرًا، وما وُجِد في هذه البلاد من البِيَع والكنائس، مثل: كنيسة الروم في بغداد، فهذه كانت في قرى أهل الذِّمة، فأُقِرَّت على ما كانتْ عليه.
والقسم الثاني: ما فتَحه المسلمون عَنْوة، فلا يجوز إحداث شيء من ذلك فيه؛ لأنها صارَت مِلكًا للمسلمين، وما كان فيه من ذلك، ففيه وجهان: أحدهما: يجب هدْمه وتَحرُم تبقيتُه.
الثاني: يجوز؛ لأن حديث ابن عباس يقول: "أيُّما مصْرٍ مصَّرتْه العَجَم، ففتَحه الله على العرب، فنَزَلُوه، فإنَّ للعجم ما في عهدهم، ولأنَّ الصحابة فتحُوا كثيرًا من البلاد عَنْوة، فلم يَهْدموا شيًئا من الكنائس، ويَشهد لصحة هذا وجودُ الكنائس والبِيَع في البلاد التي فُتِحت عَنْوة، ومعلوم أنها ما أُحْدِثت، فيَلزم أن تكون موجودة، فأُبْقِيَت.
وقد كتَب عمر بن عبدالعزيز إلى عُمَّاله ألاَّ يَهْدموا بيعة ولا كنيسة، ولا بيت نار، ولأن الإجماع قد حصَل على ذلك، فإنها موجودة في بلد المسلمين من غير نكيرٍ.
الثالث: ما فُتِح صلحًا، وهو نوعان:
أحدهما: أن يُصالحهم على أنَّ الأرض لهم، ولنا الخَراج عنها، فلَهُم إحداث ما يحتاجون فيها؛ لأنَّ الدار لهم.
الثاني: أن يُصالحهم على أنَّ الدار للمسلمين ويؤدُّون الجِزية إلينا، فالحُكم في البِيَع والكنائس على ما يقعُ عليه الصُّلح معهم، من إحداث ذلك وعمارته؛ لأنه إذا جازَ أن يقعَ الصُّلح معهم على أنَّ الكلَّ لهم، جَاز أن يُصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم، ويكون موضِع الكنائس والبيع معنا، والأَوْلَى أن يُصالحهم على ما صالَحهم عليه عمر رضي الله عنه ويَشترط عليهم الشروطَ المذكورة في كتاب عبدالرحمن بن غنم: "ألاَّ يُحِدثوا بِيعة ولا كنيسة، ولا صومعة راهب، ولا قلاية".
وإن وقَع الصلح مُطلقًا من غير شرط، حُمِل على ما وقَع عليه صُلْح عمر، وأخَذوا بشروطه؛ فأمَّا الذين صالَحهم عمر وعقَد معهم الذِّمة، فهم على ما في كتاب عبدالرحمن بن غنم مأخوذون بشروطه كلها، وما وُجِد في بلاد المسلمين من الكنائس والبِيَع، فهي على ما كانت عليه في زمن فاتِحيها ومَن بعدهم، وكل موضع قلنا يجوز إقرارُها، لَم يَجُز هدْمُها، ولهم رَمُّ ما تشعَّث منها وإصلاحها؛ لأنَّ المنع من ذلك يُفضي إلى خَرابها وذَهابها، فجرى مجرى هدْمها، وإن وقَعَت كلها لَم يَجُز بناؤها، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، وعن أحمد أنه يجوز، وهو قول أبي حنيفة والشافعي؛ لأنه بناء لِمَا اسْتَهَدَم فأشْبه بناء بعضها إذا انْهَدَم ورَمِّ شَعثِها، ولأنَّ استدامتها جائزة، وبناؤها كاستدامتها، وحمَل الخلاَّل قول أحمد: لهم أن يَبنوا ما انْهَدَم منها؛ أي: إذا انهدَم بعضها، ومنَعه من بناء ما انْهَدَم، على ما إذا انْهَدَمت كلها، فجَمَع بين الروايتَيْن.
4- وجاء في كتاب (تبيين الحقائق شرح كنز) الدقائق؛ للزيلعي ج [3] ص [279])": "ولا تُحْدَث بيعة ولا كنيسة في دارنا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: « »، والمراد بالنهي عن الكنيسة إحداثُها؛ أي: لا تُحْدَث في دار الإسلام كنيسة في موضع لَم تكن فيه، ويُعاد المُنهدم من الكنائس والبِيَع القديمة؛ لأنه جرى التوارُث من لَدُن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى يومنا هذا بترْك الكنائس في أمصار المسلمين، ولا يقوم البناء دائمًا، فكان دليلاً على جواز الإعادة، ولأن الإمام لَمَّا أقرَّهم، عَهِد إليهم الإعادة؛ لأن الأبنية لا تَبقى دائمًا، ولا يُمَكَّنون من فعْلها في موضع آخر؛ لأنه إحداثٌ في ذلك الموضع حقيقة، وهذا في الأمصار دون القرى؛ لأن الأمصار هي التي تُقام فيها شعائر الإسلام، فلا يُعارَض بإظهار ما يُخالفها؛ ولهذا يُمنَعون من بيْع الخمر والخنازير، وضرْب الناقوس خارج الكنيسة في الأمصار؛ لِما قلنا، ولا يُمنعون من ذلك في قرية لا تُقام فيها الجُمَع والحدود وإن كان فيها عددٌ كثير؛ لأن شعائر الإسلام فيها غير ظاهرة، وقيل: يُمنعون في كلِّ موضعٍ لَم تَشِعْ فيه شعائرهم؛ لأن في القرى بعض الشعائر، فلا تُعارَض بإظهار ما يُخالفها من شعائر الكفر، والمروي عن أبي حنيفة كان في قرى الكوفة؛ لأن أكثر أهلها أهلُ الذِّمة، وفي أرض العرب يُمنعون من ذلك كله، ولا يُدخلون فيها الخمر والخنازير.
وفي الهامش لشهاب الدين أحمد الشلبي. ص [280]، قال في الفتاوى الصغرى: "إذا أرادوا إحداثَ البِيَع والكنائس في الأمصار، يُمنعون بالإجماع، وأمَّا في السواد، ذَكَر في العُشر والخَراج أنهم يُمنعون، وفى الإجارات أنهم لا يُمنعون.
واختَلف المشايخ فيه، قال مشايخ بلخ: يُمنع، وقال الفَضْلِيُّ ومشايخ بُخارى: لا يُمنع، وذَكَر السَّرَخْسى في باب إجارة الدُّور والبُيوت من شرْح الإجارات: الأصحُّ عندي أنهم يُمنعون عن ذلك في السَّواد، وذكَر هو في "السير الكبير"، فقال: إن كانت قرية غالِبُ أهلِها أهلُ الذِّمة، لا يُمنعون، وأمَّا القرية التي سَكَنها المسلمون، فاخْتَلَف المشايخ فيها على نحو ما ذكرْنا.
وهل تُهدم البِيَع القديمة في السَّواد؟ على الروايات كلها لا، أمَّا في الأمصار، فذَكَر في الإجارات أنَّها لا تُهدَم البِيَع القديمة بل تُتْرك، وذَكَر في العُشر والخَراج أنها تُهدَم"؛ ا .هـ.
المفتي: الشيخ عطيَّة صقر، رئيس لجنة الفتوى وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر"[25].
ومما سبَق يتبيَّن أنَّ الحق الذي قامَت عليه الأدلة وانعقَد عليه الإجماع، واتَّفَقت عليه كلمة الأئمة قاطبة، هو عدم جواز إحداث كنائس في بلاد المسلمين، وعلى وجوب هدْم ما أُحْدِث منها بعد دخول الإسلام في هذه البلدان، ولا يُستثنى من ذلك إلاَّ ما صُولِح عليه أهل الذِّمة من البلاد التي فُتِحت صُلحًا، فهؤلاء يوفَّى لهم بما صُولِحوا عليه.
وأخيرًا، فقد يتساءل البعض: هل في هذا إجحاف أو ظُلم للنصارى؟
فنقول: إنَّ هذا هو العدل والإنصاف، وهو الأصلح لهم إذا أرْجَعنا ذلك للمعايير الشرعية المنضبطة؛ لأن شرائع الإسلام تعمل على توفير أجواء الهداية للناس كافة، وتطهير الأرض من أجواء الفِتن، فلو تركْنا الكافر يعيش في رغدٍ وراحة، ويُظهر شعائر دينه وكُفره، فهذا أدْعى لاغتراره بهذا الكفر وإصراره عليه؛ ولذلك جاءَت الشريعة بإلزام أهْل الذِّمة بالصَّغار والجِزية، وضيَّقت عليهم في بناء دُور عبادتهم؛ ليكون ذلك سببًا في أن يُراجعوا أنفسهم، وألاَّ يغترُّوا بما هم عليه من الكفر، فإذا رأوا عزَّة الإسلام وأهْله، وذِلَّة الكفر وأهله، كان هذا أدْعى إلى مسارعتهم بدخول الإسلام، وترْك الكفر والشِّرك؛ ولهذا أمَر الله أن يعطي أهل الكتاب الجِزية وهم صاغرون؛ قال الله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
قال إلكيا الهرَّاسي في (أحكام القرآن): إنَّ الجِزية متى أُخِذت على هذا الوجه، كان أقرب إلى ألاَّ يَثبتوا على الكفر؛ لِمَا يتَداخلهم من الأَنَفة والعار، وما كان أقرب إلى الإقلاع عن الكفر، فهو أصلح في الحِكمة وأَوْلَى بوضْع الشرع"[26].
وقال الحطَّاب: "الحِكمة في وضْع الجِزية أنَّ الذُّلَّ الذي يَلحقهم يَحملهم على الدخول في الإسلام، مع ما في مُخالطة المسلمين من الاطِّلاع على محاسن الإسلام"[27].
ومن هنا يتبيَّن أنَّ الظلم الحقيقي للكافر، هو ترْكه يَرتاح سويعات في الدنيا؛ ليلقى الويلات في الآخرة، وألاَّ نَسلك معه الطُّرق التي سنَّها أحكمُ الحاكمين سبحانه لإخراجه من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخرة.
نسألُ الله أن ينوِّر بصائرنا، وأن يُرينا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، وأن يُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وألاَّ يجعل مصيبتنا في ديننا، ولا يَجعل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مَبلغ عِلْمنا، وأن يَستعملنا في خدمة الدين، وأن يُولِّي أمورنا خيارَنا، ويُهيِّئ لنا أمْرَ رشدٍ: يعزُّ فيه أهْلُ طاعته، ويذلُّ فيه أهلُ معصيته، ويُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
وصلَّى الله وسلم وبارَك على عبده ورسوله محمدٍ خير الأنام، وعلى آله وأزواجه وأصحابه، ومَن تَبِعهم بإحسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (أخرجه المنذري في (الترهيب والترغيب [4/35]، وصحَّحه، وقال الألباني في (الصحيحة [1/ 117]: "صحيح على شرْط الشيخين").
[2] (أخرَجه أحمد [1848]، وأبو داود [2655]، والترمذي [574]، قال ابن تيميَّة في (المستدرك على مجموع الفتاوى)، وابن القَيِّم في (أحكام أهل الذمة): "إسناده جيد"، وحسَّنه ابن حجر في (تخريج المشكاة)، وصحَّحه أحمد شاكر).
[3] (أخرجه أبو داود [2405]، وسكَت عنه، وقد قال في رسالته لأهل مكة: "كلُّ ما سكتُّ عنه، فهو صالح"، وحسَّنه السيوطي في )الجامع الصغير)، وصحَّحه الشوكاني في (نيل الأوطار)، وصحَّحه الألباني في (صحيح أبي داود)، وأشار أحمد شاكر في (عُمدة التفسير إلى صحَّته).
[4] فتاوى السبكي [4/ 183].
[5]أورَده ابن تيميَّة في (المستدرك على مجموع الفتاوى)، وقال: "إن إسناده جيد".
[6] أحكام أهل الذمة [1/ 218].
[7] سراج الملوك [1/ 284].
[8] فتاوى السبكي [4/ 174].
[9] فتاوى اللجنة الدائمة، فتوى رقْم [21413]، بتاريخ 1 / 4 / 1421 هـ، وسيأتي نصُّ الفتوى قريبًا.
[10] مقدمة كتاب (حكم بناء الكنائس والمعابد الشركية في بلاد المسلمين)؛ لإسماعيل بن محمد الأنصاري.
[11] (الأم) للشافعي [4/ 218].
[12] أحكام أهل الذمة [1/ 226].
[13] أحكام أهل الذمة [1/ 227].
[14] (تفسير الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي [12/70].
[15] فتاوى السبكي [4/ 202].
[16] (تبيين الحقائق شرْح كَنز الدقائق) للزيلعي [3/279] .
[17] (الفتاوى الهندية في مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان [17/ 23]).
[18] انظر: شرح فتح القدير على الهداية [13/ 193]، ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر [4/ 359].
[19] بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع؛ للكاساني [15/340].
[20] شرح السير الكبير [4/ 237].
[21] رد المحتار على الدُّر المختار؛ لابن عابدين [16/192].
[22] المبسوط؛ للسَّرَخْسي 18/139].
[23] انظر: المغني؛ لابن قدامة [10/609]، وأحكام أهل الذِّمة؛ لابن القيم [1/ 223-230].
[24] فتاوى اللجنة الدائمة، فتوى رقْم [ 21413]، وتاريخ 1 / 4 / 1421 هـ.
[25] فتاوى الأزهر ودار الإفتاء في مائة عام، الموضوع [282] الكنائس، مايو 1997م.
[26] أحكام القرآن 3/ 77].
[27] انظر: الموسوعة الفقهية [15/132].
إيهاب كمال أحمد
- التصنيف:
- المصدر: