حجاج غزّة والهاربون من الموت
ملفات متنوعة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
الحمد لله أن أوجد لأزمة حجاج بيته الغزّاويين الفلسطينين عدداً من العقلاء أعادوا الحجيج وأنهوا الأزمة بانتظار التالي من الأزمات والمناسبات. وكل التقدير لمن عمل على المساعدة والحل بإخلاص ودون صخب أو إثارة لحل هذه القضية الإنسانية بعيداً عن التجارة والمتاجرة بعباد الله على غير العادة، وأخمد نيران حرب وُضِعنا على موعدٍ معها، وأمنياتنا للحجاج الكرام أن يتقبل الله حجهم ويعينهم ويعيننا على القادم من الأيام.
عودة الحجاج إلى غزة كانت حدثاً إعلامياً شغل الساحة قرابة أسبوع ارتفعت فيه وتيرة الخطاب الإعلامي وحرارة بعض الفضائيات، وزادت فيه البكائيات على كرامة الأمة المهدورة وسيادتها المستباحة، والإهانات الموجهة للنظام العربي عموماً والمصري خصوصاً. وسيبقى الحدث متعةً لاينساها الحاجّ ويرتاح إليها كلما رواها للأهل والأصحاب قصصاً معادة عن رحلة المعاناة والتعب، لاسيما منهم ذلك الذي همّ بتكسير السفينة التي حملته عائداً دون أن نعرف منه ذنبها.
مالفت نظرنا حقيقة - مع تفهمنا وتقديرنا لكل ملابسات الموضوع - ضجيج وصخب إعلامي رافق أزمة حجاج غزة افتقدناه في أزمةٍ منسيةٍ مماثلةٍ بل هي أشد وأعمق على البعد الإنساني والأخلاقي وحتى القومي مسكوتٍ عنها فيما نزعم أو أنها لم تنل عشر معشار الأزمة الأخيرة في أحسن أحوالها. لسنا في معرض البحث عن الخفايا والنوايا والتشكيك بوطنية وعروبة وكرامة المعنيين في هذا الموضوع واتهامهم ولكنها فيما نعتقد تساؤلات مشروعة في أمرٍ السكوت عنه وفيه مريب.
فلئن كان عناصر هذه الأزمة الثانية حجاجاً عائدين إلى أهلهم وأحبابهم من بيت الله الحرام فرحين بما آتاهم الله من فضله ورحماته، تغمر قلوبهم مشاعر الأمن والأمان، فإن عناصر الكارثة الأولى آلاف من الفلسطينيين العائدين من ديار القتل والدمار والذبح والترويع هاربين من فرق الموت والتصفية وميليشيات الذبح، غمرت قلوبهم مشاعر الحزن والأسى على من فقدوا من أحبابهم وناسهم، وملأت أجسادهم مشاعر خوف وفزعٍ من هول المشهد وفظاعة الإجرام.
ولئن حلت قضية الحجاج مع كل مارافقها من صخب ثم كانوا بين أهلهم وربعهم يعانقون بعضهم خلال أيام، فإن القضية الأولى -مازالت- مغيبة ومسكوت عنها رغم مضي الكثير من الشهور عليها.
ولئن كان الحجاج الكرام يصرون على العودة من معبر وحيد لاغير يحبهم ويحبونه حرصاً على سيادة، فإن الهاربين بأرواحهم يرجون الدخول من أي معبر ناسين السيادة، ويستجدون المروءات عربيها وأعجميها، وهم ينادُون في كل مخيماتهم وخيام معاناتهم من مخيم التنف حتى الوليد: أنج سعد.. فقد هلك سعيد.
ولئن نالت قضية الحجيج الكثير من جهود المخلصين والمتاجرين ولكل نصيبه في الأجر، فإن القضية الأولى مازالت نسياً منسياً بين وعدٍ قُدّم بحماس وبين عجز الأحرار وسكوت التجار ولكلٍ منهم لاشك نصيبه من الإثم والعار.
كان لعمليات القتل والخطف والإبادة التي مورست وتمارس على الفلسطينيين المهجّرين في العراق ابتداءً من عام 2003 دوراً رئيساً إن لم يكن وحيداً في هروب الآلاف منهم قسرياً باتجاه الدول المجاورة نجاةً بأرواحهم وأهلهم من ممارسات إجرامية تقودها ميليشيات مسلحة وترعاها أطراف استئصالية مختلفة. فأصبح لدينا مخيمات تشرد وتشريد جديدة على حدود تلك الدول، وصار عندنا أسماء جديدة لخيام جديدة من مخيم الكرامة والرويشد إلى مخيم الهول والتنف والوليد في سورية والأردن والعراق. وصرنا نسمع عن مخيم نيقوسيا بالقرب من العاصمة القبرصية تقيم فيه بضع عشرات من العائلات الفلسطينية، ومخيم نيودلهي على مقربة من العاصمة الهندية تقيم فيه قرابة 300 عائلة. كما بتنا نسمع عن هجرات إلى البرازيل والسويد والصين والسودان وغيرها بعد أن ضاقت الأرض العربية على اتساعها بكم ألف من اللاجئين الذين لاحقتهم وتلاحقهم حياة النكبة حتى باتوا على حدود أهل أمة عربية واحدة عالقين، وبرسالتهم الخالدة مستغيثين، وعلى سراب ممانعتهم وصمودهم واردين.
انتهى أمر بعض الفلسطينيين هرباً من فرق الموت إلى مخيم الرويشد 2005 (85 كم داخل الأردن) بعد أن كانوا في مخيم الكرامة في المنطقة العازلة بين العراق والأردن وهو في طريقه إلى الإغلاق بعد أن هاجر أكثر من فيه، بينما انتهى الأمر ببعض العالقين على الحدود العراقية السورية إلى مخيم الهول قرب مدينة الحسكة بمبادرة سورية ووساطة فلسطينية حماسية أثناء زيارة وزير الخارجية الفلسطيني محمود الزهار لسورية في ابريل 2006.
ولكن الاحتفال الذي واكب "هالمناسبة العظيمة" من مايو/أيار 2006 في المخيم، والتصريحات الإعلامية الواسعة الرسمية عموماً ومن المنظمات الفلسطينية المقيمة في سورية خصوصاً، التي رافقت مبادرة النظام السوري والتفاتته الكريمة التي سمحت لقرابة 250 فرداً بالإقامة داخل أسوار مخيم على صحراء الأرض السورية لايستطيعون الخروج منه إلاّ بتصريح خاص، تسببت بطريقة ما مع غيرها من العوامل في نشوء مخيمين جديدين على الحدود السورية في الشمال والجنوب ولكن على الأرض العراقية.
فالاحتفال المهيب والتصريحات عن مخيم فسيح وسيع لأكثر من عشرين ألفاً جعل بعضاً آخر من الهاربين بأرواحهم وفلذات أكبادهم من فرق الموت يعتقدون أن الفرج قد جاءهم، فيمموا وجهوهم شطر الحدود السورية ولكن لا ليدخلوها هذه المرة، وكان أن تجمعوا في مخيم الوليد شمالاً ومخيم التنف جنوباً على بعد مئات الأمتار من بوابة الحدود السورية والذي قارب عدد لاجئيه ألفي نسمة، وليتيقنوا مجدداً بالدليل القاطع والمانع أن ماكان يشبه القول المأثور: "ويحك ياغلام.. سرونا بكلام وسررناهم بكلام".
وبالمناسبة فإن المقيمين في هذه المخيمات الجديدة ليسوا من القادمين من داخل العراق فقط بل بات يأتيهم ضيوف جدد من غيرها بعد أن بدأت السلطات السورية مثلاً في تشرين الأول/أكتوبر 2007م حملة ملاحقة واعتقالات للعشرات من الفلسطينيين المخالفين الذين دخلوا الأراضي السورية قادمين من العراق قبل عام ونصف تقريباً أو أكثر من خلال تأشيرات مرور بدعوى انتهاء تأشيراتهم وإقاماتهم بعد فترة اعتقال وصلت إلى عشرة أيام قبل ترحيلهم وبكامل حريتهم واختيارهم إلى مخيم التنف والوليد أو سفرهم إلى أي جهةٍ يريدونها.
إن حملة الاعتقالات والتسفير ومنع دخول العالقين على الحدود إشكالية مريبة عصية على التفسير، فالسلطات السورية سمحت بدخول مئات الآلاف من اللاجئين العراقيين إليها ولكنها كانت ممانعةً وبإصرار لدخول مئات من الفلسطينيين وإقامتهم، وهي كالعادة ترد بحرصها على حقوق العودة للاجئين الفلسطينيين وخوفها من أن تدفع بهم إقامتهم الدائمة في سورية إلى الاستيطان ونسيان الأوطان، وترفع على الدوام قرارات الجامعة والقمم العربية في هذه الشأن. وهي عند النظام السوري قرارات قرارات، لا تحتمل غير رفض دخول اللاجئين حتى لو كانوا هاربين من الموت، وإقامتهم على أراضيها ولو في صحرائها. بالطبع لانعتقد أن مثل هذا التفسير أرادته القرارات ولا المقررات العربية ولا الشرائع الدينية ولا المدنية لأن الأخطار والأهوال التي يواجهها هؤلاء الناس من أهلنا وناسنا تستوجب تجاوز الأعذار لتدخل في الضرورات التي تبيح المحظورات.
ويأسى الواحد منا في ألا يكون للسلطة الرسمية الفلسطينية تأثير أو دالة على النظام السوري لمعالجة موضوع العالقين على الحدود السورية لأمور ليست خافية، ولكن ماهو غير مفهوم ولامبرر موقف المنظمات الفلسطينية وقياداتها المقيمة في دمشق وسكوتها في هذه المسألة ولاسيما منها الجبهة الشعبية القيادة العامة وحماس التي تعتبر نفسها السلطة الشرعية الفلسطينية هذا من جهة، وهم حلفاء النظام السوري فيما يعرف بخط الصمود والممانعة من جهة أخرى.
قال له: "حرصُنا عليكم وعلى حقوقكم وقضيتكم يستوجب مانفعل صموداً وممانعةً ومجابهةًُ ولاسيما أن هنالك مؤامرة دولية على حقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة".
فأجابه: "حرصكم علينا وعلى قضيتنا ملحوظ وجهدكم مشكور، كما أن حرصكم على حق عودتنا وألا نستوطن بلداً غير فلسطين لأكبر من أن يُقدّر، وخوفكم علينا من ضياع هذه الحقوق أو التفريط فيها في مكانه، ولكن أن نُهجّر بحثاً عن مأوى وعلاج إلى البرازيل والهند والسودان وكندا والسويد والدانمرك وغيرهم بعيداً عن منظمات الجهاد والمجاهدين وبلاد الصامدين والممانعين لهو أثبت في ضياع حقوقنا بعيدين عنكم".
إننا في المغتربات قد نرتاح فتقعد بنا الهمة، ونركن إلى الدنيا الفانية. وقد تتأخر انتصاراتكم وتطول معارككم وأنتم تقارعون أمريكا ومن يشد على يدها، وتصاولون الاستكبار العالمي كله. إننا نخشى مع طول العهد بعيداً عنكم أن نغفل أو ننام بأقدار الله فتضيع علينا حقوقنا.
إن أزمة حجاج بيت الله الغزّيين قدِّر لها أن تُحلّ رغم أن أحد عناصر الأزمة التدخل الإسرائيلي، فماذا عن إخوانهم وناسهم المنسيين في مخيمات الهاربين من ميليشيات الموت والذبح والتي تفتقر لأبسط مقومات الحياة في ظل ظروف بالغة الصعوبة أمناً ومعاشاً حاضراً ومستقبلاً ومعاملةً أقل مافيها افتقادها إلى الشهامة والمروءة والنخوة من الأهل والعشيرة بحججٍ واهية وشعارات أوهى رغم أن عناصر أزمة المنسيين عرب كلهم؟!
إنهم ليسوا حجيجاً بل هاربين من الموت يحفرون في صخر الحياة يومهم يطلبون نجدةً بين استمرار الملاحقة بالقتل والذبح والطرد وبين مشاريع التهجير والتسفير إلى دول أجنبية، وتستمر معاناتهم وآلامهم مع نكبة جديدة تضاف لما قبلها لتتكسر نصال سكاكين فرق الموت السوداء على نصال سكاكين جروح نكبات سبقت تنادي على من باع واشترى وتاجر في قضية حجاج غزة: أين أنتم منا؟
بدر
الدين حسن قربي
المصدر: منقول