والعلم مقاومة أيضًا
لن يعدم محبٌّ مخلص حريص سبيلًا إلى النصرة، والله نَوَّعَ الوسائل لكي لا يبقى لمعتذرٍ حجة، والميدان واسع من أول إنكار القلب والعقل إلى شق التمرة إلى كلمة الحق في وجه السلطان الجائر إلى العلم الذي ينتفع به، فمَن لم يقدر على الأعظم؛ فلا يتركنَّ ما يُوصِّل إليه.
كانت أواخر التسعينات آخر السنوات الخيّرة يوم كان كتاب المدخل إلى القضية الفلسطينية منهجًا دراسيًّا حكوميًّا، يأخذه الطلاب قبل الانتهاء من المرحلة الثانوية والولوج إلى الدراسات العليا، وكان يعضده بعد ذلك مساقات جامعية اختيارية.
وعلى بساطة طرحه وتاريخيته البحتة التي لم تكن تحمل أي رسائل توجيهية إلا أنه أعطى فرشة معرفية لا بأس بها لكثير من الأجيال، وعرفهم بتاريخ القضية والصراع ضمن إطاره العربي، وكون فلسطين قضية الأمة العربية الأولى.
وهو ما افتقدته الأجيال اللاحقة عندما تمت مراجعة المناهج بعد توقيع معاهدات "السلام"، ونزع كل ما يتعلق بالعدو الصهيوني من مناهج التربية الإسلامية أولًا في اختصار وتجاوز مُخِلّ للتاريخ والعقيدة، ثم من مناهج التاريخ، ثم من مناهج اللغة العربية والأناشيد التي تقوم على أفكار الشجاعة والتضحية والمقاومة وحب الأوطان والمقدسات.
كلها تم استثناؤها وكأنَّ واضعي المناهج أرادوا مسح الذاكرة الجمعية للأجيال القادمة، و نجحوا إلى حد كبير في هذه الخيانة الثقافية للأمة، فأصبحت الأجيال ترث الولاء للقضية الفلسطينية وراثةً عائلية محصورةً بأرض وجنسية وحدود مصطنعة، لا يعرف أصحابها سوى أن جذورهم من فلسطين، وأخرجت بذلك فلسطين من سياقها العربي والإسلامي وسياق القدسية الذي يملكه ويطالب به كل العرب والمسلمين على اختلاف بقعهم الجغرافية!!
وفي الوقت الذي كنا نتآمر طواعيةً على إسقاط القضية الفلسطينية من الدراسة المنهجية؛ كانت المؤسسات الأممية تجرِّب على طلابنا فكرة تدريس الهولوكوست في استبدال غير بريء، بل يتسق مع خطط المجتمع الدولي في تشكيل ثقافة ما يسمونه بالتعايش وقبول الآخر!!!
إن التعامل مع دراسة القضية الفلسطينية هو نموذج لتعامل العرب مع دراسة التاريخ والتجارب التراكمية، ولعل الصفعة الأكبر جاءتنا بتصريح موشيه دايان: "إن العرب لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يُطبِّقون، وإذا طبقوا لا يأخذون حذرهم"، و هذا يدلِّل أن دراسة التاريخ في بلادنا ما زالت تصبّ في ثقافة الترف، التي لا تحرك ساكنًا في دارسيها، ولا تُوجِد أثرًا عند تدريسها في المدارس، بل إنَّ حصة التاريخ هي من الحصص المكروهة المملة، والمتعارف عليه أن التاريخ مادة للحفظ والصَّم فقط، يهرب منها كل مَن يمتلك مهارات التفكير وتشغيل الدماغ!
هذا غير أن دراسة التاريخ أو معظم دارسيه بالأحرى؛ لا يتمتعون بنظرة وسطية؛ فهم إما مصابون بنوستالجيا الشوق والهروب إلى الماضي وتمجيد الأسلاف، أو مريضون بجَلْد الذات وكراهية الأجداد وتحميلهم اللائمة على الإرث الثقيل في الحاضر، وما بين توقُّع استمرار اللعنات أو البركات من التاريخ إلى الحاضر؛ تبقى قِلّة قليلة تنظر بموضوعية إلى التاريخ كفَتْرة لها دروسها وقابلية التكرار من عدمه، تعتمد على فهم الدروس والاستفادة منها، فالتاريخ ما مضى ولا انقضى، بل هو دورة متكررة وأطوار مُعادة وأنماط بشرية يمكن التنبوء بها.
إن دراسة التاريخ تغدو أكثر حساسيةً في القضايا المصيرية؛ فهي جزء من المقاومة، فالحرب بداية تقوم على التاريخ ومعارك إثبات الأحقية والملكية والتبعية، ولقد لجأت بعض الشعوب مقابل ذلك إلى الاحتيال وتزوير التاريخ وإخفاء الحقائق والتهويل والمبالغة والخلط بين الدين والتاريخ؛ لإضفاء مزيد من القدسية على الادعاءات.
ومثال ذلك دراسة الهولوكوست وما يحيط به من هالة وحماية قانونية؛ تمنع المساءلة والدراسة البحثية الجادة، وتجرم دوليًّا كل مَن يجرؤ على مجرد التساؤل!!
إن تآمر الحكومات العربية على إسقاط تدريس مناهج القضية الفلسطينية وتصفيتها معرفيًّا وثقافيًّا، وقتل حالة الإجماع والالتفاف حولها؛ يجب أن يواجَه بجهود الأفراد والمؤسسات الأهلية، التي يجب أن تقدِّم البديل لكي تبقى فلسطين حاضرة في الهوية والكينونة العربية، ويبقى صوت الفلسطيني يسمع صداه ملبيًّا من الشام لبغداد، ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان، وفي هذا الصدد يعتبر إنشاء أكاديمية لدراسة القضية الفلسطينية، تحت اسم أكاديمية دراسات اللاجئين www.refugeeacademy.org خطوة عملية لتجاوز الفجوة التي أوجدتها الأنظمة العربية بالتخلي عن مسؤولياتها التعليمية والثقافية تجاه القضية الفلسطينية والأجيال القادمة، ولذا كانت رؤية الأكاديمية ما يلي: "نحو جيل مدرك لحقوقه متمسك بها، ويعمل على استعادتها".
أما أهدافها فهي: "بناء مساحة معلوماتية واسعة لدى الشريحة الأوسع من الناس بشأن قضية العودة واللاجئين، وتأهيل وتدريب متخصصين في دراسات اللاجئين الفلسطينيين، ونشر ثقافة حق العودة وأدبيات ومفردات قضايا اللجوء واللاجئين، وإظهار معاناة اللاجئين الفلسطينيين في أماكن وجودهم، إضافةً إلى نشر وتبني الدراسات الأكاديمية عن اللاجئين الفلسطينيين، وتعميق مبدأ التمسُّك بحق العودة".
وجميع هذه القضايا مصيرية ومفتاحية في فهم السياق العام للقضية الفلسطينية، والإعداد العلمي والنفسي للأجيال يوازي الإعداد البدني أهميةً؛ فقد يذهب البدن و يُصفى الأفراد إلا أن الحفاظ على الذاكرة يحفظ الحقوق، ولا يجعلها تسقط بالتقادم، بل تتوارث جيلًا بعد جيل، والمجاهد العارف العالم خيرٌ من الذي يقاتل عن جهالة، فذلك يؤذي ويسيء إلى قضيته ومبادئه ولا ينفعها.
العلم المُقاوِم كالسلاح المُقاوِم، بل ومقدمة له، والجهاد للتحرير سَنَام المطالب، فمَن عجز عن إدراك الحالة الأمثل؛ فليعمد إلى استكمال المتطلبات والتأهيل الأَوَّلي؛ ليكون جاهزًا عندما تأتي المرحلة الحاسمة، أو يكون من جنود صناعتها وبلوغها، فإن أقدار الله بالنصر مبثوثة في الكون، تنتظر قوم التغيير ليُجرِي اللهُ قدرَه بهم وتغيير حال الأمة.
لقد أوقف أبو بكر الفتوحات العظيمة في العراق، وجَنَّد كل الجيش ليعجل إلى نجدة الشام، وكان فتح قرية من بيت المقدس أحب إليه من عظيم الفتوحات في غيرها؛ لأنه فَهَمَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بيت المقدس البوصلة، وصمام الأمان لحفظ ما تحت قدميه من جذور دولة الإسلام والخلافة في مكة والمدينة وسائر المناطق، بل لقد جاء في بعض الأحاديث أن مقدار حبل الفرس من بيت المقدس أحب من الدنيا وما فيها.
لن يعدم محبٌّ مخلص حريص سبيلًا إلى النصرة، والله نَوَّعَ الوسائل لكي لا يبقى لمعتذرٍ حجة، والميدان واسع من أول إنكار القلب والعقل إلى شق التمرة إلى كلمة الحق في وجه السلطان الجائر إلى العلم الذي ينتفع به، فمَن لم يقدر على الأعظم؛ فلا يتركنَّ ما يُوصِّل إليه.
د/ ديمة طارق طهبوب.
الثلاثاء 11 ربيع الثاني 1435 الموافق 11 فبراير 2014.
- التصنيف: