الكفاح المستمر
ليس في هذه الدنيا منطقة آمنة نلقي فيها مراسينا، ونركن إلى ما بلغناه من تقوى وورع وتماسك خُلُقيّ ونفسيّ، إننا جميعًا واقفون على أرض متأرجحة، وفي منطقة تجاذب بين الصحيح والخاطئ والخيِّر والشرير.
خلق الله تعالى الدنيا دارًا للابتلاء، فوفّر فيها كل شروط: الأغنياء والفقراء، والأذكياء والبلهاء، والشرفاء والوضعاء، والأقوياء والضعفاء...كل واحد من هؤلاء مقيم في وضعيّة اختبار بما آتاه الله من مكنة وبما سلبه من نعمة.
إن على كل واحد منا أن يعمل أفضل ما يمكن عمله في إطار وضعيّته العامة والإمكانات والأدوات التي بين يديه.
كما أن عليه أن يتمتع بروح الممانعة والتأبّي على كل ما يصرفه عن وجهته وهدفه.
ليس في هذه الدنيا منطقة آمنة نلقي فيها مراسينا، ونركن إلى ما بلغناه من تقوى وورع وتماسك خُلُقيّ ونفسيّ، إننا جميعًا واقفون على أرض متأرجحة، وفي منطقة تجاذب بين الصحيح والخاطئ والخيِّر والشرير.
وإن أيّ تراخٍ أو ترهُّل في الحاسة الأخلاقيّة؛ يمكن أن يقذف بأحدنا في محيط الضياع أو الانحراف.
إن كل ساعة تمرّ علينا تشكل تحدّيًا جديدًا، علينا أن نواجهه.
ومن أجل مواجهته، فإننا نحتاج من الله جل وعلا أمرين: الهداية، والمعونة.
وإن سورة الفاتحة التي يُطلب من المسلم أن يقرأها في كل ركعة تشتمل على المعنيين : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5-6]، ولم يلمح هذا المعنى المفسرون الذين قالوا المعنى: ثبّتنا على الصراط المستقيم.
إن الاستقامة على أمر الله تحتاج إلى نوعٍ من الكفاح المستمر والمجاهدة الدائمة، ولاسيما أننا نعيش في ظروف صعبة وحرجة؛ إذ المغريات الكثيرة بالميل ذات اليمين وذات الشمال.
إن المجتمعات الإسلامية باتت متخمة بأولئك الذين يقدمون نماذج سيئة للأجيال الجديدة.
والأكثر إثارة للأسى: أن ما يمكن فعله اليوم من أمور منكرة وشرّيرة دون التعرّض للعقوبة؛ آخذٌ في التنوّع والاتّساع ، وكثرت المعاذير المختلفة: "كل الناس يفعلون هذا"، "نحن مضطرون لأنْ نعطي ضمائرنا إجازة بسبب الضغوط"، "لو كان هذا العمل سيئًا ما فعله فلان"، أو "لما سكت عليه فلان"، أو "ما سمحت به الحكومة"...!!
هناك إلى جانب هذا فيض من الرسائل التي تتدفق من كل اتجاه.
ومضمون تلك الرسائل واحد، وهو أننا نستحق أكثر مما نلنا، وأن هناك وسائل سريعة للحصول على ما نريد، وليس من حقك أن تبحث عن مشروعيّة تلك الوسائل، فالبحث فيها صار قيدًا على الانطلاقة الكبرى التي على كل واحد منا أن ينهض لها!
واضح جدًّا أن ضمائرنا تتعرض لترويض عنيف؛ كي تخفّف من حساسيتها تجاه الطرق غير المشروعة للنجاح والثراء.
إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بلزوم الاستقامة حين قال جل وعلا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:118]. قال ابن عباس رضي الله عنهما:"ما نزل على رسول الله آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية"، ولذلك قال لأصحابه -حين قالوا له: أسرع إليك الشيب-: « » (رواه الترمذي بنحوه عن ابن عباس [3297]، وصححه الألباني).
وهذا منه صلى الله عليه وسلم شعور وإعلام بجوهريّة الاستقامة في حياة المسلم، وكونها أساس الأصالة في الشخصيّة الإسلاميّة.
وقد أثبتت الخبرات العالمية المتراكمة أن الاستقامة هي الشيء الأفضل في العمل، وفي العلاقات الاجتماعيّة، وفي العلاقات الدوليّة، والشيء الأفضل في ضبط المجتمع والسيطرة على الجريمة، ولِمَ لا تكون كذلك وهي في معناها العميق تعني ملازمة الحق والاعتراف به والبناء عليه.
هناك أشخاص لا يُحصَوْن عددًا يملكون الكثير من مقوّمات التقدُّم والنجاح والتفوق، لكن منعهم الانحراف والالتواء من التواصُل مع أعماقهم، في عمق الإنسان المسلم طيبة وسكينة وتحفّز نحو الخير، لكن عدم الاستقامة لدى كثيرين منا يَحُولُ دون الاستفادة من ذلك، وتوظيفه في الحصول على تقدُّم شخصي واجتماعي واضح.
إن المعاصي حين تصبح جزءًا من السلوك اليومي للمرء؛ تشكّل اتجاهه العام على نحو يَحُول بينه وبين تقديره لذاته وثقته بنفسه. كما أنه يفقد المصداقية أو كثيرًا منها في نظر الآخرين، وهذه الأمور كافية لإطفاء جذوة التألّق الروحي والاجتماعي في آن واحد.
إن الاستقامة في دلالتها على أصالة الذات، شيءٌ لا يقبل التجزئة؛ إذ لا يُقبل من المرء أن يكون مستقيمًا إلا قليلًا، أو أن يكون صادقًا في معظم الأحيان، أو أن يكون عفيفًا أمام المال القليل دون المال الكثير، إن الاستقامة -بوصفها الطابع العام للشخصية- شيء شديد الحساسية؛ فهي إما أن تكون وإما ألَّا تكون، وجهادنا اليومي ينبغي أن يصب على صيانتها أولًا وعلى تعميقها ثانيًا.
ولا أجد حرجًا في القول: إننا حتى نكون مستقيمين فعلًا نحتاج إلى أن نكون أكثر تأمُّلًا وأكثر نشاطًا وأكثر تضحيةً مما نحن على استعداد لتقديمه اليوم.
وهذا يعني أن التقدّم على طريق الاستقامة يتطلب نوعًا من التطوير الشامل للذات، وهذا التطوير حتى يصبح حقيقة يحتاج إلى العزيمة، والإصرار على السير في طريق التغيير.
إن السلوك الممتاز يتشكل من مجموعة غير كبيرة من العادات الممتازة، وإن المرء إذا عقد العزم على أن يتخلى في كل سَنَةٍ عن عادة أو عادتين من عاداته السيئة، وإذا فعل ذلك فإنه لن يمضي عليه أكثر من خمس سنوات حتى يجد نفسه وقد تَحَوَّل من زمرة الأشخاص العاديين إلى فئة الأشخاص الجيدين أو الممتازين.
وإني لآمل أن ننظر إلى ضعف الاستقامة على أنه يشكل التربة التي تنبت فيها جذور معظم مشكلاتنا النفسيّة والاجتماعيّة.
وإذا تأمّلنا في الكثير من الصعاب التي نواجهها في الحياة؛ لوجدنا أنها تعود إلى الأخطاء الشخصية المتكررة؛ إذ إن الانحراف سيُلْحِق الأذى بصاحبه في نهاية المطاف بصورة من الصور، إنه طريق يؤدي إلى ممرٍّ خلفي ضيق ومظلم، وذلك الممرّ سيفضي في النهاية إلى ممرٍّ مسدود، ولكن قد نحتاج إلى وقت أطول حتى ندرك ذلك.
بالاستقامة نحرّر أنفسنا من هيمنة الرغبات غير المشروعة، ونحرّر إرادتنا من ربقة العبودية ومن أوهام التفوُّق المكذوب.
بالاستقامة نتخلّص من القلق والاضطراب الداخلي، ونحصل على الانسجام الذاتي من خلال اطمئناننا واعتقادنا بأننا نفعل ما ينبغي علينا أن نفعله.
إن الاستقامة توفّر لصاحبها قدرًا هائلًا من الشعور بالسعادة والقوة، وإن النظام اللغوي سيظلّ قاصرًا عن التعبير عن ذلك.
في عالم كثير التغيّر والتحوّل يكون احتفاظنا بجوهر يستعصي على التغيير شيئًا يعادل بقاء نجم في مداره وقلبًا على نظام حركته.
هل يكون ما خططناه صرخة في وادٍ أو نقطة تحوّل من حقل الأشواك إلى حقول الورود؟
ليس عندي جواب، الجواب عند القارئ.
- التصنيف: